الإنكار (معناه، أصل مشروعيته، شروطه، طرائقه)
الحمد لله الذي خلق فأبدع، وأنعم فأكرم، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن من لطف الله وكرمه على هذه الأمة أن أوضح لها طريق الهداية وبين معالم الغواية، لكن القلوب قد تمرض فتتيه عن الحياة المستقيمة، فشرع لها من العلاج ما يناسب حالها.
وتختلف وسائل العلاج باختلاف أنواع الأمراض التي تصاب بها؛ فمنها ما تكفيها الإشارة عن صريح العبارة، ومنها ما تحتاج لنظرة عين عاتبة، أو مشفقة، ومنها ما تحتاج لبيان وإيضاح، وجدال ومناقشة، ومنهم من لا يصلحه إلا السوط، أو السجن، وإن كانت فئة أخرى لا يستراح منها إلا بالسيف، وكل هذا لا يكون إلا وفق ضوابط شرعية حددت منذ أن أتم الله هذا الدين، ومن هذه الأمور ما اختص بفعله ولاة الأمر، ومنها ما هو على عامة الناس أو خاصتهم.
والإنكار من الأمور اللازمة لصلاح المجتمعات, التي لا تخلو من وجود طفيليات يعقن سيره, ويفسدن حاله، فالمبادرة إلى ذلك مهمة لصلاحه وفلاحه.
ولعلي فيما كتبت أن أوضح بعض جوانبه، وأبين بعض غوامضه, والبحث يتكون من أربعة فصول:
الفصل الأول: في معنى الإنكار.
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته.
الفصل الثالث: في شروط الإنكار.
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار.
وأسأل الله تعالى أن يهدينا لأطيب القول, وأن ينفعنا به, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الفصل الأول: في معنى الإنكار:
المنكر في الأمر: خلاف المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، والتنكر: التغير، والنكير: اسم الإنكار الذي معناه التغير.
والنكير والإنكار: تغير المنكر(1).
وأصل الإنكار أن يرد القلب ما لا يتصوره, وذلك ضرب من الجهل.
وقد يستعمل ذلك فيما ينكر باللسان، وسبب الإنكار باللسان الإنكار بالقلب، ولكن ربما ينكر اللسان الشيء وصورته في القلب حاضرة, ويكون في ذلك كاذباً، وعلى هذا قوله تعالى: ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا? [النحل:83].
والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف عن استقباحه العقول فتحكم الشريعة بقبحه، وإلى هذا القصد في قوله تعالى: ?الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:112].
والنكير: الإنكار قال تعالى: ?فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ? [الحـج:44] أي: إنكاري.
والإنكار تغيير المنكر(2).
قال القرطبي: “المنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها”(3).
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته:
إنكار المنكرات المخالفة للشرع من الأمور الواجبة على من قدر على إنكارها يدل عليه ما يلي:
1- قال الله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:110].
2- قال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:71].
ففي هاتين الآيتين دلالة على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لثناء الله تعالى على من اتصف بذلك، والثناء دلالة على طلب الفعل ممن قدر عليه.
3- قال تعالى: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [المائدة:78-79].
ففي هاتين الآيتين وصف لفئة من بني إسرائيل كانت تعمل المعاصي، وتتعدى، ومع هذا كانوا لا يتناهون عن المنكر الذي يفعلونه، فحق عليهم اللعن والذم لذلك الفعل، وهما يستلزمان طلب الترك، لفعل أمر محظور شرعاً، وما كان محظوراً وجب تركه والإنكار على فاعله، مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
4- قال الله تعالى فيما يحكيه سبحانه عن لقمان: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان:17].
قال القرطبي: “يقتضي حضاً على تغيير المنكر، وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغيِّر يؤذى أحياناً، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله”(4).
5- قال تعالى: ?فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ? [الأعراف:165-166].
روى أشهب عن مالك قال: “زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة(5) يلقيها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وَتَدٌ, ويتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرّق الناس حين رأوا من صنع لا يُبْتَلَى، حتى كثر صيد الحوت ومُشِيَ به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت, ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم, فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم, ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنًا، فَعَلَوْا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة(6).
ومن هذا نعلم أن الناهين عن المنكر نجوا من العذاب بنص القرآن، أما الظلمة والعتاة فقرر النص القرآني لهم سوء العاقبة والمآل، مما يدل على وجوب إنكار المنكر وعدم التهاون فيه.
6- عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان»(7).
ففي هذا الحديث دلالة على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه.
قال ابن مسعود: “هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر”.
يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد, فمن لم يعرفه هلك.
وعن العرس بن عميرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها»(8).
لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات(9).
7- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك, ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ثم قال: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ? [المائدة:78] إلى قوله: ?فَاسِقُونَ? [المائدة:81]، ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه(10) على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا»(11).
وفي رواية: «أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم»(12).
ففي هذا الحديث دلالة على وجوب رد الناس إلى الحق وإلزامهم إياه، وحبسهم عليه، ومخالفة ذلك تؤول إلى ضرب القلوب بعضها على بعض، واستحقاق اللعن، وهذا بسبب ارتكاب المعاصي، مما يدل على أن عدم إنكار المنكر معصية، وفعل المعصية حرام.
8- عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر, أو ليوشكنَّ أن يبعث عليكم عقاباً منه, ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»(13).
ففي هذا الحديث: اقترن لفظ الأمر والنهي بلام الأمر الدالة على طلب الفعل، مما يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه: أن من لم يفعل ذلك ليوشك أن ينزل به العقاب, ومن ثم لا يستجاب له دعاء، ولا خلاص من ذلك إلا بالإنكار على العصاة، وما يؤول إلى الواجب فهو واجب، مما يدل على وجوب الإنكار.
9- عن إسماعيل عن قيس قال: «قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105]، قال: وإنا سمعنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب».
وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب»(14).
ففي هذا الحديث وعيد على من لم يغير المنكر، والوعيد لا يكون إلا على ترك واجب، وترك الواجب حرام، مما يدل على وجوب تغيير المنكر.
10- عن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة»(15).
ولأبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا خفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها, وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة»(16).
وفي رواية لأم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، فقلت: يا رسول الله، أما فيهم الصالحون؟ قال: بلى، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس, ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان»(17).
ففي هذه النصوص دلالة على أن المعاصي إذا ظهرت وشاعت ولم تنكر، عم ضررها عامة الناس وخاصتهم، وهذا أمر مشاهد في عصرنا الحاضر، فشيوع الزنا في بعض المجتمعات أدت أضراره إلى إصابة غير الزناة؛ حيث انتقلت أمراضه إليهم عن طريق نقل الدم, أو وسائل النقل الأخرى، وقد تكون العقوبة غير ذلك مما يشاء الله من الأمراض، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون, والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا…»(18).
ففي هذا دلالة على وجود علاقة قوية بين ظهور الفاحشة وإعلانها, وبين الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن مضى، وما مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز إلا دليلاً على تلك العقوبات المذكورة.
11- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت الظالم فقد تودع منهم»(19).
ففي هذا دلالة على أن ترك إنكار المنكرات مهابة من الناس من أسباب حلول العقوبة, مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
12- قال ابن عطية: “الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه, ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه”(20).
وقال النووي: “وأما قوله: «فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافاً للمعتزلة، وأما قول الله عز وجل: ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105] فليس مخالفاً لما ذكرناه؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: ?أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [النجم:38], وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه, فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول, والله أعلم.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية, إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء -رضي الله عنهم-: لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله, ?فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ? [الذاريات:55]… قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه, فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟!”(21).
“وقال حذّاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليماً عن معصية, بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً.
وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً, بدليل قوله تعالى: ?لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ? [المائدة:79], فهذا يقتضي اشتراكهم في الفعل, وذمهم على ترك التناهي”(22).
قال العلماء: “ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات, بل ذلك جائز لآحاد المسلمين, قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين, فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر, مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية”(23).
وفي ضوء ما تقرر فإن إزالة المنكرات لهي من أوجب الواجبات، وأصل الضرورات لصلاح المجتمعات، عندما تشطط عن طريق الهداية، ويختار بعض أفرادها طريق الغواية, فإن تركت المنكرات ولم تنكر فستعث به كما يعث السوس في الصوف والثياب والطعام، وستنخر في الأمة وتضعف حالها، حتى تكون هزيلة رديئة، لا يتحرك لها قوام، ولا ترتفع منها أعناق، بل سترضى من الأمر بالدون، ومن المتع بالرديء, حتى تكون لينة رخوة لا يحمى لها جانب، ولا تصد يد ضارب، تستنجد من الغريب فك الأسر، وحماية الأهل، وأمن الديار، وطرد الأغراب، بل محتاجة منه إلى لقمة هانئة، أو شربة سائغة, لكنها إن أنكرت فقوتها مانعة، وحالها متعافية.
الفصل الثالث: في شروط الإنكار:
لا ينبغي لمن يريد الإنكار أن ينكر على مخالفة إلا إذا تحققت به الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه(24):
ما اختص بعلمه العلماء من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره, بل ذلك للعلماء(25)؛ لأن الجاهل قد يأمر بما ليس بمعروف, وينهى عما ليس بمنكر.
قال تعالى: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي? [يوسف:108].
ففي هذه الآية دلالة على أن الداعي إلى الله لا بد من أن يكون على بصيرة, وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه(26).
والعالم بما يأمر به أو ينهى عنه هو المتمكن من التفريق بين أنواع المخالفات, ودرجة الإنكار اللازم لحال المخالفة؛ لأن من الأفعال ما هو خفي في الحكم, يقول الشوكاني: “على أن طرف الفخذ قد يتسامح بكشفه في مواطن الحرب, ومواقف الخصام”(27).
وعند الحنفية، حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، فلو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق، ولا ينازعه إن لج، وفي الفخذ بعنف ولا يضربه إن لج، وفي السَّوءة يؤدبه على ذلك إن لج(28).
وعند المالكية: إن الفخذ عورة مخففة يجوز كشفها مع الخواص, ولا يجوز مع غيرهم(29).
قلت: ومثل هذه الأمور لا يدركها إلا فقيه بما يأمر به، أو ينهى عنه.
الشرط الثاني: التحقق من وجود المنكر ومعرفة مكانه:
يتحقق ذلك عن طريق الرؤية أو العلم به بتحقق وجوده، فمن سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي وعلم المكان الذي هي فيه فإنه ينكره؛ لأنه قد تحقق وجود المنكر، وعلم موضعه، فهو كمن رآه, نص على ذلك الإمام أحمد وقال: “أما إذا لم يعلم مكانه فلا شيء, أما التفتيش عما استراب به فلا يحل”.
وكذا تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر، روي ذلك عن بعض الأئمة مثل سفيان الثوري، وهو داخل في التجسس المنهي عنه(30).
واستثنى أبو يعلى المنكر الذي به انتهاك حرمة يفوت استدراكها: كالزنا والقتل، فله التجسس، والإقدام والكشف والبحث إن أخبره ثقة، حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه(31).
قال إمام الحرمين: “وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكرٍ غيَّرَهُ جُهْده”(32).
ويجب التثبت من المخالفة المقتضية للإنكار؛ لأن الأصل حسن الظن بالناس. قال عمر -رضي الله عنه-(33): “ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأن تجد لها في الخير محملاً”(34).
وذلك باعتبار أن المخالفة خارجة عن أصل الفطرة الصحيحة، ولأن الأصل حسن الظن بهم لا اتهامهم ما لم يقم دليل على الاتهام, قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ? [الحجرات:12].
ففي هذه الآية نهي عن الظن السيئ الذي لا يرتقي إلى درجة الصدق إنما هو أوهام وشكوك, يقول ابن كثير: “يقول الله تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً, فليجتنب منه احتياطاً”(35).
روى الطبراني بإسناده عن جابر -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ظننتم فلا تحققوا»(36) أي: لا تجعلوا ما قام عندكم من الظن محققاً في نفوسكم، محكمين للظن.
ومعنى هذا: أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم, محفوظة كراماتهم, حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه.
وجاء النهي عن التجسس؛ لأنه جزء من الظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات والاطلاع على السوءات, والناس لا يؤاخذون إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم(37).
والحق تبارك وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات:6].
ففي هذه الآية تأكيد على وضوح مصدر التلقي والابتعاد عن مصادر الأنباء التي تحدث تشويشاً في صفاء المعلومات, وخللاً في وسائل نقلها وفي النتائج المترتبة عليها(38).
الشرط الثالث: أن يحصل بالإنكار المعروف الذي يحبه الله ورسوله:
إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله, وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم, فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: «أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا، ما أقاموا الصلاة»(39).
يقول ابن القيم: “ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل, وعدم الصبر على منكر، فَطُلِب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم, ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر(40)؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه وقوع ما هو أعظم منه”(41).
قال الشنقيطي: “ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب، كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: ?فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى? [الأعلى:9].
وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك, ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيها كالقابض على الجمر, للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم».
وفي لفظ: «قيل: يا رسول الله! أجر خمسين رجل منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم»(42).
فهذه الصفات في الحديث: الشح المطاع، والهوى المتبع.. إلخ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه(43).
وعلى المُنْكِر أن ينظر للمصالح المترتبة على إنكاره، فإذا كان المنكر الذي يريد إنكاره سيخلفه شر منه فيحرم عليه الإنكار.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة, إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله: كالرمي, والسباق المشروع، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك؛ لأن ما هم فيه شاغل لهم عن ذلك, “روي عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر مع بعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معه، فأنكر عليه وقال له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية, وأخذ الأموال, فدعهم”(44).
قال في مراقي السعود:
وارتكب الأخف من ضُرَّيْنِ *** وخيِّرَنْ لدى استوى هذين
والعلماء أجمعوا على ارتكاب أخف الضررين(45).
لهذا يجب على المنكر أن يراعي ارتكاب أخف الضررين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة, فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت, فإنه يجب ترجيح الراجح منها؛ لأن الأمر والنهي وإن كان متضمناً تحصيل مصلحة ودفع مفسدة إلا أنه ينبغي أن ينظر إلى المعارض له, فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
والمعتبر في تقدير مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة, فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم وجود ما هو دونه من المنكر، ومن ثم فلا ينهى عن هذا المنكر حتى لا يفوت المعروف الأعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، أما إن كان المعروف أقل والمنكر أغلب، نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، وإن خالفَ وأمر بهذا المعروف المستلزم لوجود ما هو زائد عليه من المنكر كان آمراً بمنكر وساعياً في معصية الله ورسوله(46).
حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصح القبول بوجه, وهذا قول أكثر العلماء(47).
وهو من المعذرة التي أخبر الله تعالى فيها عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: ?لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ? [الأعراف:164](48).
لكن ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، فعن أبي ثعلبة الخشني: «أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105]؟ قال: سألتَ عنها خبيرًا، أما والله لقد سألتُ عنها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بل ائتمروا بالمعروف, وانهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك, ودع عنك أمر العوام»(49)(50).
والمذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، وإذا كان كذلك فمما كلف به المرء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعل المرء ذلك ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، وهذا يدل على الوجوب, ?وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ? [الذاريات:55] (51).
قال ابن رجب: “وهذا كله يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه”(52).
الشرط الرابع: الرفق في الإنكار:
مما ينبغي للمنكِر أن يتصف به الرفق في إنكاره، حيث يتحقق بالرفق ما لا يتحقق بالعنف، والرفق أقرب إلى حصول المطلوب، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(53).
وفي رواية عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله رفيق يحب الرفق, ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف, وما لا يعطي على ما سواه»(54)(55).
ففي هذا ثناء على من اتصف بالرفق والثناء لا يكون إلا على فعل أمر مطلوب.
وفيه تصريح بذم العنف، والذم لا يكون إلا على فعل منهي عنه, مما يدل على اشتراط الرفق أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: “مهلاً رحمكم الله”.
قال سفيان الثوري: “لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى”.
قال أحمد: “الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة, إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى، فيجب عليه نهيه وإعلانه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة, فهذا لا حرمة له”.
وقال: “يأمر بالرفق والخضوع, فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد أن ينتصر لنفسه”(56).
قال الهيثم بن جميل: “قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة, فإن قبلت وإلا سكت”(57).
قال الشنقيطي: “فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف فإنها تضر أكثر مما تنفع, فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة, والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة؛ ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? [لقمان:17](58).
يقول الحق تبارك وتعالى: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ? [آل عمران:159].
فهذه الآية تضمنت النهي عن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأفعال المنفرة للناس, لا يصبرون على معاشرة صاحبها وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله, ومن ثم تفوت هدايتهم, ولا تبلغ قلوبهم الدعوة.
واللين في المخاطبة والصبر والتجلد وعدم التشدد في العتب والتوبيخ يوصل إلى الاهتداء في كتاب الله(59).
وإن شعر المُنْكَر عليه بغلظة في القول, أو زجر في الحديث, فقد يتأثر وينفعل؛ لأن النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها, وقد لا تنقاد إلا بالرفق؛ حتى لا تشعر بالهزيمة، وهذا الأسلوب يجعل لرأي القائم بالإنكار قوته وعلوه, فتلين له الكبرياء هيبة واحتراماً وثقة، فالجدل بالحسنى يطامن هذه الكبرياء الحساسة, ويشعر المُنْكَر عليه أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة, وأن لا قصد من الإنكار إلا كشف الحقيقة والاهتداء إليها، وليس القصد إثبات الذات، أو نصرة الرأي، وهزيمة الرأي الآخر(60).
قال تعالى: ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل:125].
وقول الدعاة في الدعوة إلى الله من أحسن الأقوال، يقول سبحانه: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ? [فصلت:33].
والرفق حبب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه، روي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا»(61).
ففي هذا دلالة على ترك التشديد على المخالف, والبدء معه بالملاطفة والتدرج في بيان المخالفة، وما ينبغي له عمله إزاء ذلك(62).
الشرط الخامس: معرفة البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد المتوارثة:
لكي يحقق الإنكار ثمرته ينبغي للقائم بالإنكار أن يراعي البيئة والعادات, سواء من حيث معرفة مقدار الالتزام بأحكام الإسلام، أو معرفة نوع المخاطب, وما يناسبه من أنواع الخطاب، وهل المخالفة شائعة بين الناس، أو بين فئة أو فئات معينة؟ وهل يجاهر بها أو لا يجاهر؟ وهل فعل المنكر باستمرار أو في أوقات معينة.. وهكذا؟
إن من مقتضى معرفة ذلك: حسن التصرف في التعامل مع المنكَر عليه؛ حيث يجب إنزال الناس منازلهم، فنصيحة الأمي غير نصيحة المتعلم، والحاكم غير نصيحة المحكوم، والمعاند غير خالي الذهن، وما يلزم ذكره للمجاهر يختلف عن غير المجاهر، ومن يتكرر منه الفعل غير من فعل المنكر مرة واحدة أو مرات محدودة.
والتعامل مع المرتكبين للمنكرات الشائعة بين الناس يختلف عن التعامل مع مخالف ارتكب مخالفة غير شائعة, يقول ابن تيمية: “ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي”(63).
فإن العلم بحاله يجعلك تستكشف كافة أفعاله, والخبير بالشيء يسهل عليه فهمه، ويتمكن من كشف أمره، وإصلاح حاله؛ فهو إذن بها خبير، وبإدراك شأنها بصير، وهو فيما يقدره من إنكار يكون به حكيماً.
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار:
القائم بالإنكار أشبه ما يكون بالطبيب, يختار من العلاج ما يناسب حال المريض, فيصف من الدواء ما كان أقل ضرراً وأكثر نفعاً, وكما لا ينبغي للطبيب أن يختار من الأدوية ما يضر الجسم, وإن كانت تساعد على الشفاء مع وجود دواء يحصل به الشفاء وهو لا يضر، فكذا الذي يقوم بإنكار المنكر لا يحل له أن يستعمل يده إن كان ما دونه في الرتبة يحقق ذلك، ولا ينهر إذا كان اللين أجدى.. وهكذا.
ولهذا فإن طرائق الإنكار هي:
أولاً: النصيحة:
الإنكار بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق هو ما تقتضيه أصول الدعوة إلى سبيل الله، قال تعالى: ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ? [النحل:125].
وذكر النووي: “أن المختلف فيه لا إنكار فيه… لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف, إذا لم يلزم منه إخلال بسنة, أو وقوع في خلاف آخر”(64).
قال الشافعي: “من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”(65).
والقائم بالإنكار ينبغي أن يراعي حال المنصوحين وظروفهم، وتوقع الأوقات المناسبة لقبولهم النصيحة؛ لتسري إلى القلوب برفق، وتتعمق إلى المشاعر بلطف؛ لتجد مكاناً تستقر فيه.
ومن دواعي القبول: ألا يسعى القائم بالإنكار إلى إظهار أخطاء المنصوح؛ لأنها قد تقع منه عن جهل، أو حسن نية, وهذا يقتضي عدم التحامل على المخالف، أو ترذيله، أو تقبيحه.
والقائم بالإنكار يستحسن له أن يعرف بنفسه, ويظهر منزلته التي تؤهله للنصح، فيوسف -عليه السلام- قبل أن ينصح صاحبيه في السجن أخبر عن نفسه؛ لأنهما يجهلان حاله، قال سبحانه حكاية عنه: ?قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ? [يوسف:38].
بعد هذا التعريف قام بنصحهما قبل أن يقضي حاجتهما، وهكذا يكون القائم بالإنكار مدركاً لواجبه أثناء أداء حياته اليومية, حتى وإن كان داخل السجن(66).
ومما يستحسن فعله قبل البدء بالنصح إشعار المنكر عليه بأن ما فعله من منكر لا يخرجه عن المسلمين، وأن هذا نوع تقصير, وكلنا مقصرون، لكن منا المكثر، ومنا المقل، ومنا المتوسط، وأن الجميع جند للإسلام يدافعون عن حماه، ويذودون عن حوزته، سواء من كان منهم يسبل لثيابه، أو يقصر لها، أو يرسل لحيته، أو يحلقها, أو يخفف منها، وأن الكل أمة واحدة، غير أن هذا الإخلال بالواجب عند المخالف يحتاج لمراجعة؛ ليتحقق الكمال الواجب في هذه الأمة، وأننا كأمة يجب أن نلتقي في دوحة واحدة لا يُختَلَف عليها, فالكل يحب الخير وأهله، سواء من كان منكراً للمخالفات أو مرتكباً لها.
وعند البدء في الحديث معه يستحسن تكنيته ليصغي إليه؛ لأن لهذا أثره في الاستجابة.
روى البيهقي بسنده(67) في قصة ذهاب عتبة بن ربيعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان سيداً حليماً في قومه, وفيه: «فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت… حتى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا الوليد! أسمِع… حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: اسمع مني، قال: أفعل، فتلا عليه من أول سورة فصلت إلى السجدة فسجدها, ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت، قال: فأنت وذاك، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به»(68).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لقي أسقف نجران فقال: «يا أبا الحارث أسلم».
وعن يحيى بن أبي كثير، قال الفرافصة -وهو نصراني- لعمر: “يا أمير المؤمنين إنكم تأكلون ذبيحة لا نأكلها، قال: وما ذاك يا أبا حسان، فذكر الحديث”(69).
قال ابن هانئ: “رأيت أبا عبد الله كنَّى نصرانياً طبيباً, فقال: يا أبا إسحاق”(70).
وإذا كان هذا مع غير المسلمين فإن المخالف من المسلمين أولى بهذا الاحترام وأحظى بالتقدير.
ومن مظاهر الاحترام: البشاشة والطلاقة في الوجه أثناء الإنكار؛ لأن مثل هذا يُهَدِّئ المُنْكَر عليه, ويريح نفسه، فيحس بمحبة القائم بالإنكار له، وأنه بمنزلة المحبوب من أخ وصديق.
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحقرن من المعروف شيئاً, ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(71).
ففي هذا دلالة على أن طلاقة الوجه من المعروف الذي يثاب عليه الإنسان لأخيه الإنسان، والأجر سيضاعف إن حقق هذا لفعل تجنيب إنسان فعل مخالفة ارتكبها.
والنصح كان هو نهج الأئمة الكبار فيما بينهم، وفيما يلي أورد رسالة الإمام مالك إلى الليث بن سعد، وجواب الليث له؛ لنعرف أدب العلماء عند المناصحة:
“من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: سلام الله عليك, فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:
عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه، اعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? [التوبة:100].
وقال تعالى: ?فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? [الزمر:17-18].
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام؛ إذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده -صلوات الله عليه ورحمته وبركاته-.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم، وحداثة عهدهم، وإن خالفهم، مخالف أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله وعمل بغيره.
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم, فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو ألا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك، والظن بك، فأنزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً، وفقنا الله وإياك لطاعته، وطاعة رسوله في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليكم ورحمة الله. وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر”(72).
وأجاب الليث بما يلي:
“سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة, قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا, فجزاك الله عما قدمت منها خيراً، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً إلا لأني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة, وبها نزل القرآن.
وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكْرَهَ لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوا، ولا آخَذَ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني, والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرْتَ من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعاً لهم فيه فكما ذكرت.
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? [التوبة:100], فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله, ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه, ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين, ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين, والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن أو عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ائتمروا فيه بعده إلا علَّموهُموهُ، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحْدِثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم، مع أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعيد بن المسيب ونظراؤه أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة.. وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت، وسمعتُ قولَكَ فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه, حتى اضطرك ما كرهْتَ من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرْتُك أنت وعبد العزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له, وجزاه بأحسن من عمله.
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد -على فضل رأيه وعلمه- بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت أيضاً عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل».
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة»(73) وشرحبيل ابن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
وكان أبو ذر بمصر، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه في الجنة- سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يُقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر, وعمر, وعثمان, وعلي.
ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن، والجِدَّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رُزيق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين، ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكناً.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صَدُقَات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا مَنْ بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت، أو طلاق فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت أربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر -وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر- أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمُولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: إن لبث بعد أربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف، لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا: أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قالوا في الإيلاء: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة.
وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وابن شهاب: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملَّك الرجل امرأته فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن عبد الرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره, فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه, فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف, ويُخلَّى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمَة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبداً فاشترته فمثل ذلك.
وقد بُلِّغْنا عنكم شيئاً في الفتيا مستكرهاً، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره، وفيما أوردت فيه على رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زُفَر بن عاصم الهلالي -حين أراد أن يستسقي- أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمتُ ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة, إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حوَّل رداءه ثم نزل فصلى.
وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.. وغيرهما، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس كلهم فعل زُفَر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: أنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة, ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يُعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم.. وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً، أو أنفق المشتري منها شيئاً فليست بعينها.
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك -وإن كنت سمعته من رجل مرضي- أن تخالف الأمة أجمعين.
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك, وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضَّيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك, وحاجةً إن كانت لك, أو لأحد يُوصَلُ بك، فإني أُسَرُّ بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا, وتمام ما أنعم به علينا, والسلام عليكم ورحمة الله(74).
ففي هاتين الرسالتين الأدب الجم في حسن التخاطب، وفيهما دراية ورعاية لفقه التعامل مع المخالف.
وهاتان الرسالتان تمثلان بحق لوناً رفيعاً من أدب التخاطب والتحاور بالحجج العلمية, دون تعريض أو تجريح بعضهما ببعض أو بالآخرين.
انظر إلى قول الليث بن سعد في ربيعة شيخ الإمام مالك: “وذاكرت أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك(75)، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله”.
فأين هذا من الإنكار في عصرنا الحاضر على العلماء الذين خالفوا منكريهم, وقد يكون الحق معهم، أو أنهم لم يعارضوا بقولهم دليلاً ولا إجماعاً ولا قاعدة شرعية.
وأين هذا مما يشتهر في عصرنا هذا في سرعة تجهيل الآخرين بغير وجه حق, مما لا تقتضيه أصول الدعوة مع عامة الناس فضلاً عن العلماء.
ثانياً: التأديب:
الأصل فيه ما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-(76) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان»(77).
قال القاضي عياض -رحمه الله-: “هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل, ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله, كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه، والمسرف في بطالته, إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره؛ لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه: من قتله, أو قتل غيره بسبب كف يده اقتصر على القول باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه, وكان في سعة”(78).
قال ابن مفلح: “وأعلاه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب”.
قال المروذي: “قلت لأبي عبد الله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: باليد، واللسان، وبالقلب وهو أضعف, قلت: كيف باليد؟ قال: يفرق بينهم، ورأيت أبا عبد الله مر على صبيان الكتاب يقتتلون ففرق بينهم، وقال في رواية صالح: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح”.
قال القاضي: “وظاهر هذا يقتضي جواز الإنكار باليد إذا لم يفض إلى القتل والقتال”(79).
قال أبو داود: “سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا, فأخذ الشطرنج فرمى به, فقال قد أحسن”.
وقال في رواية أبي طالب فيمن يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج: “يقلبها عليهم إلا أن يغطوها أو يستروها”(80).
ولا ينكر بسيف إلا ذو سلطان. وقال ابن الجوزي: “يضرب باليد والرجل.. وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف, يجوز للآحاد بشرط الضرورة، والاقتصار على قدر الحاجة، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح؛ لكونه لا يقدر على الإنكار بنفسه، فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام؛ لأنه يؤدي إلى الفتن, وهيجان الفساد”(81).
قال القرطبي: “ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً صالحاً قوياً عالماً أميناً ويأمره بذلك”(82).
وقال: “قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء –يعني: عوام الناس-, فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل”(83).
قلت: الذي أراه -والله أعلم- أنه لا يحل لآحاد الناس إزالة المنكرات باليد، بل إن ذلك من اختصاص ولاة الأمر على أن يقوم ولي الأمر بأمر الحسبة, سواء بنفسه أو بمن ينيبه من جهات تعتني بهذا الأمر.
ولهذا لا يحل للمسلم أن يتطاول على الناس بيده, وولي الأمر قائم بذلك لو رفع الأمر إليه أو علمه.
ولا ينبغي الإسراع في رفع الأمر إلى السلطان؛ لأن الأمر قد يحتاج إلى الستر في البداية، روي عن هزال -رضي الله عنه-: «أن ماعز بن مالك كان في حجره, قال: فلما فجر قال له: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له: ويلك يا هزال، أما لو كنت سترته بثوبك لكان خيراً مما صنعت به»(84).
فالخيرية لا تكون إلا في أمر مطلوب مما يدل على طلب الستر إلا أن يجاهر المرء بالزنا أو تصل الحال إلى إشاعته والتهتك به(85).
وكره الإمام أحمد الرفع إلى السلطان ورغب في الوعظ(86), وقال: “أمَّا السلطان فما أرى ذلك”(87)… لكن إن لم يرتدع إلا بالسلطان وجب رفعه.
والنهي عن إزالة المنكرات باليد لآحاد الناس؛ لأنها تحدث من الفتن أكثر مما يرجى من تلك الإزالة، والرفع إلى السلطان إن عجز عن الوعظ مُبَرِّئ به ذمته, ومن ثم تعلق الإثم بالوالي ولزمه إزالته.
لكن إذا تعلق المنكر بنصرة مظلوم يؤذى في ماله، أو بدنه، أو عرضه.. ونحو ذلك مما يفوت التأخير حق النصرة, وجبت المبادرة في الإنكار، ونصرة المظلوم إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر بنفسه سعى لإخبار الناس أو الأجناد.
أما إذا كانت المنكرات شائعة في مجتمع من المجتمعات, ولدى ولاة الأمر تقصير في هذا الجانب، أو عدم مبالاة في ذلك، فإن كان الإنكار باليد لا يحقق إزالتها، بل سيحدث فتنة وهرجاً فما عليه إلا السعي بالنصيحة والحجج العلمية, ببيان تحريمها وآثارها على الفرد والمجتمع, ويحث الناس على تركها وهجرها، والوسائل لتحقيق ذلك كثيرة ومنها: اللقاءات الفردية, أو المراسلة, أو الندوات, أو من خلال المقالات أو المطبوعات أو الأشرطة, أو الهاتف، وإذا كانت الإزالة مرجوة, وستحقق الغرض دون إثارة فتنة أو فساد وقتل فلا بأس بإزالتها، وإن حصل للقائم بذلك شيء من الأذى بنفسه، حكي عن ابن العربي: “أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الخطر, وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده”.
قال: “والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي, يدل عليه قوله تعالى: ?وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? [لقمان17] ففي هذه الآية إشارة إلى الأذية”(88).
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: “يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نالك ضرر، فهو إشعار بأن المغيِّر يؤذى أحياناً، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا”(89).
وعن حذيفة مرفوعاً: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق»(90).
وقيل: إن زاد وجب الكف، وإن تساويا سقط الإنكار.
قال ابن الجوزي: “فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت؛ لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب”.
قال الشيخ تقي الدين: “الصبر على أذى الخلق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي, وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي, أو مثلها أو قريب منها, وكلاهما معصية وفساد”(91).
_______________________________
(1) لسان العرب مادة نكر.
(2) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، بصيرة في نكر (5/ 120).
(3) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج (10) (ص:167).
(4) انظر الجامع لأحكام القرآن، ج (14) (ص:68).
(5) الوهق بالتحريك: حبل تشد به الإبل والخيل؛ لئلا تند، لسان العرب مادة وهق.
(6) انظر الجامع لأحكام القرآن، ج (1) (ص:440).
(7) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج (2) (ص:22)، والترمذي في الجامع الصحيح، (4/ 469)، والنسائي في سننه بشرح السيوطي، (8/ 111)، وأخرجه أحمد في مسنده، ج (3) (ص:20، 49).
(8) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج (11) (ص:500)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم: (345)، ج (17) (ص:139)، وإسناده حسن.
(9) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:281-282).
(10) أصل الأطر العطف والتثني, ومعناه: رده إلى الحق، عون المعبود (11/ 488).
(11) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج (11) (ص:488)، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، وقال: (حسن غريب)، وذكر أن بعضهم رواه عن أبي عبيدة مرسلاً، الجامع الصحيح، ج (5) (ص:252), قال المنذري: (وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع)، عون المعبود، ج (11) (ص:488)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنن ابن ماجه، ج (2) (ص:1327)، قال الهيثمي: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)، مجمع الزوائد، ج (7) (ص:269).
(12) لأبي داود، عون المعبود، ج (11/ 488).
(13) أخرجه أحمد في مسنده ج (5) (ص:388)، والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن), الجامع الصحيح ج (4) (ص:468).
(14) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، قال المنذري: (وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه)، عون المعبود، ج (11) (ص:489).
(15) أخرجه أحمد من طريقين، وأخرجه الطبراني, وفيه رجل لم يسم, وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وأخرج نحوه الطبراني عن العرس بن عميرة ورجاله ثقات، مجمع الزوائد، ج (7) (ص:267-268).
(16) أخرجه الطبراني في الأوسط, وفيه مروان بن سالم الفقاري وهو متروك، مجمع الزوائد، ج (7) (ص:267).
(17) أخرجه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد (7/ 268).
(18) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب العقوبات، سنن ابن ماجه، ج (2) (ص:1332).
(19) أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني، وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح، وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع في الأصل غلط، مجمع الزوائد، ج (7) (ص:270).
(20) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج (6) (ص:253).
(21) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:22-23).
(22) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج (6) (ص:253).
(23) انظر صحيح مسلم بشرح النووي، ج (2) (ص:23).
(24) انظر الحسبة لابن تيمية، (ص:135).
(25) انظر الموافقات للشاطبي، ج (4) (ص:214)، وجامع العلوم والحكم، (ص:281)، وأضواء البيان، ج (2) (ص:173).
(26) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج (2) (ص:173).
(27) انظر نيل الأوطار، ج (2) (ص:70).
(28) انظر المبسوط، ج (10) (ص:147)، وحاشية ابن عابدين، ج (1) (ص:409).
(29) انظر حاشية العدوي، ج (2) (ص:420).
(30) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:284)، والأحكام السلطانية للماوردي، (ص:253).
(31) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:26).
(32) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:26).
(33) ذكره ابن كثير في تفسيره، ج (4) (ص:212).
(34) انظر الفرق بين النصيحة والتعيير.
(35) انظر تفسير القرآن العظيم، ج (4) (ص:212).
(36) أخرجه الديلمي، وهو ضعيف, لكن له شواهد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج (1) (ص:400)، وانظر الفتح الكبير للسيوطي، ج (1) (ص:131).
(37) انظر تفسير القرآن العظيم، ج (4) (ص:212)، وفي ظلال القرآن، ج (7) (ص:533-534).
(38) في ظلال القرآن، ج (7) من (526-527).
(39) الحديث أخرجه مسلم عن عوف بن مالك، صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 244).
(40) نص الحديث أخرجه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- في كتاب الحج باب فضل مكة وبنيانها، صحيح البخاري، ج (2) (ص:156)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، صحيح مسلم بشرح النووي، ج (9) (ص:88).
(41) انظر كتاب الإمارة باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، صحيح مسلم بشرح النووي، ج (12) (ص:243).
(42) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود ج (11) (ص:494)، وابن ماجه في كتاب الفتن باب قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ? [المائدة:105]، سنن ابن ماجه، ج (2) (ص:1330)، والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة المائدة، وقال: (حديث حسن غريب)، الجامع الصحيح، ج (5) (ص:257).
(43) أضواء البيان، ج (2) (ص:175).
(44) إعلام الموقعين، ج (3) (ص:5).
(45) أضواء البيان، ج (2) (ص:175).
(46) انظر الحسبة لابن تيمية، (ص:122-123).
(47) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:283).
(48) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:283).
(49) سبق تخريجه في الشرط الثالث، (ص:200) حاشية (3).
(50) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:283).
(51) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:22-23).
(52) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:283).
(53) أخرجه مسلم في كتاب البر باب فضل الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 146).
(54) لمسلم، المرجع السابق.
(55) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:24،133).
(56) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:285)، وانظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، (ص:46-47).
(57) انظر جامع بيان العلم وفضله، (ص:363).
(58) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج (2) (ص:174).
(59) تفسير المنار، ج (4) (ص:198-199).
(60) انظر في ظلال القرآن، ج (5) (ص:292).
(61) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة والعلم؛ كي لا ينفروا، فتح الباري، ج (1) (ص:163).
(62) انظر فتح الباري، ج (1) (ص:163).
(63) انظر الحسبة لابن تيمية، (ص:133).
(64) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج (1) (ص:191).
(65) انظر المجموع، ج (1) (ص:31)، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج (2) (ص:24).
(66) انظر كيف تمكن الشيخ أحمد بن عبد الواحد الفاروقي السرهندي المولود سنة (971هـ) من تحويل حاكم وحكومة الهند إلى الإسلام وهو داخل السجن، انظر: الإسلام بين العلماء والحكام (ص:209).
(67) انظر دلائل النبوة للبيهقي، ج (2) (ص:204)، الطبعة الأولى سنة (1405هـ).
(68) البداية والنهاية، ج (3) (ص:61).
(69) انظر مسائل الإمام أحمد، ج (2) (ص:180).
(70) انظر مسائل الإمام أحمد، ج (2) (ص:180).
(71) أخرجه مسلم في كتاب البر والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج (16) (ص:177).
(72) انظر ترتيب المدارك، ج (1) (ص:64).
(73) الرتوة: الخطوة.
(74) إعلام الموقعين، ج (3) (ص:83-88).
(75) لأنه صار يأخذ بمنهج مدرسة أهل الرأي في بعض المسائل.
(76) سبق تخريجه في الفصل الثاني في أصل مشروعيته، رقم: (6).
(77) انظر جامع العلوم والحكم، (ص:280).
(78) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج (2) (ص:25).
(79) الآداب الشرعية، ج (1) (ص:161-162).
(80) الآداب الشرعية، ج (1) (ص:167).
(81) الآداب الشرعية، ج (1) (ص:174).
(82) الجامع لأحكام القرآن، ج (4) (ص:47).
(83) المرجع السابق ج (4) (ص:49).
(84) أخرجه أحمد في مسنده، ج (5) (ص:217).
(85) انظر شرح فتح القدير، ج (8) (ص:463)، وبلغة السالك ج (2) (ص:358).
(86) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (ص:36،53-54).
(87) المرجع السابق، (ص:53).
(88) الجامع لأحكام القرآن، ج (4) (ص:48).
(89) الجامع لأحكام القرآن، ج (4) (ص:68).
(90) أخرجه أحمد في مسنده، ج (5) (ص:405)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ? [المائدة:105], سنن ابن ماجه، ج (2) (ص:1331)، حديث رقم: (4016)، والترمذي في كتاب الفتن، باب (67) حديث رقم: (2254), وقال: (حسن غريب)، الجامع الصحيح ج (4) (ص:522).
(91) الآداب الشرعية، ج (1) (ص:156).