اللقاء الأول:
المقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. حياكم الله جميعاً في هذه المجموعة المباركة المهتمة بالشعيرة الغائبة شعيرة الحسبة..
كما شاهدتم في الجدول سيكون موضوعنا هذه الليلة في الحديث عن القواعد الفقهية المتعلقة بالاحتساب.
هناك من يرى أن القاعدة يجب أن تنطبق على جميع جزئياتها . وهناك فريق ثان يرى أن القاعدة يكفيها فقط انطباقها على أكثر جزئياتها لا على جميعها، ومنهم ( الحموي ) فقد عرفها بقوله : ” حكم أكثري ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه ” انظر : غمز عيون البصائر، للحموي (1/ 51 ).
أما الفريق الثالث ومنهم السبكي، فقد اتفقوا مع أصحاب القول الأول على أنها حكم كلي، لكن دون الإشارة إلى أنه ينطبق على كل الجزئيات أو على بعضها . فقالوا في تعريف القاعدة : ” هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها ” الأشباه والنظائر للسبكي (1/ 21 ) .
أما القواعد فهي أنواع : ومنها : قواعد التفسير، قواعد الحديث، قواعد اللغة، قواعد علم المنطق، القواعد القانونية ..الخ. وما يهمنا هنا هو القواعد الشرعية والتي تنقسم إلى قسمين : قواعد فقهية ، وقواعد أصولية .
سؤال: لماذا القواعد بالذات ؟ يجيبنا القرافي رحمه الله عن أهمية القواعد فيقول : (وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف) انظر: أنواع البروق، في أنواع الفروق (1/ 3 ).
ويقول العلامة السيوطي: “اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مرِّ الزمان، ولهذا قال بعض أصحابنا: الفقه معرفة النظائر”. انظر : الأشباه والنظائر، للسيوطي
(6).
وبناء على ما ذكره العلماء في أهمية القاعدة ففهم القواعد للمهتمين بالحسبة مطلب ملح في هذا العصر، وذلك لما يلي:
1- لأنها تضبط الفروع المنتشرة المتعددة، وتنظمها في سلك واحد ليتمكن الفقيه والمحتسب من الجمع بين الجزئيات المتفرقة .
2- معرفة القواعد الشرعية ييسر على الفقيه والمحتسب ضبط الفقه بأحكامه ويغنيه عن حفظ أكثر الجزئيات .
3- تعين المحتسب إلى تحقيق المقاصد الشرعية من الاحتساب عند مباشرته له .
4- تعين المحتسب على مناظرةكل من يتقوى ببعض الشبهات حول الحسبة ممن له حظ من العلم ببعض الجوانب الشرعية .
هذا ما يتعلق بتعريف القاعدة وأنواعها وأهمية القواعد الشرعية للمحتسب
القاعدة الأولى المتعلقة بالاحتساب: ( الأمور بمقاصدها )
وأصل هذه القاعدة قوله تعالى : (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) وقوله صلى الله عليه وسلم : ” إنما الأعمال بالنيات ” ولهذه القاعدة علاقة كبيرة بالاحتساب وذلك لأن الحسبة فريضة من فرائض الإسلام وهي من أجل العبادات؛ لذلك الثواب فيها مشروط بالنية الصالحة، واحتساب الأجر عند الله، وأما من قام بها بقصد الثناء والمدح فهذا لا ثواب له فيها، لأنه لا ثواب إلا بنية صالحة .
حُكي عن أبي بكر العياض أنه خرج إلى رباط فرأى فتيانا فوق تلة يشربون الخمر فأخذته الحمية وقصدهم فلما دنا منهم سلوا عليه السيوف والسكاكين فهرب منهم ثم أخلص النية لله تعالى فعاد عليهم فهربوا منه ( نصاب الاحتساب 334).
قال ابن الأخوة : ” ويجب على المحتسب أن يقصد بقوله، وفعله وجه الله تعالى وطلب مرضاته خالص النية لا يشوبه في طويته رئاء، ولا مراء، ويتجنب في رئاسته مناقشة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس لينشر الله عليه رداء القبول، وعلم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابة، وجلالة، ومبادرة إلى قوله بالسمع، والطاعة ” انظر: معالم القربة ص 12
قال السنامي : ” المتطوع يحتاج في احتسابه إلى إخلاص النية لأنه قربة أما المنصوب فهو فرض عليه والرياء لا يدخل في الفرض ” نصاب الاحتساب 334
تطبيقات القاعدة في العمل الاحتسابي :
1- موظف البلدية الذي يشرف على الأطعمة في السوق محتس، لأنه يسعى لتحقيق السلامة من الأمراض المؤدية للهلاك، فعليه استحضار النية في عمله.
2- من يشرف على مراقبة المواد الإعلامية، ووسائل الإعلام صيانة لدين وأخلاق المجتمع (محتسب) فعليه استحضار النية في عمله لينال الأجر من الله وليكون عمله أدعى للقبول.
3- رجل المرور الذي يمنع المخالفات وينظم السير في الشارع حرصاً على عدم وقوع الحوادث التي تتسبب في هلاك الأنفس وذهاب الأرواح (محتسب) فعليه استحضار النية في عمله.
قواعد متفرعة عن قاعدة ( الأمور بمقاصدها ) :
1- الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية لا تلزم إلا بنية، ومعنى هذه القاعدة : أن الأقوال الصريحة التي لا تحتمل غر معنى واحد لا يشترط لوقوعها النية، أما الكناية التي تحتمل معاني عديدة فمحتاجة للنية ليستبين المراد، فعلى المحتسب إذا خرج اللفظ الصريح من شخص لا يسأله عن مقصوده، ولا يحتاج منه إلى بيان بل يقدم على الاحتساب عليه مباشرة؛ لأن اللفظ الصريح لا يحتاج غلى نية، أما ألفاظ الكناية فيحتاج المحتسب فيها إلى التريث والتثبت حتى يتبين مقصود اللافظ .
ومن الأمثلة:
1- من اتهم أحدا بالزنا صراحة يحتسب عليه؛ لأن الصريح لا يحتاج إلى نية، ومن قال أنا لست بزان يسأل عن نيته؛ لأن التعريض يحتاج إلى نية .
2- من تلفظ على امرأة في السوق بكلمة صريحة في الدلالة لا يسأل عن نيته، ويحتسب عليه بمجرد تلفظه بها، ولو كانت الكلمة محتملة يسأل عن نيته، ولذلك لا يجوز أن تحمل كلمة على أنها تحرش جنسي أو معاكسة إلا إذا كانت صريحة في الدلالة على المراد، أو كانت غير صريحة فيسأل عنها صاحبها ويبين نيته.
تعليق :
قال الزركشي -رحمه الله-: ” الصريح يشترط فيه أمر واحد وهو قصد اللفظ، والكناية يشترط فيها أمران قصد اللفظ، ونية الإيقاع، وينبغي أن يقال: أن يقصد حروف الطلاق للمعنى الموضوع له ليخرج أنت طالق من وثاق” المنثور في القواعد الفقهية (2/ 310)
تعليق بسيط على قاعدة (الأمور بمقاصدها):
من خلال المرافعة في بعض قضايا الضبط الجنائي، لوحظ على بعض رجال الضبط تدوينهم في المحاضر: ” وكان المتهم ينوي فعل كذا وكذا ” وهذه من الأخطاء والإشكالات الكبيرة، فالدخول في النيات أمر لا يعلمه إلا الله تعالى.
تعليق: أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد عندما اشترط النية في التصريح بالإسلام، فلما قال: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا “، فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . قال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على هذه القصة : ” أعاد الاعتذار، وأعيد عليه الإنكار ” انظر: الفتح 12/198
النية في الحسبة مطلب شرعي:
قال السنامي:
وشرائط الأمر بالمعروف ثلاثة
الأول: صحة النية فيه وهو أن يريد إعلاء كلمة الله تعالى
والثاني: معرفة الحجة
والثالث: الصبر على ما يصيبه من المكروه . نصاب الاحتساب (ص: 336).
قال ابن حزم – رحمه الله في الأحكام :
” كل عمل خلا من نية أو كل نية خلت من عمل فكل ذلك فاسد لقوله تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} فأمرنا بشيئين كما ترى العبادة وهي العمل والإخلاص وهو النية فلا يجزىء أحدهما دون الآخر وبقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فصح بهذا النص أنه لا عمل إلا بنية ” الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 153)
الإخلاص لله تعالى في الاحتساب على صاحب المنكر مطلوب شرعاً، وإذا أخلص المحتسب في احتسابه وأمره ونهيه، أثمرت عاجلاً أو آجلاً .. يقول الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري:
“ذات مرة استفتاني والدي وهو على فراش الموت فأفتيته، فقال: يا بني! من غير احتقار لك، لا أقتنع إلا بفتوى من الشيخ ابن باز؛ فأتيت سماحته، فأفتاني وكان قد حُمل إليه عددٌ من مجلة الثقافة والفنون التي كتبت فيها خمساً وأربعين صفحة مما لا تَسر الكتابة عنها ولا تشرّف، فصار الشيخ ينهرني، ويردد: ما أعظم مصيبتك عند الله! ثم صار يبرم أطراف غترته، وقد اغرورقت عيناه من الدموع، ويدعو لي، فزالت الموجدة من نفسي، وتمزق قلبي حزناً لصدق هذا الإنسان في موعظته وحرصه على هداية الناس. ولو جادلني لكابرت في المجادلة، وقد فتح الله قلبي لحسن نيته، ومنذ تلك اللحظة بشهور تقلص حب الغناء والطرب من وجداني، وتولدت عندي كراهية للغناء، كراهية ما كنت أتصور حدوثها قط! فسبحان مقلب القلوب! انتهى. فتأمل في قوله: “وقد فتح الله قلبي لحسن نيته”.