ما لا يليق بمحتسب
حين يصطف الناس جميعا مارِّين في درب الحياة يقف في صدر الركب رجل حسن الشارة جميل المنظر ذا خلق كريم، وأدب جمٍّ، له صدارة في الكلام دون تزيين للعبارة، وإدارة في الأنام دون تعيين بالإمارة، يفرضه بينهم علمه ومكانته، وله فيهم قبول، وأنظارهم إليه مشرئبة، يمرُّ معهم في دربهم، ويسلك طريقهم فلهم في سفرهم علائق مشتركة وحاجات متماثلة؛ لتماثلهم في جنس البشرية، وهو منهم وفيهم إلا أنه يفترق عنهم بصفات وعلامات امتاز بها عنهم أو ميزوه هم بها، جعلت كلامه مسموعاً وفعله متبوعا، ولو ترى حاله إذ يفعل شيئاً تنكره الأبصار، كيف يصيبه من الحرج والحياء ما يغمره عرقاً، ويذيبه فرَقاً.
إنه الآخذ بزمام القافلة في طريقها إلى الله الداعي إليه مفتياً أو خطيباً أو شيخاً أو نحو ذلك ممن يقوم بدور الحسبة على الركب، يوجه هذا ويأمر ذاك وينهى عن هذه الأمور.
إنه صاحب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قرين الدعوة إلى الله، وخدين العلم وما والاه، وصديق الداعين وقدوة المدعوين.
ما هو إلا بشر مثلهم يُفرحُه ما يفرحهم، ويحزنه ما يحزنهم، ويصيبه ما يصيبهم ويغضبه ما يغضبهم، فيخرج عن طبعه السليم طوراً، وطوراً ينبو بحِدَّة طبعه، وربما لهج بقسوة في الكلام أو انفعل في مقام “ردة فعلٍ مساوية لفعل ما في المقدار معاكسة له في الاتجاه”، ولكن كرهها الحاضرون، وساء منها الناظرون.
مسكين هذا الإنسان منذ أن صار تحت المجهر، والعدسة لا تنفك عنه، ولا تغادره أنظار الناس، ما قال وما فعل وكيف تصرف؟ وتساؤلات أخرى تتلوها أعمال وأفعال اقتداءً وائتساءً مما يريده وما لا يريد.
أحيانا تأخذه الغفلة عن أنظار الناس فتحمله العفوية على فعلٍ أو قولٍ لا يدري ما تبعاته، وبعد أيام يكتشف أحد شيئين، إما مقتدٍ به في ذلك، وإما مبغضٍ له معرض عنه بسببه، فالناس على هذين القسمين في عجب، فمن الناس من إن رأى من أهل الخير والصلاح فعلاً ما من غير السنن وفضائل الأعمال بل مما تشترك فيه الحاجة البشرية وأمور المعاش والحياة جعل ذلك أسوة حسنة لا يكاد يترك اعتقادها.
ومن الناس من إن رأى ذلك أوله على غير محمله وضيق الدائرة عليه وجعله من خوارم المروءة ونقائض الأخلاق، زعماً أن ذلك لا يجوز صدوره من مثل هذا الرجل.
وكلا الفريقين مصيب ومخطئ وهما بين غالٍ وجافٍ، فلو أن لهما ميزاناً يأخذ كلٌ منهما بكفة الآخر ويضع فيها صنجته ليتعادل الميزان ويزن بقسطاس مستقيم.
فأعمال المحتسب وداعي الخير فيها ما هو جدير بالاقتداء، وهو محض في التعبد والطاعة، وفيها ما هو خالص الطبيعة البشرية يعتريها ما يعتري غيرها من الطباع، لا يقتدى بشيء منها إلا ما وافق السلامة والعقل ولم يخالف في ذلك الشرع، ولا يؤاخذ فاعلها بها ما دامت عفوية أو معتادة في طبعه أو مقبولة في عموم بيئته وإن كانت لا تحسن من مثله، نعم. ينصح إن كان فيها ما يوجب النصح، ويذكر عند داعي التذكير، مع مراعاة مكانته وقدره.
أما أن يسقط من بين الأجفان، وتدفن حسناته في كومة من تراب سيئة واحدة وتنسى محاسنه فهذا إجحاف بقدره الرفيع وقيمته العليَّة، ما دام من أهل الخير والصلاح..
وفي ذلك كله لا يغفل كونه بشراً، يغضب ويرضى ويحزن ويفرح ويحب ويسخط ويتألم ويتأثر بشواغل الحياة، ولكن لا يعني هذا أن يركن الداعية والمحتسب على هذا الظن من الناس، وأنهم سيحملونه على أتم المحامل وأحسنها، بل ينبغي أن يأخذ بزمام الجد وعزائم الأمور فلا يقبل منه التقصير في الشؤون ولا يليق؛ خشية أن يقتدى به أو يحذر مما هو عليه من النهج القويم ويكون خطؤه ذريعة لرد أفعاله صوابَها وخطأها معاً.
فلا يليق بمحتسب أن يتهاون في شأن الصلاة كأن يتأخر عن أوقاتها أو تفوته الركعة الأولى أو تكبيرة الإحرام أو نافلة قبلية أو الصف الأول.. فهذا كافٍ لتبرير التأخير عند الكثير، فمن الناس من ينتظر إلى أن يعرف أن هذا جائز ثم يستحبه لنفسه! والله المستعان..
ولا يليق بمحتسب أن يكثر من مزح قولي أو فعلي لا سيما في مواطن الجد والوقار، فإن ذلك مذهبة للهيبة والقدر عند عامة الناس، نعم، ليست المهابة مطلباً أساسيا لشخص المحتسب، وإنما ركن ركين وسبب مكين من أسباب القبول للحسبة ذاتها. وقد كان السلف يمزحون ويعرفون للمزح ضوابطه وشروطه فقد “قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ قال: بل سنةٌ، ولكن الشأن في من يحسنه ويضعه مواضعه”(1).
ولا يليق بمحتسب الإكثار من الضحك إلى حد مخلٍّ لا سيما في المسجد، أو في وقت إقامة الصلاة وهو في الصف الأول.. أو في اتباع الجنازة، أو في حضرة علم، وفي مختلط الناس، وأمام من لا يعرف له قدره.. فهذا مما يسقط القدر عند الناس، ويخرم مروءة صاحبه، ويجافي عنه العلماء وأهل المكانة، فلقد ورد أنه “رأى عبد الله بن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال: أتضحك و أنت تتبع جنازة؟ واللهِ لا أكلمك أبداً”(2).
كما لا يليق بمحتسب الجلوس في الطرقات والممرات، ففي أيامنا هذه لم تعد الشوارع في صفائها ونقائها كما كانت في عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قد اختلطت بأسباب كثيرة من أسباب الإثم، ولو لم يكن إلا أن يكون الجلوس فيها مسوغا لفلان وفلان أن يجلسوا لأن فلانا جلس، فضلا عما فيها من المخالفات والتضييق على الناس، والتعرض لمزالق العين والأذن، والوقوع فيما حرم الله.
كما لا يليق بمحتسب الدخول إلى مقاهي النت لتصفح الشبكة لغير ضرورة ماسَّة ولا حاجة داعية، لما فيها من الصورة السيئة عن الداخلين -إلا من رحم الله- ولما فيها من الاقتداء من ذوي التصور المحدود للأمور، فيقال: قد دخل فلان!، ولما فيها من التعرض للمنكر والوقوع في بعض المحرمات إما صوتاً وإما صورة.
كما لا يليق بمحتسب أن يكون غيره سابقاً له إلى معروف، مرشداً له إلى برٍّ، موجها له إلى إحسان، في أي وجه من وجوه الخير كإعانة مسنٍّ في حمل متاع أو اجتياز طريق أو نصح أو تبيين لمنكر، أو إماطة أذى من طريق، أو شفاعة حسنة، أو إعانة في خير، أو حثٍ على معروف، بل يكون سباقاً إلى الخير على وجوهه، فهو المتوقع بَدءا أن يبادر بخيرٍ ما، فما إن يسبقه أحد إلى ذلك حتى يشعر بالخجل والحرج، وحتى الناس لا يتركهم العجب من سلبيته وتأنيه في المعروف.
كما لا يليق بمحتسب أن يلبس ما يمجه الناس، أو لا يتصورونه به كأزياء الموضة وملابس لا تليق بمقام من يقدره الناس، وإن لبس منها شيئا ما، فلا يعجب إن لم تقبل حسبته، فشرطي المرور مثلاً لا يستطيع أن يوقف سيارة مارَّة إن لم يكن لابسا لبسه الرسمي، وشرطي الأمن لا يفض نزاعاً بين متخاصمين إلا على سبيل الإصلاح كأحد من الناس لا على أنه يمارس مهمته فهو قابل في هذه الحالة للرد والرفض، بخلاف ما لو كان مرتديا لبسه الذي يحكي عنه أنه أهل هذا التصرف وهذا الشأن، فكذا الداعي إلى الخير والمحتسب على الغير يقبل منه الناس إن ظهرت فيه سيما المصلحين في ظاهره وملبسه وهيئته..
كما لا يليق بمحتسب فعل ما هو من خوارم المروءة في عرفه وعادة الناس في بيئته، فللمروءة خوارم لا يراها الناس إلا في سليم المروءة، فهي وإن فعلها كثير من الناس، إلا أنها لا تلفت نظراً ولا تسيء ناظراً، إلا أن يكون من أهل السلامة والعدالة في نفوس الآخرين ممن اتسم بوسام المصلحين، فعندئذ يلام على الصغيرة، وتعظم في حقه الكبيرة،
فالعيب في الجاهل المغمور مغمورُ *** وعيب ذي الشرف المذكور مذكورُ
قلامة الظفر تخفى من حقارتها *** ومثلها في سواد العين مشهورُ(3)
فينبغي أن:
لا يحقر الرجلُ الرفيعُ دقيقةً *** في السهو فيها للوضيع معاذرُ
فكبائر الرجل الصغير صغائر *** وصغائر الرجل الكبير كبائرُ(4)
كما لا يليق بمحتسب أن يتوسع في المباحات أو لا يتورع عن فعل المكروهات، فالناس لا يفرقون بين مباح ومكروه وحرام وواجب، فمنظارهم في ذات الشخص واحد، ولا يملكون قواعد التجريح، ولا يدرون ما ضوابط السقوط، لا سيما إن لم يظهر سبب واضح بيِّن، يعذرونه به.. ومن هذا القبيل ينبغي على المحتسب أن لا تضيع مكانته من نفسه في التكثر من المباحات والتوسع في دائرة ما لا بأس به حتى يعتاد التقصير؛ ويقتدى به، وتهون عليه نفسه فيسوف ويؤول ويسوغ ويبرر ويستمر في تقصيره.
كما لا يليق بمحتسب أن تظهر له مجاملات أو شبهها، أو حتى موازنات الأمر فيها كما يقال: -المعنى في بطن الشاعر- فلو احتاج إلى شيء من ذلك -بطبيعة عمله- فلا بد أن يجتهد في ظهور الدواعي والأسباب لمن يلحظ منه اختلاف التعامل ولا يفقه سببه، فربما يتهم بمجاملة أو هوادة في دين الله، لا سيما لو كانت بعض التعاملات مع قريب أو وجيه أو ذي مال.. وهو في نفسه باجتهاده يرى أولويةً ما، أو مراعاة لظرف أو حال.. ومن أدرى العامة بهذا الفقه.. لذا ينبغي أن يكون سبباً ظاهراً واضحاً وافياً بالغرض، وإلا فالتصرف بخفاء ما أمكن أفضل..
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ويرزقنا علما ينفعنا وأن يبصرنا عيوبنا ويجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا إنه بكل جميل كفيل، وهو على كل شيء وكيل.
___________________________________
(1) شرح السنة للإمام البغوى (13/184).
(2) شعب الإيمان (7/11) برقم: (9271).
(3) الذخيرة (ص:50).
(4) روح المعاني (5/18).