بسم الله الرحمن الرحيم
اتفق أهل الشرائع السماوية وعقلاء بني آدم على أن أهم ما يصلح به حال البشر حفظهم لأمور كلية خمسة، هي ما يطلق عليه الكليات “الضروريات” الخمس: الدين, النفس, العقل, النسل, المال.
وقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام وافية لحفظ هذه الضروريات الخمس, سواء من حيث الوجود؛ إذ شرعت لها ما يحقق وجودها في المجتمع، أو من حيث البقاء والاستمرار بإنمائها وحمايتها من أسباب الفساد والزوال.
أولا: حفظ الدين:
قدر الإسلام ما للدين من أهمية في حياة الإنسان؛ حيث يلبي النزعة الإنسانية إلى عبادة الله، ولما يمد به الإنسان من وجدان وضمير، ولما يقوى في نفسه من عناصر الخير والفضيلة، وما يضفي على حياته من سعادة وطمأنينة.
نظرًا لتلك الأسباب كلها كان الدين ضرورة حياة بالنسبة للإنسان، قال تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ? [الروم:30].
ولذا يقول (برجستون): “لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات, ولكن لم توجد قط جماعة بغير ديانة”.
ونظرًا لتلك الاعتبارات حافظت شريعة الإسلام على الدين، سواء من حيث غرسه في النفوس وتعميقه فيها ابتداء، أو من حيث تدعيم أصله وتعهده بما ينميه ويحفظ بقاءه استمراراً ودوامًا، وشرعت لذلك الوسائل التالية:
أ- وسائل حفظ الدين من جانب الوجود:
من وسائل غرس الدين في النفوس ابتداء في الشريعة الإسلامية الوسائل التالية:
1- ترسيخ اليقين بأصول الإيمان وأركانه، وهي الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره، يقول الله تعالى: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ? [البقرة:285].
ويقول تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا? [النساء:136].
2- إقامة هذا الإيمان على البرهان العقلي والحجة العلمية، ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر: ?أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ? [الأعراف:185].
وكان نعيه على أولئك الذين لا يتفكرون في الآيات المبثوثة في الكون: ?وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ? [يوسف:105].
كما شن حملة شعواء على تقاليد الآباء وأخذ المعتقدات من غير نظر ولا برهان: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ? [البقرة:170].
3- القيام بأصول العبادات وأركان الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج، بعد النطق بالشهادتين فهذه العبادات من أهم أسرارها وحكمها أنها تصل العبد بربه وتوثق صلته به مما يرسخ أصل الإيمان في نفسه ويجدده، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه».
ويقول صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا».
4- إيجاب الدعوة إلى الله وحمايتها وتوفير أسباب الأمن لحملتها: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? النحل:125].
?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? [لقمان:17].
?أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى? [العلق:9-10].
?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ? [البروج:10].
ب- وسائل المحافظة على الدين من جانب البقاء:
المقصود بها الوسائل التي انتهجتها الشريعة في المحافظة على الدين بعد حصوله؛ لصيانته وإزالة العوائق من طريقه، وتزكيته في النفوس.
ومن هذه الوسائل:
1- كفالة حرية العقيدة والتدين وحمايتها, فالإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه، ويسمح بتعايش مختلف الأديان داخل دياره وفي رحاب دولته، ويترك الحرية لأهل الأديان في عقائدهم وممارستهم التعبدية وتصرفاتهم المدنية, كما قال تعالى: ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [البقرة:256].
قال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في تفسير الآية: “وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس, وقال: عنى بقوله تعالى ذكره: ?لا إكراه في الدين?: أهل الكتابين والمجوس, وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخًا”.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: “يَقُولُ تَعَالَى: ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين? أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ, لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ, وَشَرَحَ صَدْرَهُ, وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا”.
وقال القاسمي رحمه الله: “قال القفال: لما بيّن تعالى دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر، أخبر بعد ذلك أنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر, إلا أن يقسر على الإيمان, ويجبر عليه, وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء؛ إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان, ونظير هذه الآية قوله تعالى: ?فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ? [الكهف:29].
وقوله تعالى: ?وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ? [يونس:99].
وقوله تعالى: ?لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ? [الشعراء:3-4]”.
بل إن من أهداف الجهاد الإسلامي تأمين حرية الاعتقاد والتدين، قال تعالى: ?وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا? [الحـج:40].
2- تشريع الجهاد تمكينا للدين ودرءًا للعدوان وحماية للاعتقاد, قال تعالى: ?وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ? [البقرة:190].
?وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا? [النساء:75].
3- الالتزام بتعاليم الدين وتطبيقها بعد القناعة بها, وبذلك تظل للدين حيويته في النفوس وأثره في الوجدان، ومن هنا قرن الإيمان والعمل الصالح في كثير من نصوص القرآن؛ إذ كثيرًا ما يرد في القرآن: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ? [البقرة:277].
4- تشريع عقوبة الردة, وذلك حتى يكون الإنسان جادًا في اعتناقه للإسلام، وحتى لا يقدم على الإسلام إلا بعد قناعة تامة، فالإسلام لا يكره أحدًا على اعتناقه, بل إن الله لا يقبل من الدين إلا ما كان نابعًا عن قناعة من صاحبه، فإذا دخله الشخص فمن المفروض أن يكون على قناعة بما اتخذ من قرار، فإذا ارتد بعد ذلك فمعنى ذلك: أنه أحدث بلبلة فكرية وسياسية تضطرب بها أوضاع المجتمع، ويفقد استقراره الفكري والنفسي المنشود, كما قال تعالى مبينًا دعوة المشركين إلى هذه السياسة: ?وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? [آل عمران:72].
ونظرًا لذلك شرعت عقوبة الردة, حماية لجدية الاعتقاد، وحرمة الدين.
5- إقامة سياج من الحاجيات والتحسينات كأداء الصلاة جماعة، كنوافل العبادات المختلفة وبكل هذه التشريعات يتأصل الدين، ويرسخ في نفس الإنسان وفي المجتمع، مما يحقق الأنس والسكينة والخير للفرد والمجتمع.
ثانيا: حفظ النفس:
من ضروريات الحياة الإنسانية: عصمة النفس وصون حق الحياة, وقد شرع الإسلام عدة وسائل للمحافظة على النفس:
أ- فمن جهة الوجود:
شرع الزواج من أجل التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس لتعمر العالم وتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف، وقد نوه الإسلام بالعلاقة المقدسة بين الزوجين واعتبرها آية من آيات الله: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً? [الروم:21].
ب- أما من جهة الاستمرار والدوام:
قد شرع عدة وسائل لحفظ النفس:
1- أوجب على الإنسان أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته.
كما اعتبر الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع ممثلًا في الدولة بتوفيره للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان -إذا وجد نفسه مهددة- أن يدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة.
2- أوجب على الدولة إقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد، من قضاء وشرطة.. وغيرها، مما يحقق الأمن للمجتمع.
3- أوجب المحافظة على كرامة الآدمي بمنع القذف والسب، ومنع الحد من نشاط الإنسان من غير مبرر، وبهذا حمى حريات الفكر والعمل والرأي والإقامة والتنقل وكفلها, قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا? [الأحزاب:58].
4- تشريع الرخص بسبب الأعذار الموجبة للمشقة التي تلحق النفس فينشأ منها ضرر عليها، ومن ذلك: رخص الفطر في رمضان بسبب المرض والسفر، وقصر الصلاة في السفر.
5- حرم الإسلام قتل النفس سواء قتل الإنسان نفسه أم قتله غيره, قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? [النساء:29].
وشنع على هذه الجريمة, فاعتبر قتل نفس واحدة بمثابة قتل الناس جميعًا، قال تعالى: ?أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا? [المائدة:32].
وقال تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ? [الأنعام:151].
وقال سبحانه: ?وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا? [النساء:93].
وفي المسند بإسناد صحيح عَنْ أَبِي بَكَرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ، -أي: في غير حق- حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وفي البخاري: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
6- أوجب القصاص في القتل العمد، والدية والكفارة في القتل خطأ, قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى? [البقرة:178].
وقال تعالى: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا? [النساء:92].
7- إعلان الجهاد حفظا للنفوس وحماية للمستضعفين: ?وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ? [النساء:75].
8- أوجب على المسلم إنقاذ من يتعرض للقتل ظلمًا, أو يتعرض لخطر إن استطاع أن ينقذه.
9- كما شرع للإنسان أن يدفع عن نفسه إذا هاجمه من يريد الاعتداء عليه دون تحمل أية مسؤولية إذا مات المهاجم، وثبت أنه كان يريد الاعتداء عليه.
ثالثا: حفظ العقل:
للعقل في الإسلام أهمية كبرى فهو مناط المسؤولية، وبه كرم الإنسان وفضل على سائر المخلوقات، وتهيأ للقيام بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة من عند الله، قال تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا? [الأحزاب:72].
ولهذه الأهمية الخاصة حافظ الإسلام على العقل, وسن من التشريعات ما يضمن سلامته وحيويته, ومن ذلك:
1- أنه حرم كل ما من شأنه أن يؤثر على العقل ويضر به أو يعطل طاقته كالخمر والحشيش.. وغيرها, قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [المائدة:90].
2- كما شرع العقوبة الرادعة على تناول المسكرات, وذلك لخطورتها وأثرها البالغ الضرر على الفرد والمجتمع.
3- أنه ربى العقل على روح الاستقلال في الفهم والنظر واتباع البرهان, ونبذ التقليد غير القائم على الحجة, كما في قوله تعالى: ?أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? [الأنبياء:24].
وقال سبحانه: ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ? [المؤمنون:117].
وقوله تعالى: ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ? [النمل:64].
4- كما دعا إلى تنمية العقل ماديًا ومعنويًا: ماديًا بالغذاء الجيد الذي يقوي الجسم وينشط الذهن، ومن هنا كره للقاضي أن يقضي وهو جائع، وفضل تقديم الطعام على الصلاة إذا حضرا معًا, أما معنويًا فبالتأكيد على طلب العلم, واعتباره أساس الإيمان، قال تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ? [فاطر:28].
وقال عز وجل: ?وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا? [طـه:114].
كما أتاح فرصة التعليم للجميع وجعله حقًا مشاعًا بين أفراد المجتمع، بل جعل حدًا أدنى منه واجبًا على كل مسلم ومسلمة.
5- رفع مكانة العقل وتكريم أولي العقول, ففي أكثر من آية من القرآن الكريم، قال الله تعالى: ?فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? [الزمر:17-18].
وقال تعالى: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ? [آل عمران:90].
وقال سبحانه: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? [الزمر:9].
6- تحرير العقل من سلطان الخرافة وإطلاقه من إسار الأوهام، ومن هنا حرم الإسلام السحر والكهانة والشعوذة.. وغيرها من أساليب الدجل والخرافة.
كما أنه منع على العقل الخوض في الغيبيات من غير سلطان أو علم يأتيه من الوحي المنزل على الأنبياء، واعتبر ذلك مسببًا في هدر طاقته من غير طائل, قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? [غافر:56].
7- تدريب العقل على الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة وذلك من خلال وسيلتين:
أ- الأولى: أنه وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي المفيد لليقين، من هنا كانت دعوته إلى التثبيت قبل الاعتقاد، قال تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? [الإسراء:36].
وقال عز وجل: ?هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا? [الكهف:15].
ب- الثانية: الدعوة إلى التدبر في نواميس الكون؛ لاستكشافها وتأمل ما فيها من دقة وترابط، وإلى استخدام الاستقراء والتمحيص الدقيق من أجل الوصول إلى اليقين.
8- وجه الطاقة العقلية إلى استخلاص حكم التشريع وأسراره, قال تعالى: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا? [النساء:82].
9- كما وجهه إلى استخلاص الطاقات المادية في الكون والاستفادة منها في بناء الحضارة, قال سبحانه: ?هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ? [الملك:15].
10- كما فتح له باب الاجتهاد في التشريع فيما لا نص فيه وذلك في مجالين:
أ- معرفة واستخلاص المقاصد والأهداف من النصوص والأحكام الشرعية.
ب- استنباط الأحكام والتشريعات للحوادث المستجدة، وهو مجال واسع يستند إلى مبادئ عدة كالقياس والمصلحة والاستحسان.. وغيرها.
رابعًا: حفظ النسل:
يراد به حفظ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل ذلك أن الإسلام يسعى إلى استمرار المسيرة الإنسانية على الأرض حتى يأذن الله بفناء العالم, ويرث الأرض ومن عليها.
ومن أجل تحقيق هذا المقصد شرع الإسلام المبادئ والتشريعات التالية:
1- شريعة الزواج, فقد شرع الإسلام الزواج ورغب فيه واعتبره الطريق الفطري النظيف الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة لا بدوافع غريزية محضة, ولكن بالإضافة إلى تلك الدوافع يلتقيان من أجل تحقيق هدف سام نبيل هو حفظ النوع الإنساني, وابتغاء الذرية الصالحة التي تعمر العالم, وتبني الحياة الإنسانية, وتتسلم أعباء الخلافة في الأرض لتسلمها إلى من يخلف بعدها, حتى يستمر العطاء الإنساني وتزدهر الحضارة الإنسانية في ظل المبادئ النبيلة والقيم الفاضلة.
2- العناية بتربية النشء وتعميق روابط الألفة, ألزام الشرع الأبوين برعاية أولادهما والإنفاق عليهم؛ حتى يتحقق للأولاد الاستغناء عن نفقة الأبوين.
3- العناية بالأسرة وإقامتها على أسس سليمة باعتبارها الحصن الذي يحتضن جيل المستقبل ويتربى فيه، فقد جعل الإسلام علاقة الزواج قائمة على الاختيار الحر والتراضي بين الطرفين، وعلى الانسجام والتشاور في كافة الشؤون؛ بحيث تشيع روح المودة والتفاهم، وسعي كل من الزوجين في سعادة الآخر، قال تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الروم:21].
4- إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية, التي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة, وتستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين، فعن طريق إيجاب غض بصر الذكر عن الأنثى والأنثى عن الذكر, يقطع الإسلام الطريق على وسائل الإثارة في النفس البشرية, وبإيجاب اللباس الساتر بمواصفات خاصة يحارب التشريع أسباب الفتنة.
وفي غير حالات الضرورة القصوى يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية, حتى وإن كانت ملتزمة باللباس الساتر، إلا بوجود أحد محارمها.
وللبيوت في الإسلام حرمة عظيمة؛ حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها, والسلام عليهم, قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ? [النــور:27].
وبالإضافة إلى هذه الآداب.. وغيرها يضع الإسلام الضوابط التي تنظم حالات اجتماع الرجال والنساء عند الحاجة.
5- تحريم الاعتداء على الأعراض؛ ولذا حرم الله الزنا كما حرم القذف، وحدد لكل منها عقوبة رادعة, قال تعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ? [النــور:2].
وقال تعالى: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? [النــور:4].
خامسًا: حفظ المال:
كما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان؛ حيث يبيح إشباعها, ويلبي مطالبها ضمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد؛ حتى تستقيم وتحقق الخير للإنسان, ولا تعود عليه بالشر، كان هذا شأنه مع نزعة حب التملك الأصلية في الإنسان, فقد أباح الملكية الفردية, وشرع في ذات الوقت من النظم والتدابير ما يتدارك الآثار الضارة, التي قد تنجم عن طغيان هذه النزعة من فقدان للتوازن الاجتماعي، وتداول للمال بين فئة قليلة من المجتمع، ومن النظم التي وضعها لأجل ذلك نظم الزكاة والإرث والضمان الاجتماعي, ومن ثم اعتبر الإسلام المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية, وشرع من التشريعات والتوجيهات ما يشجع على اكتسابه وتحصيله، ويكفل صيانته وحفظه وتنميته، وذلك على النحو التالي:
أ- وسائل الحفاظ على المال إيجادا و تحصيلًا:
1- الحث على السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش, فقد حث الإسلام على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية, واعتبر السعي لكسب المال -إذا توافرت النية الصالحة وكان من الطرق المباحة- ضربًا من ضروب العبادة, وطريقًا للتقرب إلى الله, قال تعالى: ?هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ? [الملك:15].
وقال تعالى: ?فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [الجمعة:10].
2- أنه رفع منزلة العمل وأعلى من أقدار العمال, ففي البخاري: عَنِ المِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدهِ».
وقرر حق العمل لكل إنسان, وجعل من واجب الدولة توفير العمل لمن لا يجده، كما قرر كرامة العامل وأوجب الوفاء بحقوقه المادية والمعنوية، ففي سنن ابن ماجه وصححه الألباني عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ، قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ».
وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ الله: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ».
وقرر أن أجر العامل يجب أن يفي بحاجياته, وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في المسند عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْن شَدَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلًا وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ».
وهذا ما يطلق عليه في العصر الحديث بمبدأ تحديد الحد الأدنى للأجور.
3- إباحة المعاملات العادلة التي لا ظلم فيها ولا اعتداء على حقوق الآخرين، ومن أجل ذلك أقر الإسلام أنواعًا من العقود كانت موجودة بعد أن نقاها مما كانت تحمله من الظلم، وذلك كالبيع والإجارة والرهن والشركة.. وغيرها، وفتح المجال أمام ما تكشف عنه التجارب الاجتماعية من عقود, شريطة ألا تنطوي على الظلم أو الإجحاف بطرف من الأطراف, أو تكون من أكل أموال الناس بالباطل.
ب- وسائل المحافظة على المال بقاءً واستمرارًا:
1- ضبط التصرف في المال بحدود المصلحة العامة, ومن ثم حرم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة والتي تضر بالآخرين، ومنها: الربا؛ لما له من آثار تخل بالتوازن الاجتماعي، قال تعالى: ?وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا? [البقرة:275].
وقال سبحانه: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة:188].
2- كما حرم الاعتداء على مال الغير بالسرقة أو السطو أو التحايل وشرع العقوبة على ذلك, قال تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا? [المائدة:38].
وأوجب الضمان على من أتلف مال غيره، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
3- منع إنفاق المال في الوجوه غير المشروعة، وحث على إنفاقه في سبل الخير، وذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي وهي: أن المال مال الله وأن الفرد مستخلف فيه ووكيل, قال تعالى: ?وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ? [الحديد:7].
وقال سبحانه: ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ? [النــور:33].
ومن ثم كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع، فلا يجوز أن يفتن بالمال فيطغى بسببه؛ لأن ذلك عامل فساد ودمار, قال تعالى: ?وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا? [الإسراء:16].
ولا يجوز له أن يبذر في غير طائل, قال تعالى: ?وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ? [الإسراء:26-27].
4- سن التشريعات الكفيلة بحفظ أموال القُصَّرِ والذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، من يتامى وصغار, حتى يبلغوا سن الرشد, ومن هنا شرع تنصيب الوصي عليه, قال تعالى: ?وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ? [النساء:6].
وقال تعالى: ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ? [البقرة:220].
ومن ذلك الحجر على البالغ إذا كان سيئ التصرف في ماله, قال تعالى: ?وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا? [النساء:5].
5- تنظيم التعامل المالي على أساس من الرضا والعدل, ومن ثم قرر الإسلام أن العقود لا تمضي على المتعاقدين إلا إذا كانت عن تراض وعدل؛ ولذلك حرم القمار, قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ? [النساء:29].
6- الدعوة إلى تنمية المال واستثماره؛ حتى يؤدي وظيفته الاجتماعية, وبناء على ذلك حرم الإسلام حبس الأموال عن التداول وحارب ظاهرة الكنز, قال تعالى: ?وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [التوبة:34].
وبهذه التشريعات كلها حفظ الإسلام المال وصانه عن الفساد؛ حتى يؤدي دوره كقيمة لا غنى عنها في حفظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضارية والإنسانية, شأنه في ذلك شأن كل المصالح السابقة, التي تمثل أساس الوجود الإنساني وقوام الحياة الإنسانية, ومركز الحضارة البشرية، والتي بدون مراعاتها وحفظ نظامها يخرب العالم, وتستحيل الحياة الإنسانية, ويقف عطاؤها واستثمارها في هذا الوجود.
المصدر: منتديات كلمة سواء الدعوية.