لشيخ الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق
مقدمة:
الحسبة ولاية دينية يقوم ولي الأمر -الحاكم- بمقتضاها, بتعيين من يتولى مهمة الأمر بالمعروف إذا أظهر الناس تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله؛ صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقًا لمصالح الناس الدينية والدنيوية, وفقاً لشرع الله تعالى.
العلاقة بين الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لقد أوجب الله تعالى على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب قدرته وعلمه، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وقد علمنا أن الحسبة ولاية دينية، أي: أنها وظيفة رسمية من وظائف الدولة المسلمة تختص بأداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبهذا يتضح لنا أن الحسبة هي وسيلة رسمية للقيام بهذا الواجب.
مجالات الحسبة:
يقوم نظام الحسبة في جوهره على حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس، والمحافظة على المرافق العامة والأمن العام للمجتمع، إضافة إلى الإشراف العام على الأسواق وأصحاب الحرف والصناعات, وإلزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى التزامهم بمقاييس الجودة في إنتاجهم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات ذات الاختصاص من وزارات ومؤسسات.. وغيرها.
أهمية الحسبة في النظام الإسلامي:
يهدف الإسلام إلى خلق مجتمع آمن مستقر, تسوده المحبة, ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى؛ حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض, وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان, وهي عبادة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولأن الناس محتاجون دائمًا إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس، لزم أن يكون هناك من يذكر الناس بذلك ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
غايات الحسبة:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتدفع شر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما, وقد أمر الله تعالى عباده بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصلح, واجتناب الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر في التشريع الإسلامي؛ فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16], المفسر لقوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102].
وعلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدين مع احتمال أدناهما هو المشروع, ثم إن مقصد الولايات الشرعية من: خلافة, وقضاء, وحسبة.. وغيرها: أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فولاية الحسبة إنما جعلت لإصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبيناُ، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، ولإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دينهم.
والشريعة إنما جاءت بأحكام تحفظ على الناس الكليات الخمس أو المصالح العليا الخمس, وهى: الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال.
فكل الأحكام الشرعية في هذا الخصوص إنما هي أوامر ونواهٍ للحفاظ على هذه الكليات، والحسبة إنما تسعى للتحقق من تطبيق هذه الأوامر والالتزام بالنواهي.
ويمكن أن نفصل هذه الناحية للحسبة في أهداف أساسية فيما يلي:
1- حماية دين الله تعالى بضمان تطبيقه في حياة الناس الخاصة والعامة, وصيانته من التعطيل أو التبديل أو التحريف, فقد وكل إلى المحتسب حث الناس على الالتزام بأداء عبادتهم بكيفياتها الشرعية, ومنعهم من التبديل والتحريف فيها، كما أنه يمنع البدع في الدين ويحاربها, ويوقع العقاب على مرتكبيها, فالمحتسب يهتم بكل ما يتعلق بالدين, ويسعى لإحيائه وتمكينه.
2- تهيئة المجتمع الصالح بتدعيم الفضائل وأنمائها، ومحاربة الرذائل وإخمادها, فالمحتسب يمنع المنكرات الظاهرة ويعاقب مرتكبيها, إن كان مما يوكل إليه العقاب فيه، أو يرفعه إلى القضاء, إن كان مما يختص القاضي بالفصل فيه.
كما أنه يتتبع مواطن الريب والشبهة, فيمنع وقوع المنكرات فيها, مثل: مواطن اختلاط الرجال بالنساء، والأماكن التي يرتادها أهل الشك والريب.
3- إعداد المؤمن الصالح المهتم بقضايا مجتمعه، وحماية مصالحه؛ ذلك أن الإسلام جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على كل مسلم؛ حتى لا يرى منكراً قد ارتكب فيسكت عنه، أو يرى معروفاً ترك فيتواطأ على الترك.
فإذا قام بذلك كان أدعى إلى أن يأتي هو ذاته المعروف الذي أمر به, وينتهى عن المنكر الذي نهى عنه غيره؛ لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
ومن جانب آخر فإن الحسبة -وهي الحد الرسمي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- تؤمن لأفراد المجتمع المتابعة الدائمة لأنشطتهم بتدعيم الصالح منهما وتعزيزه، ومحاربة الفاسد منها والزجر منه.
4- بناء الضمير الاجتماعي -الوازع الجماعي- الذي يحول دون هتك مبادئ المجتمع المسلم وقواعده وآدابه العامة وأعرافه؛ ذلك أن للبيئة الاجتماعية أهمية قصوى في سلوك أفراد المجتمع، فإذا كان للمجتمع قواعد مرعية, وآداب محفوظة, ومبادئ محمية من سلطاته صعب على العصاة الخروج عليها، وتربي في أنفسهم الحياء من مخالفة المجتمع والخروج عليه.
أما إن كانت هذه المبادئ والقواعد منتهكة من غالب أفراد المجتمع، ولم تكن هناك سلطة تسعى للحفاظ عليها؛ بحجة أن تلك الأمور من الشئون الخاصة، سهل على الأفراد الخوض في المنكرات، بل إن العصاة يغرون الصالحين بسلوك نهجهم؛ لأن الناس يحبون التشبه ببعضهم بعضاً؛ لذا قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النــور:19].
وأمر الله تعالى أن تكون العقوبات الشرعية علنية؛ حتى يتعظ الناس بعذاب غيرهم، فقال بعد أن ذكر عقاب الزناة: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النــور:2].
كما أمر النساء بالحجاب وعدم إبداء الزينة لغير المحارم، بل وأمرهن بعدم التلين في الكلام بما يثير الرجال، ثم بعد ذلك كله أمر كلًا من الرجال والنساء بغض البصر؛ منعاً للفتنة المثيرة للشهوة.
5- استقامة الموازين الاجتماعية, واتزان المفاهيم واستقرارها؛ حتى لا ينقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً؛ لذا نجد أن من أشد الأمور خطورة انتشار المنكرات, ثم تواطؤ المجتمع على السكوت عنها, ثم قبولها أخيرًا! فإذا بلغت المنكرات درجة القبول عند الناس، وذلك بأن يروها أموراً معتادة لا حاجة لاستنكارها فضلاً عن الإنكار على مرتكبيها، إذا بلغ الحال إلى هذا الحد، فإن المجتمع يفقد موازينه المستقيمة, وتذوب مفاهيمه الصحيحة لكل القيم الفضيلة، وعندئذ يعجز كل قانون عن التأثير في الناس, ولا سيما القوانين الوضعية التي تقوم على مبدأ عدم التدخل في الحريات الشخصية, فلو نظرنا إلى كثير من المجتمعات الإباحية نجد أن الأمور قد انفلتت من يد السلطات؛ إذ أصبح المجتمع لا يستنكر سلوك الانحراف والشذوذ، والسلطة لا تقدر على محاربة الرذائل والمخدرات والجرائم التي يعتدى فيها على حرمات الناس.
بينما نجد المجتمعات الإسلامية -على وجه العموم- لا تزال تحتفظ بأصولها ومبادئها، مما يجعل السلوك الانحرافي والشذوذ والخروج على قيم المجتمع أموراً مستقبحة ومستنكرة من عامة الناس.
6- دفع العقاب العام من الله تعالى، ومنع حالات الفساد الجماعي؛ ذلك أن فشو المنكرات وظهور الفساد يستحق العقاب من وجهين:
الأول: أن ارتكاب تلك المنكرات موجب للعقاب.
الثاني: أن السكوت عن هذه المنكرات من غير أصحابها موجب أخر للعقاب؛ لذا قال الله تعالى محذراً هذه الأمة أن تسكت عن المنكر: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]؛ وذلك حتى لا يقع لهم مثل ما وقع لمن قبلهم، الذين حكى الله تعالى حالهم في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب».
7- تحقيق وصف الخيرية للأمة، كما قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110]؛ وذلك لأن صلاح المعاش والمعاد إنما يكون بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس, وما تمت هذه الخيرية إلا بعد تحقيق الصفات المذكورة في الآية, وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فمن اتصف بهذه الصفات من هذه الأمة دخل في هذا المدح، كما قال عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه- في حجة حجها فرأى من الناس منكراً فقرأ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها”.
الحسـبة في الإسلام نظام فعّال:
إن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية يعد وظيفة أساسية للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولجميع أفراد أمته من بعده؛ ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو الوسيلة الأولى لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض وإصلاحها للبشرية جمعاء؛ لذا فقد وضع له الإسلام أسساً تضمن فعاليته في المجتمع ويمكن إجمال تلك الأسس فيما يلي:
1- إن الله تعالى جعل ذلك واجباً دينياً على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته, قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
2- إضافة إلى كونه واجباً على الأفراد، فقد جعله الله تعالى واجباً دينياً ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحـج:41].
3- لكي تتحد مسؤولية الدولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وضع له نظامًا محدداً وولاية خاصة هي: ولاية الحسبة، يقوم عليها أشخاص يختارون لها اختياراً دقيقاً وفق شروط واضحة؛ حتى يتم الإشراف عليهم من قبل الدولة.
4- حتى تزداد فعالية هذا الواجب -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فقد ربط الشرع بين مهمته ورعاية مصالح الناس؛ حيث جعل الغاية منه تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم بالحفاظ على المنافع وتنميتها ومحاربة المضار وإخمادها؛ لذا قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251].
5- ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأفراد، وحتى يمتثل الأفراد لهذا الواجب فقد ربطه الله تعالى بالوعد والوعيد، فوعد من قام به بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، كما أوعد من تخلف عن القيام به بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
وقال الله تعالى في صفات المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله على قلوبكم ثم تدعوه فلا يستجيب لكم».
6- إن الله تعالى جعل اهتمام المرء بنفسه وتزكيتها قبل أن يلتفت إلى الآخرين محوراً للإصلاح؛ حتى لا يكون الطعن في سلوكه سبيلاً وحجة للآخرين يتعذر بها عن عدم الانصياع للأمر أو النهي؛ لذا قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].
7- وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدعاة للارتكان إلى الغير والاعتذار بذلك, فقد وزع الشرع المسؤوليات على كل فئات المجتمع مراعياً في ذلك التدرج ليشمل الأفراد والأسرة والوالي الأعلى للدولة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته».
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
8- لأن الأسرة هي الخلية الأولى لبناء المجتمع الصالح، فقد اهتم بها الإسلام اهتماماً كبيراً؛ لذا كان أول من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإبلاغه الدعوة هم أقرب الناس إليه، قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طـه:132].
9- وحتى لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظياً دون أن تكون للقائم به سلطة أو نفوذ؛ فقد خول الإسلام للمحتسب بعض صلاحيات التنفيذ فيما يدخل في مكانته وقدرته، إلا أنه ميزه عن القاضي بأنه لا ينتظر أن يرفع إليه الأمر ليفصل فيه, بل يقتحم الموضع الذي يظهر فيه المنكر, أو يهجر فيه المعروف فيقوم بواجب الأمر والنهي تغييرًا أو تعميرًا, قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].
فبين الله تعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل معه الحديد الذي هو القوة؛ ليحمي الكتاب ودعاته, ويعين على تطبيق أحكامه.
10- وأخيراً: فإن الشارع الحكيم وضع ضمانات وضوابط عديدة لمن يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى تصونه عن الانحراف وتحد من الآثار السالبة التي يمكن أن تقع من المحتسب، وأهم هذه الضوابط ما يلي:
أ- تقديم الأهم على المهم:
هذا يعنى: أن المحتسب عليه أن يدرك الأمور التي يريد الاحتساب فيها, ثم يرتبها بحسب أهميتها, فيبدأ بأولاها بالاهتمام ثم الذي يليه؛ لذا لما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل –رضي الله عنه- إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله, فإن هم أطاعوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».
ب- اتباع الوسائل المشروعة لمعرفة المنكر المرتكب أو المعروف المتروك:
المحتسب ملزم بقواعد الشرع في ذلك، فلا يجوز له أن يتجسس بحجة الوصول إلى المنكر، كما لا يجوز له الغش والخداع في سبيل ذلك، وإنما واجبه وعمله متعلق بالمنكرات الظاهرة فقط دون المستورة، قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات:12].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم, أو كدت تفسدهم».
ج- إن ميزان الحكم على الشيء بأنه معروف أو منكر إنما هو بالشرع:
فما ثبت الشرع بأنه معروف أمر به المحتسب، وما ثبت شرعاً بأنه منكر نهى عنه، أما ما سوى ذلك فلا يتدخل فيه.
د- قيام شروط الإنكار في الفعل:
وهي:
1- أن يثبت أن الفعل منكر شرعاً.
2- أن يكون المنكر موجوداً في الحال.
3- أن يكون ظاهراً بغير تجسس.
4- أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد.
هـ- التدرج في الإنكار:
يجب على المحتسب أن يتدرج في إنكار المنكر مبتدئاً بالدرجة الأخف، فيعرف صاحب المنكر بأن هذا الفعل منكر شرعاً, وأنه لا يجوز اقترافه، ثم ينهاه عنه بالوعظ والتخويف من الله تعالى، فإن أبى فيغلظ في القول ثم بالتهديد والتخويف، فإن لم ينته -وكان الناهي محتسباً أو ذا سلطة- سعى إلى التغير باليد، وذلك بناء على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
والمراد بتغيير اليد هنا إزالة المنكر فقط دون تجاوز ولا تعد على فاعله، فإن كان المنكر خمراً أزيلت، أو صنماً كسر.. ونحو ذلك.
و- التثبت:
على المحتسب أن يتبين الأمر حتى يتضح له قبل أن يحكم عليه بالإنكار؛ رعاية لحقوق الغير وصوناً لحرمات الناس، فمتى ثبت له داعي الإنكار أقدم فأنكر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
صفـات المحتسب:
يشترط فيمن يختار الإمام لمنصب الحسبة أن تتوافر فيه صفات أساسية؛ حتى يضمن حسن قيامه بواجبه وتؤتي مهمته ثمارها في الحفاظ على المجتمع وصيانته من المنكرات وفشوها، وأهم تلك الصفات هي:
أولاً: الإخلاص والتجرد:
المحتسب يقوم بواجبه امتثالاً لأمر الشارع له، فيجب ألا تكون له مصلحة شخصية فيما يأمر أو ينهي عنه, وإنما تكون غايته الإصلاح، كما قال الله تعالى على لسان شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
ثانياً: العلم والحكمة:
ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي؛ لذا يجب على من يقوم به أن يكون عالماً بمواضع الأمر والإنكار، وحكيماً في ذلك؛ حتى لا يكون فعله للفساد أقرب منه للصلاح, قال الله تعالى آمرًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ثـالثاً: الرفق والحلم:
المحتـسب ليس منتقماً لنفسه، ولا قاصدًا إيذاء فاعل المنكر، وإنما غايته حمله على ترك المنكر؛ لذا وجب عليه أن يأخذه بالرفق والحلم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه».
وقال تعالى واصفاً الرسول -صلى الله عليه وسلم-: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128].
وقال تعالى آمراً موسى وهارون لما بعثهما إلى الطاغية فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طـه:44].
فإذا كان الله تعالى قد أمر باللين مع فرعون -وهو قد ادعى الألوهية- فبغيره أولى وأحرى.