اللقاء الثاني:
تطرقنا في الأسبوع الفائت لتعريف القاعدة، ثم تطرقنا للقاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها، وبعض تطبيقاتها.
القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك .
قاعدة اليقين لا يزول بالشك لها صيغتان عند الفقهاء، الأولى : اليقين لا يزول بالشك، والثانية : اليقين لا يرفع بالشك، وصاغها بعض العلماء كالزركشي بصيغة ثالثة فقال : ما ثبت بيقين لا يرفع إلا بيقين ، وصاغها القرافي بقوله : كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم . وهذه القاعدة كسابقتها تدخل في جميع أبواب الفقه، ويحتاجها المتخصصون في جميع العلوم، ومنهم أهل القانون أيضاً قال السبكي رحمه الله : ” اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرّجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر ” انظر : الأشباه والنظائر، للسبكي 1/ 23
ومعنى القاعدة: ” أنه لا شك مع اليقين، والأصل المتيقن لا يزيله شك طارئ عليه، فالأصل بقاء ما كان على ما كان ” قال ابن نجيم : ” المراد من قولهم : اليقين لا يرفع بالشك، أي أن الشك لا يرفع حكم اليقين ” انظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم (ص57) .
أما أصل القاعدة ودليلها فهو ما أخرجه الشيخان عن عبدالله بن زيد رضي الله عنه أنه شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: ” لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً” أخرجه البخاري ومسلم .
قال ابن دقيق : ” والحديث أصل في إعمال الأصل وطرح الشك ” انظر: إحكام الأحكام، لابن دقيق (1/ 117).
ويتفرع من قاعدة : ” اليقين لا يزول بالشك ” عدة قواعد : الأولى : قاعدة : الأصل بقاء ما كان على ما كان الثانية : قاعدة : ” الأصل في الذمة البراءة ” .
من تطبيقات القاعدة في عمل المحتسب :
1- لو شاهد المحتسب رجلاً يجرّ امرأة إلى منزله يزعم أنها زوجته، أو أمته وهي تنكر ذلك لوجب علينا الإنكار عليه لأن الأصل عدم ما ادعاه .
2- لو رأى رجلاً مع امرأة في حالة خلوة، فلا يستعجل في الإنكار عليهما حتى يتبين له حالهما، لأن الأصل براءة الذمة . قال الماوردي – رحمه الله : ” ولو رأى – أي المحتسب – رجلاً مع امرأة في مكان سابل ولم تظهر منهما أمارات الريب فلا ينكر عليهما فما يجد الناس بدا من ذلك “
3- لو رأى المحتسب شاباً مع فسّاق أو شواذّ فإنه يحتسب عليه حتى لا يفسد حاله .
4- ويحتسب على من وضع نفسه محل التهمة لأنها قرينة تنقله من الأصل وهو السلامة وبراءة الذمة إلى محل التهمة ومما ورد في ذلك : من تردد على الشبهات فظن الناس به سوءا فلا يلومن إلا نفسه .
ومن الشواهد على هذه القاعدة ، حديث : ” على رسلكما إنها صفية ” والحديث في البخاري ومسلم قال ابن رجب تعليقا على ذلك : ” فأما من أتى شيئاً مما يظنه الناس شبهة لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، طان تركها حينئذ استبراء لعرضه، فيكون حسناً ” انظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب 8/17
ويستفاد من الحديث أيضا : “استحباب الاحتراز من كل أمر من المكروهات مما تجري به الظنون، وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب ” كما ذكر ذلك الخطابي في معالم السنن 2/ 490
قال الشيخ السعدي – رحمه لله – : وترجع الأحكام لليقين … فلا يزيل الشك لليقين وإذا قلنا : أن اليقين لا يزول بالشك، فالأصل براءة الذمة فالمتهم بريء بأدنى شبهة تأتي على الحكم الذي يصدر عليه، فإذا كان الحكم بحد من الحدود، فإن هذا الحد يسقط؛ لأن الأصل براءة الذمة، وقد جاءت الشبهة لتعضد هذا الأصل. وإذا قلنا: إن اليقين لا يزول بالشك، فإنه يزول بيقين مثله، وغلبة الظن مُنزَّلة مَنزِلة اليقين، وعلى ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) أي حتى يأتي يقين آخر أي يقين الحدث ليرفع يقين الطهارة وإلا فهو باقٍ على طهارته.
قاعدة: لا ينقض الأمر المتيقن ثبوتًا أو نفيًا بشك عارض
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن)
ومما يحضرني في الأمثلة على هذه القاعدة: ادعى أحد الرافضة على أحد أعضاء الهيئة أنه ضربه أثناء زيارته لمقبرة البقيع عام 1431هـ، فطلب منه المحقق إحضار شهود على دعواه، فأحضر شاهدين: أما الأول فلم يتعرف عليه وأنكر أن يكون قد شاهد العضو، وأما الشاهد الثاني فأشار إلى العضو بقوله: هذا هو الذي ضربه ؟ فسألته: هل أنت متأكد ؟ فقال: “نعم” فقلت له: ” أمتأكد 100 %، أم 50 % ” ؟ فتلكأ ثم قال: “متأكد بنسبة 60 %” عندها طلبت من المحقق تدوين شهادته حرفياً بالنسبة التي ذكرها “60% ” وعندما أحيلت القضية إلى ديوان المظالم تم الطعن في شهادة الشاهد بناء على قاعدة : ” اليقين لا يزول بالشك ” وصدر الحكم بعدم الإدانة .
وهنا سؤال: هل يفهم من قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) أن اليقين أحياناً يزال بالظن، أم أن الظن كذلك في منزلة الشك في عدم إمكانية إزالته لليقين؟
والجواب: اليقين هنا يدخل فيه الظن، فالظن الغالب له حكم اليقين، أما الشك فهو الشيء المتردد فيه بحيث إنك لا تدري هل هو على هذه الصفة أو على هذه الصفة، أما الظن الغالب فإنه يعمل به.