الأبناء وشعيرة الأمر بالمعروف
لعل مما يلفت النظر في وقتنا الحاضر أن كثيرًا من التربويين والدعاة الكرام يتحدثون كثيرًا عن العديد من القضايا التربوية، ويتطرقون إليها بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة في دروسهم ومواعظهم وأحاديثهم، إلا أنهم ينسون أو يتناسون الإشارة في ذلك كله إلى جانبٍ تربويٍ مهمٍ في حياتنا، ألا وهو الجانب المعني بتربية النشء على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وحتى أولئك الذين يزعمون أنهم خُبراء في تطوير الذات والتنمية البشرية فإنهم قليلاً -إن لم يكن نادرًا- ما يقومون بتنظيم وتنفيذ برامج خاصةٍ بتنمية شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى الصغار من أبناء المجتمع، ولاسيما أن هذا الجانب على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، ويستوجب ضرورة العناية والاهتمام بهذه النوعية من البرامج التربوية التي -لا شك- في ضرورتها وأهميتها، ودورها الفاعل في غرس هذا المبدأ الإيجابي، وتنميته في النفوس؛ حتى يمكن لها أن تتشربه، وأن تعمل به، وأن تُطبقه في واقعها، وتُترجمه في كل جزئيةٍ من جزئيات الحياة.
ومن هنا فإنه ينبغي أن تتم تربية الأولاد على العناية والاهتمام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحترامها، والحرص عليها، على اعتبار أنها تُعَدّ من أهم وأبرز مقومات التربية الإسلامية الشاملة، التي لا يمكن أن تقوم تربية الفرد والمجتمع المسلم دون توافرها قولاً وعملاً، والتي لا بُد من الحرص على أدائها واقعًا تطبيقيًا على النحو الإيجابي الصحيح الذي يقوم في الأصل على مبدأ التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو ما أكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: ?وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? [العصر:1-3].
أما الكيفية التي يمكن أن تتم من خلالها التربية على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليست كيفيةً واحدةً معينة، ولكنها تختلف باختلاف الظروف والحالات، وتتنوع بتنوع الأزمنة والأمكنة، وتتباين بتباين الأسباب والمُسببات، وإن كانت في ذلك كله تعتمد على عنصرين أساسيين، هما: العلم النافع، والعمل الصالح؛ فلا علم بلا عمل، ولا عمل بلا علم.
ولعل خير شعارٍ يُستدل به على تلك الكيفية ما جاء على لسان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، الذي وصف كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عبارةٍ شاملةٍ جامعةٍ شافيةٍ وافيةٍ، قال فيها: “ليكن أمرك بـالمعروف بالمعروف, ونهيك عن المنكر بلا منكر”.
ولعل مما يلفت النظر في هذا الشأن أنه ليس هناك عمرٌ زمنيٌ محددٌ لتربية أبناء المجتمع المسلم على هذه الشعيرة الإسلامية السامية؛ فهي في مراحلها الأولية وصورها المبدئية تبدأ معهم منذ نعومة أظفارهم، وتظل مُستمرةً معهم بشكلٍ مُتدرجٍ؛ فهم يتشربونها شيئًا فشيئًا, حتى تصبح فصلاً ثابتًا في نظام حياتهم وواقعهم الذي يعيشونه، ولاسيما أنها في حقيقتها تُعَدُّ صفةً من الصفات الإيجابية المميزة للإنسان المؤمن الملتزم بتعاليم الدين وتوجيهاته, وهديه القويم في كل شأنٍ من شؤون الحياة، وكل جزئيةٍ من جزئياتها, انطلاقًا من قوله تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:71].
وفيما يأتي إلماحةٌ عن أبرز الانعكاسات التربوية التي يمكن أن تتحقق على شخصية الإنسان المسلم, عندما تتم تربيته منذ بداية نشأته على التمسك بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة عليها في واقع حياته، وهي انعكاساتٌ رئيسةٌ تتمثل فيما يأتي:
الانعكاس الأول: تحقق معنى (الخيرية الإنسانية), التي تجعل من الإنسان خيِّرًا لا شريرًا، ومحبًا للخير وأهله، ومجتنبًا للشر وأهله، سواءً أكان ذلك على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأُمة، وهو ما أخبر الله تعالى عنه في قوله سبحانه: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
وهنا يُلاحَظ قوة ارتباط تحقق مبدأ الخيرية من خلال أداء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بها, انطلاقًا من دائرة الإيمان الحقيقي بالله تعالى.
الانعكاس الثاني: تحقق صفة (الصلاح والإصلاح)؛ إذ إن التربية على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بها على الوجه الأكمل بين أفراد المجتمع تُعَدّ من دلالات الصلاح الاجتماعي, الذي يؤدي إلى الاتصاف بصفات الصالحين، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، وهو ما يؤكده قوله تعالى: ?يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ? [آل عمران:114].
ومتى ما حصل ذلك الصلاح تحقق أحد أبرز أهداف التربية الإسلامية العامة, التي نعلم جميعًا أنها تسعى في مجملها إلى إيجاد الإنسان الصالح المُصلح في كل زمانٍ ومكان.
الانعكاس الثالث: تحقق معنى (التمكين في الأرض)، وما يتبع ذلك التمكين من النصر والعزة والرُقي لمن يتحلى بهذه الشعيرة العظيمة، ويقوم بأدائها، ويتخلق بأخلاقها، ويتأدب بآدابها، ويتمسك بتعاليمها ومقتضياتها في مختلف شؤون حياته الدينية والدنيوية انطلاقًا من قوله تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ? [الحج:41].
فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر حصل له -بإذن الله تعالى- التمكين، وتحققت له العزة في الدين والدنيا، أما إذا لم يُربَّ الإنسان في صغره على احترام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعناية بها في مختلف شؤون الحياة، فلا شك أن حياته ستكون حياةً ضائعةً، ومليئةً بالمشكلات والمنغصات، ولا سيما أن فقدان هذه الشعيرة يؤدي بكل تأكيدٍ إلى فقدان الأمن والأمان، وانعدام الصدق والأمانة، وانتشار الظلم والفساد؛ وبالتالي فإن تربية الإنسان تضطرب ولا تستقر، وحياة المجتمع ترتبك ولا تنتظم، وتفتقر إلى كثيرٍ من المقومات الحياتية التي لا غنى للإنسان عنها في أي زمانٍ وكل مكان.
فيا أيها المربون والدعاة! ليكن لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيبٌ وافرٌ من اهتماماتكم التربوية والدعوية، ولتكن عنايتكم به فعليةً لا قولية، ومنطلقةً من إدراككم حقيقة ما يترتب على وجود هذا المبدأ التربوي من المصالح والمنافع على المستويين الفردي والمجتمعي، وليحرص الجميع على التعامل مع هذا المبدأ التربوي من منظورٍ إيجابيٍ.
والله الهادي إلى سواء السبيل.