إضاءات في طريق أهل الحسبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية هذا الأمر أهمية بالغة، ففيه تحقيق الولاية بين المؤمنين, قال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71].
ومن هنا فإنه يتوجب على المسلمين جميعاً أن يشمروا عن ساعد الجد في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهمة عالية, انطلاقا من قول الله تبارك وتعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
قال العلامة ابن كثير رحمه الله: “المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(1) (2).
وإن المتأمل لحال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، يجد أنها قصرت في القيام بهذا الواجب العظيم -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر¬- وهذا ينذر بخطر عظيم قد أقبلت الأمة عليه، فعن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(3).
فإذا غابت الصفوة من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الذين ينهضون بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد غاب بغيابهم وجدان الأمة اليقظ, الذي حرص القرآن الكريم أيما حرص على تربيته وصقله وإعداده للدور الإنساني الخالد المتمثل في تكوين أمة تعرف الحق فتأمر به, وتعرف المنكر فتنهى عنه، فتصير بذلك خير أمة أخرجت للناس.
فالأصل في الإنسان المسلم أن يكون ذا همة عالية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذه الصفحات سأذكر إضاءات لأهل الحسبة تعينهم على رفع همتهم في الاحتساب:
– تذكر أخي المحتسب فضل الحسبة والاحتساب، فإذا فعلت ذلك فلا شك أنك ستجد نفسك مبادرًا إلى الاحتساب، وكن ممن مدحهم الله بقوله: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
واعلم أنك باحتسابك تكون من أهل الخير، بنص كلام الله تبارك وتعالى: ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ? [النساء:114].
واعلم إنك بإقامتك شعيرة الاحتساب تكون قد أنقذت نفسك وغيرك من عقوبة الله وسخطه، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا»(4).
ففي هذا الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(5)، وقد قال الله تبارك وتعالى: ?وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [الأنفال:25].
والفتنة: “الابتلاء أو البلاء، والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره, وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة, ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين، جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين، فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع, فضلًا عن أن يروا دين الله لا يتبع, بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها! وهم ساكتون”(6).
– استشعر أخي المحتسب أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أصل عظيم من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها، حتى ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلاَّ عليها، وإنَّما أُرْسِلَت الرسل وأُنْزِلَت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، وللنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله، وشرع الجهاد لأجل ذلك، وإن كان الجهاد قدراً زائداً على مجرد الأمر والنهي؛ إذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، يتوقف قيام الدين، فلولاه ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته, ويتوقف أيضاً قيام الدولة الإسلامية واستقامتها وصلاحها على القيام به، كما أنَّ صلاح العباد متوقف على القيام به, وبيان ذلك: أنَّ جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأمر بالمعروف, والنهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم هو النهي عن المنكر, وجميع الولايات الإسلامية، كولاية الحكم، وولاية الحرب، وولاية المال، وولاية الحسبة.. وغيرها، إنَّما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(7).
– اعمل بما تقوله وطبقه قبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن عمل الآمر بالمعروف واجتنابه عن المنكر ضرورة، ولا يجعل الله تأثيراً ولا قبولاً لمن يخالف قوله فعله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن شعيب: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88]، وهذا يتأكد في الفرائض، قال تبارك وتعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة:44]، فهذا التطبيق يعين المحتسب على المسارعة والمبادرة إلى الاحتساب والتحمس له.
– تذكر حال الأنبياء والصالحين الآمرين وبالمعروف والناهين عن المنكر، والقراءة في قصصهم.
انظر كيف عانى الأنبياء في الاحتساب على أقوامهم، فهذا نوح عليه السلام احتمل الإعراض والاستكبار والاستهزاء ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد، ودرجة الإعراض والإصرار على الباطل ترتفع وتزداد، ونوح عليه السلام لا يفتر ولا يمل عن الاحتساب.
وقد تجلت ملامح البشرية العنيدة في قومه، فوضعوا أصابعهم في آذانهم ضمانًا لعدم تسرب الصوت، وستروا رؤوسهم بالثياب، وهي صورة غليظة للإصرار والعناد، ومع ذلك ظل يدعوهم طيلة تلك العقود.
وانظر إلى احتساب موسى عليه السلام على فرعون وقومه, كيف جعل له مقامًا عليًا عند ربه، قال ابن القيم رحمه الله: “وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه- يقول: انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله، وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه، وربه تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه ويكرمه ويدلله؛ لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر”(8).
وتأمل في سيرة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، كيف تحمل في سبيل احتسابه، روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليًا قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول ذو غديرتين, يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب»(9).
وقد ضرب لنا سلف هذه الأمة أروع الأمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يحتسب على مروان بن الحكم في العيد أمام الناس، ولا يخاف في الله لومة لائم، أخرج الإمام البخاري رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم -والله- خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة»(10).
ولما طعن عمر جاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: “أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله، قد كان لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم الإسلام ما قد علمت، ثم استخلفت، فعدلت، ثم شهادة، قال: يا بن أخي، وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر الرجل إذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا علي الغلام، فقال: يا بن أخي ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك”(11).
وهذا سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، له السيرة الحسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله مواقف عظيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ذلك: “أنه لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، تصدى له سلطان العلماء، فحرم ذلك وحرم بيع السلاح للفرنج، ولم يدعُ للصالح، فاعتقله بعون حاشية الشيطان، ثم سير الصالح إسماعيل بعض خواصه يستلطف الشيخ قائلاً: بيني وبينك أن تعود إلى مناصبك، وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير، وهنا قال سلطان العلماء كلمات استعلاء أهل العلم وعزة العقيدة: والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلًا أن أقبل يده، يا قوم، أنتم في واد وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. ولما كان ملوك الفرنج يسمعون تلاوته، ويرون حاله وعبادته في الحبس قالوا للصالح إسماعيل: لو كان هذا قسيسًا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها”(12).
– النظر والتفكر إلى ثبات أهل الباطل على باطلهم ودعوة الناس إليه.
ألك همة أخي المحتسب في الاحتساب على الناس كهمة أهل الباطل في دعوتهم لباطلهم واحتسابهم على من خالفهم؟
ألا ترى إلى جدية أهل الباطل في باطلهم، والدفاع عنه والاهتمام به؟!، انظر وأبصر إلى همة الشيطان، عندما أمره الله تعالى أن يسجد لآدم عليه السلام أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولما عتا الشيطان عن أمر ربه طرده الله سبحانه، وقال له: ?اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا? [الأعراف:18]، ?فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ? [الأعراف:13].
ثم أخذ عليه نفسه العهد أن يسوق البشر إلى أودية الغواية والضلال: ?قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ? [الأعراف:16-17].
وقال لربه: ?قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً? [الإسراء:62].
بل أقسم على إغوائهم وإضلالهم: ?قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ? [ص:82-83].
وانظر إلى فرعون وكيف حاول فرض وصيته على الناس، وحاول التشنيع بأهل الحق، وإلقاء التهم على الناظر؛ لكي ينفر الناس عن صاحب الحسبة، فقد قام خطيباً يتكلم بلغة المشفق على قومه: ?ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ? [غافر:26].
والدافع إلى هذا القول هو خوفه على قومه من أن يضلهم هذا المحتسب: ?إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ? [غافر:26].
بل قال بتكبر وفخر: ?مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ? [غافر:29].
وهذا نموذج لصبر أهل الباطل على باطلهم، فالنظر في مثل هذه النماذج يزيد المحتسب همة في العمل لهذا الدين، والوقوف ضد كل من تسول له نفسه إلى مخالفة أحكام شريعة الله تبارك وتعالى.
– اترك الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لم يرد شرع بالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكم بالحق والقيام به(13).
وهذا مع الأسف موجود عند كثير من المسلمين، ولا شك أن عدم القيام بما يجب على الإنسان -لا سيما ممن ينتسب إلى العلم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولرسوله، ولأئمة والمسلمين وعامتهم- ضعف كبير.
– ابتعد عن الشبهات, إذا كان أهل الباطل يثيرون الشبهات ويفترون الأكاذيب في وجه رجال الحسبة، فعلى المحتسب أن يبتعد عن موضع الشبهات حتى لا يتعلق المبطلون بها، ويتخذونها دليلًا على افترائهم، وقد دلَّ القرآن الكريم على ضرورة الابتعاد عمَّا قد يتشبث به أهل الباطل في إثارتهم الشبهات في كثير من المواضع، فمن ذلك:
* أن الرسل كانوا يقولون لأقوامهم: لا نريد منكم على دعوتنا مالًا ولا أجرًا؛ لأنَّ أجرنا على الله وحده، قال تعالى عن نوح عليه السلام: ?وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ? [هود:29]، وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ?قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? [سبأ:47].
* قال تعالى: ?وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ? [العنكبوت:48] فقد أبعد الله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن تعلم الكتابة والقراءة دفعًا لما قد يتشبَّث به المبطلون، فيدَّعون أنَّ ما جاء به تعلمه من كتبٍ قديمة قرأها واستنسخها.
ومن هنا نستفيد أن على المحتسب أن يترك بعض ما فيه فائدة لدفع ضرر الشبهة الباطلة؛ لأن تعلم القراءة والكتابة فيهما نفع، ولكن دفع ضرر الشبهة الباطلة أكثر نفعًا، فقُدِّم الدفع على هذا النفع.
فالشبهة إذا أثيرت بين الناس وشاعت فلا بُدَّ أن تترك أثرًا في النفوس، لا سيما الضعيفة والجاهلة والمتربصة، ويصعب عند ذاك مكافحتها والقضاء عليها إلّا بجهد كبير.
فهذه بعض الإضاءات التي ترفع من همة المسلم للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يعني هذا أن يتهور في أمره ونهيه، بل عليه أن يتأدب بآداب المحتسب، من حلم وأناة وصبر ومصابرة، ورفق ولين.. وغيرها من الآداب الإسلامية، وأسوته في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يعين رجال الحسبة لنصرة دين الله وإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.