المقدمة:
تعتبر الحسبة من كُبريات القضايا ومُهمات المسائل في الشريعة؛ وذلك لعظم متعلِقاتِها (المجتمع ـ القيم).
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه أو السياسة الشرعية إلا وفيه إيضاح وبيان لهذه القضية المهمة, والتي هي جزء من النظام الإداري الإسلامي الأصيل المنبثق من نظام الخلافة والإمامة والحكم بما أنزل الله عز وجل.
ومع عظم مكانتها وأهمية أمرها ووضوح ذلك ما زال البعض يشكك في هذه القضية, إما بقصد وإما بغير قصد, وبعضهم حاقد وبعضهم مشفق خائف.
وقبل أن نلج إلى الموضوع لا بد من مدخلين: مدخل تعريفي, ومدخل عقدي.
المدخل التعريفي:
الحسبة لغة: من مادة (حَسبً), والتي من معانيها العدُّ, ومن ذلك: ?الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ? [الرحمن:5].
والحسب هو تعديد الآباء افتخارًا بهم, ومنه احتساب الأجر الذي هو انتظاره وطلبه, وقوله سبحانه: ?وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ? [الطلاق:3], من حيث لم يعُد ويضعُه في حسابه.
ومن المعاني أيضاً: الكفاية, ومن ذلك: ?حَسْبِيَ اللّهُ? [التوبة:129].
وفي الحسبة كفاية وصدٌ للشر وحفظ المجتمعات.
المحتسب ليس متطوعًا؛ لأنه موضع المسؤولية, وهو متفرغ لهذا العمل.
الحسبة شرعاً: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه, ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله(1).
ويعرفها ابن خلدون: وظيفة دينية كسائر الوظائف, مثل: إمامة الصلاة والقضاء والجهاد(2).
ويمكن أن نخلص إلى أنّ السلطان المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وينيب عنه أهل الحسبة؛ لحاجة المجتمع إليهم.
المدخل العقدي والأصولي:
1- لا اختيار للعبيد:
حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا? [النساء:65].
ونعني بها: التسليم الكامل والانقياد التام لله عز وجل في كل مفردات الحياة؛ حيث لا صلاح للإنسان إلا بتحقيق العبودية لله, والتي من مقتضاها: ألا تعارض أوامره وتعاليمه ومراده أبداً, وأن نُقِرَّ أن حكمه لنا أفضل من حكمنا لأنفسنا: ?وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ? [الرعد:41].
وأنَّا لن نكون أرحم بعباد الله من الله عز وجل الذي خلقهم وسواهم: ?أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ? [البقرة:140].
2- جميع الولايات الشرعية:
مفادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والذي خلاصته المجتمع المعافى من الشرور والآثام, والذي ترفرف في جنباته أعلام الفضيلة والخير.
يقول تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ? [البقرة:193].
وكل الشريعة الإسلامية معروف تحث عليه ومنكر تنهى عنه, وهذا يحتاجه كل بشر وكل البشر؛ وذلك لأن كل إنسان يحتاج هذا في نفسه وكذلك غيره من بقية أفراد المجتمع(3).
3- الكتاب الهادي والحديد الناصر:
منهج الإسلام معتدل ومتوازن ففيه القيم الروحية والشعائر التعبدية, وكذلك فيه القوة والشوكة التي تحمي القيم وتصون المجتمعات من الفوضى والعبث والمجون والمارقين.
ولذلك يقول تعالى: ?لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ? [الحديد:25].
وإذا كان الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية بالنسبة لعموم المسلمين, وهي منوطة بالقدرة, فإنها فرض عين على السلطان المسلم(4).
ذلك لأن البعض يريد أن يختزل الإسلام في كونه ديناً روحيّاً فقط, وبذلك يجرده من التأثير ومن القوة المادية التي تحفظ بها كل المجتمعات, بما فيها الدول الكافرة.
والإسلام يملك قوة روحية هائلة وقوة مادية نافعة, ومن هنا كانت الشوكة والسلطان من المعينات والمرتكزات.
والله عز وجل يقول: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحج:41].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده»(5).
ما معنى (اليد) هنا؟ هل تعني الملاطفة والود, وأن نربت بها على أكتاف المفسدين اعتذاراً لهم؟ إن مفهوم اليد يعني الردع والزجر والمنع للمنكر, كما يعني استعمال السلطة وكل أجهزتها لهذا الغرض, من إعلام ومناهج ومؤتمرات وطباعة كتب ومساعدة الدعاة وبذل الأموال للعفاف ومحاربة الفساد, ولا يُقصد بها الجلد والضرب فقط, وفي كل الأحوال، ولقد كان من فقه الخلفاء الراشدين وعلمهم وإدراكهم لهذا المعنى أن قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه- مقولته المشهورة الداوية المجلجلة: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”(6).
آثار الحسبة وفوائدها على المجتمع:
من تأمل حقيقة الحسبة يجدها تعزز القيم الفاضلة للمجتمع, وبالتالي تمثل خط الدفاع الأول عن الأمة, وهي تسهم في بناء المجتمع بتعزيز الخير, وكذلك بدفع الشر, (المعروف – المنكر), وهي أيضاً صمام أمان للمجتمع المسلم, ويمكن أن نتحدث عن حاجتنا لها وعن دورها في حفظ المجتمع من خلال النقاط التالية:
1- اختصاصات المحتسب:
من يتأمل الفقه الإسلامي يجد فيه للمحتسب مكانة عظيمة, فهي تشمل جوانب كثيرة, ولا تقتصر على (الضرب والجلد) كما يصورها البعض, بل ذكر فقهاء السياسة الشرعية أنها تشمل الحسبة في حقوق الله, وكذلك في حقوق خلقه العامة والخاصة, فقد ذهب أبو يعلى الفراء: “أن المحتسب في حقوق الخلق العامة يصلح الآبار, ويهيئ السقيا والشرب, ويحافظ على المرافق العامة”(7).
ومن اختصاصاته:
أ- الأمر بالمعروف فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى: كالتذكير بالصلوات, وهي من أهم الشعائر؛ ولذلك أرسل عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- إلى ولاته يقول لهم: “إنّ أهمَّ أمركم عندي الصلاة, من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه, ومن ضيّعها كان لما سواها أشدّ إضاعة”(8).
وكذلك كل ما من شأنه أن يعيق العبادات كلها أو يعكر صفوها من اختصاصات المحتسب أن يتدخل.
ب- الأمر بالمعروف فيما يتعلق بالحقوق الآدمية العامة, فقد مضى أنه يصلح المرافق, يبني ما تهدم.. وغير ذلك مما يفيد المجتمع, وللمحتسب أن يتدخل في الأمر بالمعروف لرد الحقوق الآدمية الخاصة, بشرط ألا يحصل فيها تناكر وتنازع؛ لأن هذه محلها القضاء, وله أن يتدخل في الأمر بالمعروف بأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى(9).
ج- النهي عن المنكر فيما يتعلق بحقوق الله: أعلى منكر يحاربه المحتسب الشرك والدجل والخرافات والسحر والسحرة, وعليه أن يحارب هذا بالتوعية والتعليم والدعوة, وكذلك بالتدخل لمنع هذه الأمور, وتقديم من يحتاج تقديمه للقضاء -حادثة قتل الطالبة في كلية الطب من قبل مشعوذة-, ثم تأتي البدع في الدين, والنهي عنها ومنعها من أهم الأولويات.
وكذلك تأخير الصلاة وتركها, وكل ما يتعلق بتضييع حقوق الله الظاهرة, والتي لا خلاف فيها.
ومن المنكر الذي يتعلق بحقوق الله: منع الفساد, وهذا سوف نفرده بالحديث إن شاء الله.
د- النهي عن المنكر فيما يتعلق بحقوق الآدميين: مثل المشاجرات, والمعاملات المحرمة في الأسواق, ومنها بيع العِينة الذي انتشر في عصرنا (الكسر), وكذلك كل حقوق بين الآدميين وتظالم يتدخل المحتسب لمنعه, بل يرى الفراء أنه يتدخل في أمور الجودة والرداءة بالنسبة للسلع(10).
وبالتالي يمكن أن نقول: إن الشرطة كلها وبكل أقسامها محتسب, وأن الأمر لا يرتبط بقسم معين منها, وإن أفردوا قسماً خاصاً -جزاهم الله خيراً- لمحاربة الفساد تحت مسمى: (أمن المجتمع).
هـ- المحتسب في بعض النواحي يتفوق على القضاء, وفي بعضها أقل رتبة من القضاء, وكل هذا لمصلحة الإسلام ورعاية الأخلاق, والمحافظة على الوطن والمواطن.
فالمحتسب يتدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون استدعاء أو استعداء من أحدٍ, بخلاف القاضي الذي لا بد أن ترفع له دعوى.
والمحتسب أيضًا يتدخل في المنكرات الظاهرة من نفسه لمنعها؛ لأن الحسبة وضعت للرهبة, والقضاء للمناصفة.
والقضاء أعلى من الحسبة في أمرين أيضاً: وهما أن المحتسب لا يسمع الدعوى بين الخصوم, وليس هذا من اختصاصاته, وبالتالي القاضي يقيم الحدود والعقوبات, وليس للمحتسب أن يقيم الحدود, ولكن له أن يعزر بقدر الحاجة.
كما أن القاضي ينظر في كل القضايا التي عنده, أما المحتسب فإنه يختص فقط بالحقوق الثابتة والمعترف بها, والتي لم يدخلها التناكر والتجاحد.
المهم أن الحسبة خادمة للقضاء, كما أفاد ذلك ابن خلدون في المقدمة(11).
2- الحسبة والنظام العام:
من أكبر آثار الحسبة وفوائدها: حمايتها للنظام العام, وذلك بتقديم الحق العام على الحق الخاص, هذا إذا افترضنا تنزلاً أن للأفراد حرية أن يفسدوا!!!
والحسبة تمثل نظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة؛ إذ لها جانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة, وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخص, وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها, والحفظ على الأعراض والحرمات(12).
بل من حق المجتمع أن يسلم من الجريمة والفساد, وأن يأمن على أخلاقه وآدابه.
3- الحسبة والفوضى الفكرية والأخلاقية:
إن سلامة المجتمعات الحقيقية في سلامة المعتقد واستقامة الأفكار, وإن الحسبة الفاعلة هي التي تراعي هذا الجانب في ما ينشر ويقرأ من كتب, وكل عقيدة فاسدة على المحتسب منعها.
“وإذا كان من واجب المحتسب أن يمنع الغش والتدليس في المعاملات فمن باب أولى في الديانات”(13).
والحسبة تحمي المجتمعات بمنع الفوضى الأخلاقية والاستهتار الذي نراه في الطرقات والمنتزهات وغيرها, وقد مر علينا أن المحتسب ينهى عن المنكرات الظاهرة, ويلاحق المجرمين, ويمنع وقوع الجريمة، وكذلك يعمل على الاحتراز من الجريمة, ويكون هذا مع وجود التهمة ومظانها بغير تجسس منه, وإن كان له أن يمنع من الاجتماع في مظان التهم, مثل: من رأى رجلًا وامرأة في مكان مظلم أو طريق مهجور, فهذا موقف ريب, فينهاه المحتسب برفق, كأن يقول له: “إن كانت لك محرمًا فقد عرضتها للتهمة, وإن كانت أجنبية فعلت ما يغضب ربك”(14).
فالمحتسب ينهى عن مواقف الريبة ومظانها؛ احترازاً من الجريمة قبل وقوعها.
ولا بد أن أشير هنا إلى سماسرة الرذيلة ودهاقنة الفجور, الذين يدافعون عن الفساد وينشرونه في أوساط الشباب, وهذا يذكر قول الله سبحانه: ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? [التوبة:67].
وقوله سبحانه: ?وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا? [النساء:27].
وهؤلاء أولى بالحسم والردع من غيرهم.
4- الحسبة وأمن المجتمع:
إن ما سبق من فوائد الحسبة وآثارها الطيبة على المجتمع تعود إلى أمن المجتمع فكرياً واجتماعياً واستقراره؛ وذلك لقلة الفساد ومحاصرته, مع بركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن الأمن سببه الإيمان بالله عز وجل والأعمال الصالحة: ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ? [الأنعام:82].
ولا شك أن زجر المجرمين وتخويفهم يعني أمن المجتمع وسلامته.
والحسبة أيضًا تمنع ظهور الأفكار المتطرفة؛ لأن وجود الفساد وظهوره وجرأته يستفز أهل الاستقامة, فإما أن يغيروا المنكر بأنفسهم, وهذا ما لا تحمد نتائجه, وقد يفضي إلى مفاسد كثيرة, وإما أن تقوم بهذا العمل جهات مسؤولة, ولها أن تتعاون مع المصلحين في المجتمعات؛ لمنع الفساد, وبالتالي سلامة المجتمع من الفساد, وقطع الطريق أمام الأفكار والأعمال المتطرفة.
كما أن الحسبة تعيد للمجتمع الثقة فيه وفي أفراده, وتشعر بقوة المجتمع واستقامته وحرصه على هُويته وثقافته وشريعته؛ ولذلك يرى ابن تيمية: “أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يجعل الإجماع حجة؛ لأن حرص الأمة على المعروف ونهيها عن المنكر يجعلها لا تجتمع على ضلالة؛ إذ إن مثلها لا يقر المنكر أبداً”(15).
5- الحسبة وتأجيج الشهوات:
ما كل شخص يريد المنكر ابتداءً, لكن لما يتزين له يقع فيه, ومن هنا اعتبر الشارع أن بعض الأمور فتنة, كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»(16).
وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»(17).
قد ينظر رجل إلى امرأة تثيره في الطريق أو في مكان عام, وتبقى الإثارة فيزني بأخرى.
ثم أليس من حق شبابنا ألا يفتن؟؟ سؤال بريء.
6- الحسبة والتدخل السريع:
عصرنا من أوضح سماته السرعة في معظم مفرداته بما فيها المعاصي؛ ولذلك لا يتناسب مع الجريمة السريعة إلا الحسبة؛ لأنها أصلًا موضوعة لمحاربة المعاصي والمنكرات, وأحياناً الإجراءات والقيود تكون من صالح الجريمة, ولذلك الحسبة هنا تحفظ المجتمعات بالتدخل السريع لمنع المنكر، والأصل أنها تتدخل بغير تجسس؛ لأنها ضد المنكرات الظاهرة, ولكن لو احتاجت في بعض الحالات الخاصة للتجسس جاز ذلك لها, مثل عمل كمين للمخدرات التي يراد الترويج لها, أو لو وصلتها معلومة بأن شخصًا يريد قتل آخر, فيجوز لها أن تقتحم دون إذن.
مخاطر ترك الحسبة:
1- التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى:
ذلك لأن المعاصي والذنوب سبب لغضب الله عز وجل؛ لأنه لا يحب الفساد, ولا يرضى لعباده الكفر, وهو أعظم غيرة أن تنتهك محارمه, وأن يعتدى على حدوده سبحانه وتعالى.
2- السكوت على المنكرات سبب للهلاك والعقاب الإلهي:
يقول الله عز وجل: ?وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [الأنفال:25].
ولا شك أن ظهور المنكرات سبب لهلاك الأمم وذهاب الدول وتسلط الأعداء: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تبايعتم بالعينة, وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد, سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(18).
بل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سألته زينب بنت جحش ?: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم, إذا كثر الخبث»(19).
إن المعاصي والمنكرات سبب لغضب الله ومقته وعقابه, قال تعالى: ?فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ? [الفجر:12-14].
وقال سبحانه: ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ? [الشورى:30].
وأدل دليل من الواقع (الإيدز)؛ حيث يقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»(20).
3- الجرأة وذهاب الحياء:
من مخاطر ترك الحسبة: تجرؤ المفسدين وتأمينهم, مما ينعكس على المجتمع في شكل أخطار تهدد العقائد والأنفس والأموال والأعراض والشباب والأسر.
وبالتالي يذهب الحياء, وتنتكس الفطرة, فتصبح كثير من المنكرات لكثرة وجودها مألوفات يبدأ المجتمع في الأول بإنكار والوجدان السليم ببغضها, ومع كثرتها تصير عادية, ثم مألوفة, ثم تصير معروفاً يدافع عنه: (التبرج- التهاون في العلاقات بين الجنسين أنموذجاً)، قال –صلى الله عليه وسلم-: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت»(21).
4- الفساد عبر القدوة:
من مخاطر ترك الحسبة: ظهور أهل الفساد كقيادات في المجتمع خاصة بالنسبة للشباب, وبالتالي يصبح الشباب بغير انتماء حقيقي لدينه وأمته.
كما أن غياب الحسبة يجعل من لا يريد المنكر ابتداءً يفعله اقتداءً، بمعنى أن المنكر تزين له, فكان الإغراء والإغواء, وبهذا ضل كثير من الشباب وتاهوا.
5- سفينة المجتمع:
الحسبة هي التي تقود السفينة بسلام وأمان دون أن يهلك الجميع, وإلا فمن المخاطر أن يهلك المجتمع كله, فلا يظهر من المجتمع الطيب إلا الصورة القبيحة والوجه الكالح, فلا يظن بهذا المجتمع خيراً, بالرغم من وجود الأخيار, هذا مع الهلاك بكل معانيه: من ذهاب القيم والحياء, وظهور الفساد الذي يطال شبابنا في بيوتنا, ثم العقاب الإلهي: ?إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ? [البروج:12].
حديث السفينة:
عن النعمان بن بشير –رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم, فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا, فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»(22).
إشكالات:
حتى يكتمل الكلام لا بد من التطرق لبعض الإشكالات, والتي أقعدت الحسبة عن دورها الريادي, وهذه الإشكالات بعضها مفاهيمي وبعضها سلوكي، يمكننا مناقشتها كالآتي:
1- السلبية (خلو الخلق لخالقها):
هذا مفهوم خاطئ, يمنع ممارسه الحسبة, ويدعو للانزواء والابتعاد عن هذه الشعيرة العظيمة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
والرد بسيط: يقال له: إن خالق الخلق قال: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
ويقال: هذا ما يكون في المنكرات الخفية, وليس فيها اعتداء على الآخرين, والحسبة في المنكرات الظاهرة.
2- القول بأن من يقومون بالحسبة ليسوا بمؤهلين:
ونقول: هذا جيد لا بد من المؤهل وهذا مطلوب, وهو موجود في آداب المحتسب وصفاته؛ حيث عليه أن يكون عالمًا بالمنكرات الظاهرة, وخبيراً بها وبمن يفعلها, وأن يكون رفيقاً في أمره ونهيه, وأن يكون حليماً وصابراً لا ينتصر لنفسه إنما لدينه.
والخلاصة: أن يتصف بالعلم قبل الإنكار, والرفق معه, والصبر بعده, ولكن عدم وجود الكفاءة -وهذا غير مسلم به- لا يمنع الحسبة والقيام بها؛ إذ الواجب دفع المنكر بالكوادر المتاحة والموجودة, وهذا أفضل من ترك المنكر, ثم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر, وبأقوام لا خلاق لهم(23).
ونحن نثق في القائمين عليها اليوم, ونأمل أن يستفيدوا من الملاحظات الهادفة, من أجل تجويد العمل وتجاوز السلبيات.
3- ربط الحسبة بالعنف:
هذا لا شك أنه غير صحيح, فلا يلزم م قيام الجهة المسؤولة, والتي معها هيبة السلطان أن يكون هذا بالعنف, ولكن لا يمنع من استعماله إذا لم يندفع المنكر إلا به.
ثم إن للحسبة مراتب في الإنكار, تبدأ بالقول الحسن ثم القول الخشن ثم بالتوبيخ ثم التهديد ثم الضرب واليد ثم المقاتلة, ما لم تثر فتنة, وليس له السيف, وكل ذلك على حسب الحاجة(24).
4- تضخيم بعض الأخطاء الفرديّة للمحتسبين:
لا شك أن هذا قد يوجد, ولكن ليس سبباً لإلغاء المبدأ العظيم, وإنما ينبغي أن يصحح الخطأ لصالح المبدأ, بل إن كثيرًا من الأمور الصحيحة عند الممارسة يكون فيها خطأ, فهل تلغى كلها؟!
5- عدم التعاون مع الجهات المختصة:
الحسبة الرسمية تمتاز بأن لها قوة السلطان, لكنها قد تصنف في إطار سياسي ضيق, وترتبط بالنظام الحاكم, لكن الواجب أن نتعامل مع الحسبة ودفع المنكر عن المجتمع (كله)؛ باعتبارها دينًا وشريعة من رب العالمين, وباعتبارها طاعة له سبحانه وتعالى.
كما أن الأجهزة الشرطية والعدلية هي ملك للمجتمع لا للدولة ولا لجهة معينة, فيلزم من هذا التعاون معها, وهذا الأخير مهم.
الخاتمة:
أختم هذه الورقة ببعض التوصيات والمقترحات التي أراها مهمة:
1- إشاعة مفهوم الاحتساب وفقهه بين الجميع, وخاصة في ما يتعلق بالاحتساب (المجتمعي), أي: أن يمارس جميع أفراد المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولا سيما رب الأسرة في بيته, ومدير الجامعة وأساتذتها في جامعتهم, وصاحب كل مؤسسة في مؤسسته, وعلى جميع المسلمين القيام بهذا الواجب كل على حسب قدرته واستطاعته من علماء ودعاة وشرائح مختلفة؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(25).
ولا شك أن إنكار المنكر بالقلب يقدر عليه الجميع, ولا يعفى منه أحد.
2- على الأجهزة الرسمية والمختصة أن تتكامل في قضية الحسبة؛ حيث لا يمكن أن تبني بعض الأجهزة الأخلاق, وأخرى تهدمها (الأفلام والمسلسلات ونشر الغناء الفاضح وفتح المجال للإذاعات الغنائية.. وغيرها), فلا بد أن تتكامل الأجهزة, وتتسق مع بعضها, ونركز هنا على الإعلام بكل أنواعه: (المرئي, والمسموع, والمقروء).
3- الاهتمام بأمر القدوة الصالحة؛ لأنها أبلغ في التأثير, وأقوى في الإصلاح, وخاصة الأجهزة الرسمية, لا بد أن تكون الأحسن أداءً والأفضل انضباطاً؛ حتى لا تحتاج هي نفسها إلى حسبة.
4- تدريب الكوادر القائمة على هذا الأمر واختيارها بعناية:
أولاً: لتحقيق أكبر قدر ممكن من الخير.
ثانياً: صيانة الحسبة؛ حتى لا يساء إليها.
ثالثاً: طلباً للكمال في هذا الموضوع.
رابعاً: رحمة بالمحتسب والمحتسب عليه.
خامساً: ليثق المجتمع في الحسبة وأهلها.
5- إعطاء المحتسبين مساحة أكبر للتحرك, ودعمهم مادياً ومعنوياً لفرض هيبة الحق, وإذلال الباطل.
6- التعاون مع المحتسبين, وأعني بهذا: أن يتعاون المجتمع مع المحتسبين, بالدفاع عنهم, ورفع الأمر إليهم, وإبلاغهم بأماكن المنكر, وأن يدلوهم عليها, وأن يثقوا فيهم, وهذا يحتاج إلى قناعات قوية, وأن يحدث هذا بتلقائية ودون تكلف, بعد أن يستشعر المجتمع خطورة المنكرات والفساد.
7- الاستفادة من المتطوعين, والتكامل معهم, لا سيما من المنظمات والجماعات والمجموعات الدعوية والخيرية.
8- الاستفادة من تجارب بعض الدول الإسلامية ذات الخبرة الطويلة في موضوع الحسبة, (بالطريقة التي يراها القائمون على أمر الحسبة مناسبة).
9- الكوادر.
مقدمة إلى المؤتمر العلمي الحسبة مسئولية الجميع
_________________________________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي (ص:240), الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي (8/ 6258).
(2) المقدمة (ص:195).
(3) انظر الفتاوى الكبرى (28/ 133).
(4) انظر الفتاوى (28/ 53).
(5) رواه مسلم.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية (11/ 395).
(7) راجع الأحكام السلطانية (ص:289).
(8) الموطأ حديث رقم: (6) موقوفاً.
(9) راجع الأحكام السلطانية للفراء (ص:291).
(10) الأحكام السلطانية (ص:303).
(11) المقدمة (ص:195).
(12) الفقه الإسلامي وأدلته (8/ 6259).
(13) انظر الفتاوى الكبرى (28/ 84).
(14) انظر الأحكام السلطانية للفراء (ص:294), الفتاوى الكبرى (28/ 64).
(15) انظر الفتاوى (28/ 100).
(16) متفق عليه.
(17) رواه مسلم.
(18) رواه مسلم.
(19) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم: (3598) الفتح (6/ 611).
(20) أخرجه ابن ماجه.
(21) رواه البخاري.
(22) رواه البخاري والترمذي.
(23) انظر الفتاوى (28/ 55).
(24) انظر إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 359-360), والسيل الجرار للشوكاني (ص:586).
(25) رواه مسلم.
الرابط: http://www.saaid.net/alsafinh/22.htm