من كرم الله على عباده أبناء الأمة المحمدية أن نعتهم بالخيرية والرفعة من بين الأمم, يصدّق ذلك قول الرب سبحانه: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:110].
في أمرهم للصلاة فضل، في أمرهم لإيتاء الزكاة فضل، في الإصلاح بين الناس فضل، في كل عمل خيري فضل وثواب، ويقابل ذلك في النهي عن الظلم فضل، في النهي عن المنكرات فضل، في النهي عن سماع الأغاني فضل.
قال تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحج:41].
ومن أوجب ما يلزم الفرد المسلم في دعوته هو احتساب ذلك لوجه الله، ومراقبته في القول والعمل، وابتغاء الفضل والثناء من الرب ذي الجلال والإكرام، وفقدان الاحتساب في العملية الدعوية كفقدان الملح من الزاد, بل أشد من ذلك وصفاً, كفقدان الماء من الحياة، فلا حياة ولا بقاء للدعوة بدونه، وقدوتنا في ذلك نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وأتباعه السلف الصالح, الذي كان الاحتساب في عصرهم عملاً مختلطاً في مناحي حياتهم البسيطة, والذي ينبغي اليوم هو الاستفادة من الماضي, وبناء خبرات الحاضر على ما أسس له القرآن والحديث النبوي وتكون أسسًا علمية مدروسة ومتطورة تناسب الظروف والأحوال، فمشكلات الواقع وتعقيداتها ينبغي على المحتسب أن يكون ذا فقه للواقع وذا فقه في عملية الاحتساب, فما كان يمنع باسم الدين أصبح يؤتى باسم الدين, أيضاً كيف يتعامل المحتسب مع ذلك!! هذا ما يدفع بالمحتسب للتعمق في العلم الشرعي وأسسه وأصوله, وذلك بالرجوع لمجالس العلماء وحلقهم والاستفادة منهم في كل صغيرة وكبيرة، ثم يتطلب من المحتسب أيضاً أن يعمل على معايشة المجتمع والواقع, فلا يكون بمعزل عن وقائع مجتمعه ومشكلاته, فما يدلي من رؤى وأطروحات تكون أشد البعد عن التنفيذ.
أيها المحتسب! الدعوة نهضة للأمة تؤتي ثمارها كل حين, فهي توجه للعطاء والصلاح في المؤسسات الأسرية, والاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية, وبذلك تتربى الأخلاق وتنشأ في مؤسساتنا الفضيلة وتجدد, فمن سنن الله في كونه ينازع الشر الخير, ويسعى أعداء الدين لمحاربة الفضيلة والمروءة في قعر دارها, لكن الله ينصر من ينصره ويثبت الأقدام.
الدعوة إلى الله تحتاج محتسباً صادقًا مع الله، ذا ضوابط في شخصيته وفي فكره وفي قلمه وفي علمه, تبين طريقة ومنهجية عمله في الاحتساب، الذي يجب أن يكون محفوفاً بالتميز والابتكار بأفكار علمية مدروسة, تتخللها المرونة والقدرة على الرد على البدع والشبهات, وذلك من خلال:
الصبر على نتائج الدعوة, فقد يصاحب المحتسب فتوراً في أول عقبة تواجهه، بل ينبغي الثبات والعمل بإخلاص على تفادي الأخطاء والتصحيح المؤدي إلى تحسين النتائج.
لين الجانب وخفض الجناح للمحتسب, كما قال تعالى: ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل:125], فإن ذلك حري بقبول الرأي والتأثير, فما خرج بلسان طيب ونية صافية تتوجه سهامها فوراً إلى قلوب التائهين, كما قال الشاعر:
عامل الناس بالحسنى ولين الجناب *** لأجل ترضى عليك وتكسب قلوبها
مراعاة حال المحتسب عليهم, فمنهم صاحب العلم والثقافة, ومنهم الأمي الذي يصعب عليه فهم الواقع ومتغيراته’ فيخاطب كلًا بلسان حاله: “حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-” أثر صحيح.
قد يواجه المحتسب عقبات وعوائق ينبغي عليه الأخذ برأي العلماء والاستفادة من تجاربهم في هذا المجال, ولا بد من التعاون مع أهل الفكر والمكانة, ممن يملكون زمام الأمر في بعض المؤسسات؛ لحل تلك العوائق: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى? [المائدة:2].
المجتمع الآن فئات ومذاهب لا ينبغي للمحتسب أن تأخذه الحمية لمذهبه, فينزع عنه لفظ الاحتساب, بل يوازن ويقارب للجميع, فالوسطية أمر مرغوب فيه: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? [البقرة:143].
فالمحتسب معمم للجميع وليس لأبناء مذهبه أو بلده, بل عليه واجبًا من عظمته اهتزت الجبال, ومنع استراق السمع من السماء؛ لأجل حماية هذه الأمة وسيادتها على جميع الأمم.
على المحتسب أن يطور من ذاته, ويعمل لإصلاح حاله, ومحاسبة نفسه, والتطلع لمنجزات أكبر باسم الدين, وتحت شعار: “لا إله إلا الله”.
يتطلب من المحتسب التوجه للدعوة عبر وسائل الإعلام التقنية الحديثة: المرئية, والمسموعة, والإلكترونية, ويكون تواجده مليئاً بالفقه والفائدة.
وأخيراً: أيها المحتسب! بعملك لن نهلك ولن تهلك هذه البلاد وهذه الأمة, فاصبر وشد من عزمك واصعد قمة العفاف والتقى والغنى: ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ? [هود:117].