لا نريد الاختلاط
الاختلاط وآثاره الشنيعة:
خلق الله تعالى كلاً من الذكر والأنثى، وجعل لهما من الخصائص والمميزات ما تتحقق به عمارة الأرض، وتحقق المصالح للناس، وأوجب الله تعالى في شرائع الأنبياء كافة ما ينظم العلاقة بين الجنسين، ومنعهم من كل ما يهدم كيانهم الإنساني، أو يخدش مسلكهم الأخلاقي.
ولأجل هذا كشف الله تعالى أهداف المبطلين؛ ليكون الناس على حذر منهم، فقال سبحانه: ?وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً? [النساء:27].
كما توعد سبحانه من سلكوا مسالك الفاحشة ومقدماتها، فقال سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ? [النور:19].
ومن جملة ما عُنيت به الشرائع السماوية: تنظيم العلاقات بين الرجال والنساء، ومنه: ضبط قنوات التواصل بينهما، ومن ذلك ما يتعلق بالخلوة، وهو انفراد الرجل بالمرأة الأجنبية عنه في مكان مغلق، أو بعيد عن الأنظار، وذلك الاختلاط بين النساء والرجال الأجانب عنهن.
الاختلاط محرمٌ معلومٌ تحريمه من دين الإسلام بما لا مرية فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا ما يصعب التحرز منه، كحال انتقالهن من مكان إلى آخر ونحو ذلك.
ومما يدل على تحريم الاختلاط:
ما رواه البخاري أنَّ أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم».
قال ابن شهاب: “فأرى -والله أعلم- أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن مَنْ انصرف من القوم”.
فتأمل كيف كانت مراعاة هذا الأمر والعناية به من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع كون المكان مكان عبادة وبُعْدٍ في الغالب عن مسالك السوء، وكان ذلك في زمانه عليه الصلاة والسلام حيث الناس أكمل في إيمانهم وتقواهم، فكيف يكون الحال في زماننا، ولهذا قال العلامة الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في معرض ذكره لفوائد هذا الحديث: “فيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات، فضلاً عن البيوت”.
وروى أبو داود عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو تركنا هذا الباب للنساء» [صححه الألباني]، قال نافع: “فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات”.
وروى أبو داود عن أبي أُسيد الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارجٌ من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استأخِرْنَ، فإنه ليس لَكُنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريق، عليكُنَّ بحافَّات الطريق» [حسنه الألباني]، فكانت المرأة تلتصق بالجدار؛ حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
وكذلك ما جاء من العمومات عن المعصوم صلى الله عليه وسلم من منع الاختلاط ومما يؤدي إليه؛ فجاء المنع من الدخول على المرأة الأجنبية، ومن الخلوة بها ولو من أقارب زوجها، وجاء تحريم مس الرجل بدن الأجنبية، حتى المصافحة للسلام، وجاء تحريم سفر المرأة بلا محرم، وشرع لها الصلاة في بيتها، وصلاتها فيه خيرٌ لها من الصلاة في المسجد، ولهذا سقطت عنها الجمعة والجماعة فلا تجب في حقها، وجعل لمن يصلين في المسجد في زمانه عليه الصلاة والسلام باب خاصٌ بالنساء، إلى غير ذلك مما هو معلوم في محله ولا يتسع المقام للاستطراد فيه، وفيه الدلالة القاطعة على تحريم الاختلاط المطلق بين الرجال والنساء مما تقع به الفتنة وينتشر الفساد.
وهكذا صنع الصحابة الكرام وتابعوهم بإحسان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر العُزَّاب أن لا تسكن بين المتأهلين، وأن لا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم”.
ومن ذلك ما نقله الحافظ ابن الجوزي عن أبي سلامة رحمه الله قال: “انتهيت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يضرب رجالاً ونساءً في الحَرَم على حوضٍ يتوضئون منه، حتى فرَّق بينهم، ثم قال: “يا فلان، قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء؟!”.
ولا يخفى على أهل العصر في أقطار الدنيا ما يعانيه النساء من المضايقات والتحرشات اللاأخلاقية ممن يختلطن به في العمل من الرجال، وخاصة في الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط كالمستشفيات ونحوها.
وهكذا ما يعانيه النساء من صعوبة المواصلات، ففي وسائل النقل العام ضج نساء الأرض مما يتعرضن له من مضايقات من الرجال يصل بهن إلى حد الفاحشة والاختطاف والجريمة، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بأعمال السكرتارية وكذلك مناوبات النساء الليلية، إلى غير ذلك مما يطول المقال في سرده.
وهذا الخلق وهو مجانبة الاختلاط مما تستدعيه المروءة والأخلاق الفاضلة؛ إذ لا يتساهل بالاختلاط إلا من قلَّ حظه من ذلكم المنهل العظيم، وتأثر بمسالك الإفرنج وأضرابهم ممن لا يلتفتون لمثل هذه المسائل العظيمة.
ومن تأمل في تاريخ الأمم في القديم والحديث فإنه يدرك كم جرَّ الاختلاط من شرور ومفاسد، ويحسن أن نرقم في الموضع ما حررة العلامة ابن القيم -رحمه الله- حول هذه القضية وما يجب من التعامل معها: “ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال”.
قال الإمام مالك -رحمه الله ورضي عنه- : “أرى للإمام أن يتقدم إلى الصياغ في قعود النساء إليهم، وأرى ألا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصياغ، فأما المرأة المتجالة (أي: المسنة) والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى بذلك بأساً” انتهى.
فالإمام مسؤول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء» [رواه البخاري]، وفي حديث آخر: «باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء» [قال الألباني لا أصل له].
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك.
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة.
فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا، بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمور ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعاً لذلك” انتهى كلام العلامة ابن القيم.
وإذا ما أراد أولئك أن يدركوا بعض عواقب الاختلاط فليسألوا عن نسب الحبالى، وأرقام جرائم السفاح والاغتصاب التي تضرب أرقامها القياسية في ارتفاعها شهراً بعد آخر، وقد علم المنصفون وكل عاقل مهما كانت نِحْلَتُهُ أن الاختلاط يفتح أبواب الشرور على مصاريعها.
ولأن المجتمع الغربي شغوف بالدراسات والبحوث، فقد كان من جملة البحوث والدراسات التي فرضتها الظواهر الغريبة والمتكاثرة التي كانت نتاجاً لأنماط سلوكهم الاجتماعي، كان من جملة تلك الدراسات: دراسةٌ أجرتها مجلة (فروندين) الألمانية المتخصصة في شؤون المرأة في ألمانيا، وأظهرت أن (68%) من النساء الموظفات يتعرضن للتحرش الجنسي المستمر أثناء العمل من زملائهن الرجال.
وإذا ما أردنا أن نوسع الدائرة حول هذه القضية ولو شيئاً يسيراً، من خلال رصد مسيرة من سبقونا في مجال الزَّج بالمرأة في سائر الأعمال مع الرجال جنباً إلى جنب، وندَّاً إلى نِدّ؛ فسوف يستوقفنا كتابٌ أحدث ضجةً كبرى لدى صدوره في الغرب، وفي أمريكا على وجه التحديد، ألا وهو كتاب: (الابتزاز الجنسي ـ Sexual shakedown) لمؤلفته الأمريكية (لين فارلي ـ Lin Farley).
ولدى صدور هذا الكتاب قالت مجلة (نيويورك تايمز): “لقد حطَّم هذا الكتاب جدار الصمت، وفتح الباب على مصراعيه للانتباه لهذه المشكلة ومحاولة حلِّها.. لقد فضحت المؤلفةُ استغلال الرجل للمرأة العاملة جنسياً في العمل، وأدلتها دامغة، وما قالته المؤلفة مهمٌّ جداً”.
ومن ذلك أيضاً ما كتبه (ابتون سنكلير) في كتابه (الغابة)، وكذلك الصحفية (هيلين كامبل) في كتابها (سجناء الفقر)، وكذلك (جين آدمز) في كتابها (ضميرٌ جديد وشيطانٌ قديم) كلهم يوضحون مساوئ الاختلاط، وسأنقل بعض كلامهم في مقال لاحق بعون الله.
وجملة القول:
أن المرأة ينبغي أن يكون لها من الرعاية والعناية ما يتحتم معه مباعدتها عن كل ما يسيء إلى حيائها وعفافها، سواءً أكان بسبب الاختلاط أم الخلوة أم التبرج والسفور أم غيرها من المسالك المنحرفة عن الفطرة.
والله المستعان، وصلاة ربي على نبيه محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.