الغيرة.. من صفات المحتسب
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
ثم أما بعد:
فإن الناظر إلى أحوال هذه الأمة لَيرى العجبَ العجاب، وسرعان ما يتملّكه الهمُّ والاكتئابُ؛ لما يرى من شدة التغيُّر الذي قد طرأ على الناسِ في هذا الزمان، حتى أصبح المنكرُ معروفاً والمعروفُ منكراً، وأصبح من ينكرُ المنكرَ غريباً وكأنه جاء بأمر عجيب، وهذا هو مصداق حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:«بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء»(1).
وإن من الصفات الواجب توافرها عند المحتسب هي “الغيرة”؛ حيث إن الشخص المحتسب هو أولى الناس بأن يتصف بتلك الصفة العظيمة؛ فهي من أهم صفات المؤمن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والغيرة من سمات المؤمنين للحديث: «إنّ اللهَ يغارُ، وإنّ المؤمنَ يغارُ، وغَيْرةُ اللهِ: أن يأتيَ المؤمنُ ما حَرَّمَ عليه»(2).
وذهاب الغيرة ذهاب بالإيمان كله يقول ابن القيم رحمه الله: “وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد”(3).
معنى الغيرة لغة:
الغَيْرة بالفتح المصدر من قولك غار الرجل على أَهْلِه قال ابن سيده: وغار الرجل على امرأَته والمرأَة على بَعْلها تَغار غَيْرة وغَيْراً وغاراً وغِياراً .
معنى الغيرة اصطلاحاً:
الغيرة: كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه . وقال الجرجاني: “الغيرة كراهة شركة الغير في حقه”.
وقال النووي: “الغيرة بفتح الغين وأصلها المنع والرجل غيور على أهله أي يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر أو حديث أو غيره”.
أهمية صفة الغيرة للمحتسب:
إذا رزق الله المحتسب الغيرة؛ كان حريصاً أن يكون عزيزًا معتزًا بدينه، وألا يكون أعداء الله خيراً منه قال تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ? [البقرة:165] وإذا رزق الله العبد المحتسب الغيرة كان الشيطان بعيدًا عن أن يجره إلى المعصية، فالغيرة خير عاصم.
جعل اللَّه سبحانه –الغيرة- في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته”.
كما في الحديث فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه».
معناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأن انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره. وغيرة الله تعالى من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها.
وعن أنس-رضي الله عنه- قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: «غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيه»(4).
وأشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة فالمؤمن الذي يغار في محل الغيرة قد وافق ربه في صفة من صفاته ومن وافقه في صفة منها قادته تلك الصفة بزمامه وأدخلته عليه وأدنته منه وقربته من رحمته ومن الغيرة غيرة العلماء لمقام الوراثة وهو مقام العلم.
وعن جابر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الغيرة ما يحب الله -عز وجل- ومنها ما يبغض الله -عز وجل- ومن الخيلاء ما يحب الله -عز وجل- ومنها ما يبغض الله -عز وجل- فأما الغيرة التي يحب الله -عز وجل- فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله -عز وجل- فالغيرة في غير ريبة والاختيال الذي يحب الله -عز وجل- اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله -عز وجل- الخيلاء في الباطل»(5).
قال العظيم آبادي: “فالغيرة في الريبة: نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا رأى منهم فعلاً محرماً فإن الغيرة في ذلك ونحوه مما يحبه الله … والغيرة في غير ريبة: نحو أن يغتار الرجل على أمه أن ينكحها زوجها وكذلك سائر محارمه فإن هذا مما يبغضه الله تعالى؛ لأن ما أحله الله تعالى فالواجب علينا الرضا به فإن لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على ما شرعه الله لنا”(6).
أقسام الغيرة:
لقد قسم ابن القيم الغيرة إلى نوعين: غيرة للمحبوب وغيرة عليه:
1- فأما الغيرة له: فهي الحمية له والغضب له إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته وناله مكروه من عدوه فيغضب له المحب ويحمى وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه فهذه غيرة المحبين حقا وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به واستحل محارمه وعصى أمره وهذه الغيرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه حتى يزول ما يكرهه فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها أو يفعل ما يبغضه عليه ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها والدين كله في هذه الغيرة بل هي الدين وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة ومتى خلت من القلب خلا من الدين فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحب والغيرة تصفي القلب وتخرج خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد.
2- وأما الغيرة على المحبوب فهي: أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره وهذه أيضا نوعان: غيرة المحب أن يشاركه غيره في محبوبه، وغيرة المحبوب على محبه أن يحب معه غيره(7).
الغيرة المذمومة:
قال ابن القيم: وغيرة العبد على محبوبه نوعان:
1- غيرة ممدوحة يحبها الله.
2- وغيرة مذمومة يكرهها الله.
فالتي يحبها الله: أن يغار عند قيام الريبة.
والتي يكرهها: أن يغار من غير ريبة بل من مجرد سوء الظن وهذه الغيرة تفسد المحبة وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه وفي المسند وغيره عنه قال: «الغيرة غيرتان فغيرة يحبها الله وأخرى يكرهها الله قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيرة التي يحب الله قال أن تؤتى معاصيه أو تنتهك محارمه قلنا فما الغيرة التي يكره الله قال غيرة أحدكم في غير كنهه».
وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته وعرضه، فإنه يطلب منه الاعتدال في الغيرة، فلا يبالغ فيها حتى يسيء الظن بزوجته، ولا يسرف في تقصي حركاتها وسكناتها لئلا ينقلب البيت ناراً، وإنما يصح ذلك إن بدت أسباب حقيقية تستدعي الريبة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة».
فوائد الغيرة للمحتسب:
1- الغيرة دليل على قوة الإيمان بالله.
2- خصلة يحبها الله سبحانه وتعالى ما دامت من أجل حفظ أعراض المسلمين.
3- الغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة.
4- وهي مظهر من مظاهر الغضب لله إذا رأى حرمات الله تنتهك.
5- وهي من الأسباب الدافعة لإنكار المنكر.
6- تطهر المجتمع من الرذائل.
7- الغيرة سبب لصون الأعراض.
صور الغيرة عند المحتسب:
– غيرة الله على محارمه: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه. وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش. وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل». قال العيني: “وأما معنى غيرة الله تعالى فالزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذي يزجر عما يغار عليه وقد بين ذلك بقوله ومن غيرته حرم الفواحش أي زجر عنها ومنع منها وقال غيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرم الله عليه”.
2- الغيرة لله سبحانه وتعالى:
ومن صور هذه الغيرة:
1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فإن القيام بهذه الشعيرة من أعظم الواجبات، وهو دليل على الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
2- عدم تعظيم الكفار والركون إليهم:
قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? [المائدة:51].
قال ابن كثير: “نهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? [المائدة:51].
3- الفرح بزوال الظلم والظلمة:
إن المحتسب الغيور ليفرح إذا أزيل منكر، وقمعت فاحشة، وأخمدت فتنة، كيف لا، وربنا يقول:
?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ? [النور:19].
بل إن الفرح بما يصيب الناس من البلاء وإن كان مذموماً فإنه حين يكون لإصابة مفسد أو ظالم ببلاء يمنعه من فساده وظلمه، ويجعله لغيره من الظلمة عبرة، فلا يكون مذموماً، بل غيرة في الدين، والغيرة من الإيمان، ففرحه حينئذ بزوال الفساد والظلم لا بإصابة البلاء والمصيبة، كما ذكره بعض العلماء.
وأخيرًا:
فإن من أعظم مظاهر ذهاب الغيرة هو عدم التألم والإنكار إذا انتقصت شريعة الله، أو استعلن صاحب منكر بمنكره، أو أراد المفسدون إشاعة الفساد والانحلال، والاختلاط بين الرجال والنساء، أو عُطلت الصلاة من بعض بيوت المسلمين، أو أي منكر كان، هنا لا بد من غيرة المؤمن وإنكاره بالطرق الشرعية الممكنة، أما السكوت وعدم الغيرة فهذه ـ والله ـ خيانة للأمة، ورب العالمين يغار، ألا وإنه لا بد للمحتسب الغيور أن يكون ذا نفس طويل وصبر وحلم؛ لأن أهل النفاق والباطل يعملون خلف الستور ولا يفترون، ويجتهدون ولا يكلون.
اللهم وفق أهل الحسبة لما تحب وترضى…. اللهم آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم – كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، حديث: 234، مسند أحمد حديث: 3674.
(2) أخرجه البخاري (5223) ، ومسلم (8 /101) ، وا بن حبان (293) ، والترمذي (1168).
(3) روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص (247).
(4) صحيح البخاري – كتاب النكاح باب الغيرة – حديث: 4931.
(5) السنن الصغرى – كتاب الزكاة الاختيال في الصدقة – حديث: 2523.
(6) عون المعبود شرح سنن أبي داود (7 /230)ط العلمية.
(7) روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص (294).