المحتسب وتهيئة النفوس للسماع قبل الحسبة
إن المحتسب الحكيم هو الذي يبذل عرقه وجهده وفكره وروحه؛ من أجل تهيئة النفوس الشاردة، والعقول المشوشة؛ من أجل أن تقبل الحق، وذلك بالتلطف، والتدرج، والفهم العميق لحجم شرود هذه النفس، وقدر التشويش عند هذا العقل وذلك؛ من أجل إعداد الحجة، والبلاغ الذي يتناسب مع حال المحتسب عليهم، ومن حيث انتهى إليه فهمهم لا من حيث انتهى إليه فهم المحتسب!!
فالناس يختلفون في عقولهم، وفهمهم، وطبائعهم، وأخلاقهم، ومستواهم الفكري، والاجتماعي، ومن ثَمَّ تختلف الطرق والوسائل التي يجب على المحتسب أن يسلكها وما أجمل قول على بن أبي طالب: “حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله”(1).
ومثله قول ابن مسعود: “ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”(2).
ومثله قول عائشة رضي الله عنها: “أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم”(3).
فلا يكفى أن تعلم فقط، ولكن أيضاً أن تعرف متى وأين وكيفُ يبلِّغ ما تعلم!!
فالمحتسب الحكيم هو الذي يفهم الإسلام فهماً صحيحاً كما فهمه سلف الأمة ثم ينطلق في الحسبة؛ من أجل نشر الإسلام بشموله؛ لنقلهم من صورة الإسلام إلى حقيقة الإسلام وذلك بتبليغهم الأصول قبل الفروع وإلى الكليات قبل الجزئيات.
فبالتدرج في الحسبة تتهيأ النفوس للسماع، فالحجة لا تقوم على المدعوين إلا بالسماع؛ ولذا أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بإجارة المستجير من المشركين؛ لأن إجارته تهيئة لنفسه للسماع، فقال تعالى: ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ? [التوبة:6].
فأوجب سبحانه كف القتال عمن أظهر الرغبة في سماع كلام الله، بل جعل الغاية من إجارته إسماعه كلام الله ليكون كلام الله أول ما يقرع سمعه فيقع من نفسه موقع التمكن، وبذلك تقوم عليه الحجة.
وإذا فلا ضير من إعطاء المشركين الفرصة لكي تتهيأ نفوسهم لسماع القرآن ومعرفة هذا الدين، لعل قلوبهم تتفتح وتتلقى وتستجيب، فتزكو تلك القلوب، وتطيب تلك النفوس.
وقد فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك فقد كان يهيئ نفوس المشركين للسماع، فحينما جاءه عتبة بن ربيعة لمفاوضته -صلى الله عليه وسلم- هيأ نفسه للسماع أولاً بقوله: «قد فرغت يا أبا الوليد.. قال: نعم، فقال: بابن أخي فاسمع»(4).
ولا يخفى على أحد ما في هذه الملاطفة والتكنية من تهيئة للنفس للسماع، وحين اتكأ عتبة على يديه وقال: أسمع، أسمعه -صلى الله عليه وسلم- صدراً من سورة فصلت.
ونجد مصعب بن عمير وهو مبعوثه -صلى الله عليه وسلم- يبدأ بتهيئة نفوس مدعويه للسماع، فحينما جاءه كل من زعيمي بني عبد الأشهل أسيد بن حضير وسعد بن معاذ -رضي الله عنهما- كان يبدؤهما بعرض السماع أولًا فيقول: “أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكرهه”(5).
وبهذه الملاطفة والعرض المنصف هيأ نفسيهما للسماع، فلما سمعا أسلما، وأسلم أقوامهما.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يهيئ نفوس أصحابه للسماع فعن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: «استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»(6).
فدل الحديث على أنه -صلى الله عليه وسلم- استنصت أصحابه قبل أن يعظهم ليهيئ نفوسهم لسماع كلامه، ثم حفظه ثم العمل به ونشره، وقد ذكر الحافظ ابن حجر حكمة عظيمة بين فيها التدرج في تلقي العلم، وأن أوله الاستماع فقال: “قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر”(7).
ومما كان يهيئ به -صلى الله عليه وسلم- نفوس أصحابه للسماع والفهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يبدءوهم بالسؤال أولاً ثم يلقي عليهم المسألة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»(8).
فكرر -صلى الله عليه وسلم- السؤال ثلاث مرات ليكون أبلغ في فهمهم وإقبالهم على كلامه، يشير إلى ذلك ابن حجر رحمه الله بقوله: “قال القرطبي: سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: «فإن دماءكم…» الخ، مبالغة في تحريم هذه الأشياء انتهى”.
ومما كان يهيئ به صلى الله عليه وسلم النفوس لسماع الترحيب بالقادم والتلطف معه وتأنيسه والثناء عليه كما فعل -صلى الله عليه وسلم- مع وفد عبد القيس، حيث أثنى عليهم وأخبر أنهم خير أهل المشرق، فاستقبلهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبشرهم بذلك، ثم بعد وصولهم رحب بهم صلى الله عليه وسلم (9) حيث قال لهم: «مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى».
فدل ذلك على أن الاهتمام بالمحتسب عليهم مدخل طبيعي إلى نفوسهم(10)، وله أثره في تلقي النفوس للحق وقبوله، وبالتدرج في الحسبة تظهر أهمية مراعاة العوامل النفسية لدى المدعوين، وبهذا الاهتمام وتلك المراعاة تتهيأ نفوسهم لسماع الحق ومن ثَمَّ قبوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري مع الفتح كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/ 272.
(2) مسلم في المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع 1/ 11 مع شرح النووي.
(3) مسلم في المقدمة مع شرح النووي 1/ 55.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، (15/ 338 ).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 59).
(6) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء حديث رقم (121).
(7) فتح الباري (1/ 294).
(8) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى حديث رقم (1652).
(9) انظر: فتح الباري (8/ 421).
(10) التدرج في دعوة النبي (132).