واصبر على ما أصابك
إنّ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يحف به من متاعب وآلام ويعقبه من أذىً وبلاء تنوءُ به الظهور, وتضعف عن حمله الكواهل -إلا من رحم ربي- يحتاج لصبرِ ومصابرة ومجاهدة وتوطين النفس على تحمّل مشاقه واحتمال مكارهه؛ لأن صاحب هذا الطريق -باختصار- يدعو الناس أن يتحرروا من أفكارهم وموروثاتهم الفاسدة؛ ويثوروا على عاداتهم ومألوفاتهم الكاسدة؛ ويمتنعوا عن شهواتهم ونزواتهم المحرمة؛ ويقفوا عند حدود الله فيما أمر ونهى، وأحل وحرم. إلخ، وأكثر الناس لا يطيقون ذلك, بل لا يؤمنون, فلذلك يقاومون الدعوة بكل ما أوتوا من قوة، ويوصلون الأذى بالداعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فليس أمام دعاة الحق -والحالة هذه- إلا أن يعتصموا باليقين، ويتسلحوا بالصبر، وهذا هو السر فيما ذكره الله على لسان لقمان الحكيم في هذه الآية, حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمورِ? [لقمان:17] “فكأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فوطن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبل الأذى من جهتهم, فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف؛ لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر؛ لأنه محبب إليهم”.
وهذه هي طبيعة هذا الطريق الذي أقسم ربنا سبحانه على وقوعه وتحققه لمن استشرف هذه الوظيفة, وأمره بالصبر والتحمّل فقال سبحانه: ?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ? [آل عمران:186]، يقول سيد رحمه الله: “وهذا هو طريق العقيدة المرسوم.. توحيد لله, وشعور برقابته, وتطلع إلى ما عنده, وثقة في عدله, وخشية من عقابه، ثم انتقال إلى دعوة الناس وإصلاح حالهم, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والتزود قبل ذلك كله للمعركة مع الشر بالزاد الأصيل, زاد العبادة لله والتوجه إليه بالصلاة، ثم الصبر على ما يصيب الداعية إلى الله من التواء النفوس وعنادها, وانحراف القلوب وإعراضها، ومن الأذى تمتد به الألسنة وتمتد به الأيدي، ومن الابتلاء في المال والابتلاء في النفس عند الاقتضاء: ?فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? [آل عمران:186]، و(عزم الأمور): قطع الطريق على التردد فيها بعد العزم والتصميم”.
هذه مباحث يسيرة في الصبر نسوقها لمن وفقه الله للقيام بهذه الشعيرة, علّها تكون زادا له وثباتا وتمكينا ووسيلة من وسائل تحققه والتخلق به والثبات عليه.
أولاً: معنى الصبر وتعريفه:
الصبر في اللغة: مصدر صبر يصبر, وهو مأخوذ من مادة (صبر) التي تدل من حيث اللغة على ثلاثة معان:
الأول: الحبس.
الثاني: أعالي الشيء.
الثالث: جنس من الحجارة(1).
وفي الاصطلاح: ذكر له أهل العلم عدة تعريفات -وهي متقاربة- منها:
– ما قاله ذو النون المصري رحمه الله تعالى: “الصبر: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى عند حلول الفقر بساحة المعيشة”(2).
– وما ذكره الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في مفرداته: “الصبر: هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه”(3).
– وما ذكره الجرجاني رحمه الله تعالى في تعريفاته: “الصبر: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله(4).
– وما ذكره ابن القيم -رحمه الله- في عدّته: “هو خلق فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.
وقيل: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، وقيل: الصبر هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة”(5).
– ولعل أجمع تعريف للصبر -برأينا- مع وجازته ما حدّه به الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بقوله: ” والمراد به في الشرع: حبس النفس على أمور ثلاثة:
الأول: على طاعة الله.
الثاني: عن محارم الله.
الثالث: على أقدار الله المؤلمة. هذه أنواع الصبر التي ذكرها أهل العلم”(6).
ثانياً: أقسام الصبر:
قال ابن القيم-رحمه الله-: “الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات التي يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يسخطها”(7).
فالصبر على الطاعات سواء كانت بدنية أو مالية: كالصبر على الصلوات فرضاً ونفلاً، والصيام, وأداء مناسك الحج, وإخراج الصدقات.. وغيرها من أنواع الطاعات التي قد تشق على النفس.
والصبر على المعاصي: كالصبر على ثوران الشهوات المحرمة كالزنا والنظر الحرام والأكل الحرام.. وغيرها من أنواع المعاصي.
والصبر على الأقدار والأقضية: كالصبر على الابتلاء والمصائب والأوجاع وفوات بعض المصالح وحصول بعض المكاره المقدرة.
وهذه الأقسام الثلاثة للصبر مجموعة في هذه الآية كما يلى:
1: فالصبر على الطاعة، من قوله: ?أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ? [لقمان:17].
2: والصبر عن المعصية، من قوله: ?وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ? [لقمان:17].
3: والصبر على أقدار الله، من قوله: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? [لقمان:17]، والله أعلم
ثالثاً: أكمل منازل الصبر:
إن أكمل منازل الصبر وأعلاها وأفضلها وأرفعها ما نعته المولى سبحانه بـ(الصبر الجميل), وهو الصبر الذي لا ضجر فيه ولا ملل ولا تسخط ولا تأفف، وذلك أن الإنسان قد يصبر, لكن الصبر الجميل درجة أعلى ومنزلة أرقى.
ومن اللطائف أن الله سبحانه وصف كلاً من الصبر والصفح والهجر بـ(الجميل)، كما قال تعالى: ?فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا? [المعارج:5]، وقال: ?فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ? [الحجر:85]، وقال: ?وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا? [المزمل:10].
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: “الصبر الجميل: هو الذي لا ضجر فيه ولا ملل، والهجر الجميل: هو الهجر الذي لا أذية فيه، والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب فيه”.
وفي المفاضلة بين أقسام الصبر المذكورة, يقول ابن القيم رحمه الله: فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه، وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: “كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضاً، ومحاربة النفس ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل؛ فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية”(8).
رابعاً: أهمية الصبر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبيّنا أهمية الصبر بما لا مزيد عليه: ” قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله: ?وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ? [البقرة:45]، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنونَ? [السجدة: 24] فإن الدين كله علم بالحق وعمل، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى صبر… ” [البصائر:3/ 376]
ومجمل القول: أن مقامات الدين كلها مرتبطة به.
فالدين فعل طاعة وترك معصية، وقوام ذلك على الصبر, ألا ترى أن العفة: هي الصبر عن الفواحش وعن سؤال الناس، والزهد: الصبر عن فضول العيش، وحسن الخلق: الصبر على أذى الناس، والقناعة: الصبر والرضا بما قسم الله، والحلم: الصبر عن الغضب؟ وهكذا دواليك.
خامساً: حكم الصبر:
الصبر من حيث الجملة واجب بالإجماع, كما نقل ذلك ابن القيم بقوله: ” وهو واجب بإجماع الأمة “(9).
أما من حيث التفصيل فحكمه بحسب المصبور عنه أو عليه، فهو واجب على الواجبات وواجب عن المحرمات، وهو مستحب عن المكروهات، ومكروه عن المستحبات، ومستحب على المستحبات، ومكروه على المكروهات، ومما يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً: قوله تعالى: ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ? [النحل:126], فالصبر عن مقابلة السيئة بمثلها ليس واجباً بل مندوباً إليه، قال الغزالي -رحمه الله-: “واعلم أن الصبر أيضاً ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ومستحب ومكروه ومحرم، فالصبر عن المحظورات فرض، والصبر على المكاره مستحب، والصبر على الأذى المحظور محظور، كمن يُقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته, فيصبر عن إظهار الغيرة ويسكت عما يجري على أهله، فهذا الصبر محرم”(10).
سادساً: فضائل الصبر في القرآن الكريم:(11)
حديث القرآن عن فضائل الصبر كثير جداً، وقد مرّ قول شيخ الاسلام: ” قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً” وهذه العجالة لا تستوعب كل ما ورد في ذلك لكن نجتزئ منه بما يلي:
1- علق الله الفلاح به في قوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطواْ وَاتَّقواْ اللهَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ? [آل عمران:200].
2- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره: ?أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا? [القصص:54] وقال: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ? [الزمر:10].
3- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَما صَبَرُوا? [السجدة:24].
4- ظفرهم بمعية الله لهم: ?إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ? [البقرة:153].
5- أنه جمع لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم: ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ? [البقرة:157]
6- أنه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به: ?وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ? [البقرة:45].
7- أنه علق النصر بالصبر والتقوى, فقال: ?بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقواْ وَيَأْتُوكُم من فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ? [عمران:125].
8- أنه تعالى جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره, فما استجن العبد بأعظم منهما: ?وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا? [عمران:120].
9- أن الملائكة تسلم في الجنة على المؤمنين بصبرهم: ?سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ? [الرعد:24]
10- أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح, فقال: ?إِلاَّ الذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ? [هود:11].
11- أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور, أي: مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلِّها وأشرفها: ?وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [الشورى:43].
12- أنه سبحانه جعل محبته للصابرين: ?وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ? [آل عمران:146].
13- أنه تعالى قال عن خصال الخير:?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ? [فصلت:35].
14- أنه سبحانه أخبر أنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ? [إبراهيم:5].
15- أنه سبحانه أثنى على عبده أيوب أجل الثناء وأجمله؛ لصبره, فقال: ?إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ? [ص:44] فمن لم يصبر فبئس العبد هو.
16- أنه حكم بالخسران التام على كل من لم يؤمن ويعمل الصالحات, ولم يكن من أهل الحق والصبر: ?وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الّذِينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? [العصر:1-3].
قال الإمام الشافعي:”لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم؛ وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم، وقوة العمل، وهما الإيمان والعمل الصالح, وكما هو محتاج لتكميل نفسه فهو محتاج لتكميل غيره، وهو التواصي بالحق، وأخية ذلك وقاعدته وساقه الذي يقوم عليه إنما هو الصبر”.
17- أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة, الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم, فقال تعالى: ?ثمَّ كَانَ مِنَ الذِينَ آمَنوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ? [البلد:18-19].
18- أنه تبارك وتعالى قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيم الإسلام ومثله العليا، فقرنه بالصلاة: ?وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ? [البقرة:45]، وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً: ?إِلاَّ الذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلواْ الصَّالِحَاتِ? [هود:11]، وجعله قرين التقوى: ?إِنهُ مَن يَتقِ وَيِصْبِرْ? [يوسف:90] وقرين الشكر: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ? [إبراهيم:5]، وقرين الحق: ?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? [العصر:3]، وقرين المرحمة: ?وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ? [البلد:17] وقرين اليقين: ?لَما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنونَ? [السجدة:24]، وقرين التوكل: ?نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ? [العنكبوت:58-59], وقرين التسبيح والاستغفار: ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ? [غافر:55] وقرنه بالجهاد: ?وَلَنَبْلوَنَّكُمْ حَتى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ? [محمد:31].
19- إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم: ?وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? [النحل:96].
هذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر, ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل، ولعل فيما ذكر عبرة ودافعاً على الصبر, فالله المستعان.
سابعاً: مجالات الصبر:
مجالات الصبر كثيرة جدا؛ لأن الصبر كما قررنا مقامات الدين كلها مرتبطة به، وجميع العبادات تدور عليه وتصدر منه, فإحصاء مجالاته متعذر بيد أننا نشير إلى مجاله في موضوع مقالنا, وهو الصبر على مشاق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فنقول:
إن الابتلاء والأذى الذي يحصل للدعاة والمحتسبين أمر لا بد منه, فلو سلم منه أحد لسلم رسل الله -صلوات الله عليهم- وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أوذي في الله كثيراً: حيث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ, وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ, وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ, إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ»(12).
وأكد النبي – صلى الله عليه وسلم – على أن أشد الناس بلاء الأنبياء: قَالَ سعد بن أبي وقاص: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ, فَيُبْتَلَى الرَّجلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ, وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ, فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»(13).
وصور الإيذاء من المغرضين تتنوع وتنحى مناحٍ شتى بحسب لؤم ودناءة أصحابها:
– فقد تتمثل في أذيتهم بالقول أو الفعل سباً وشتما وسخريةً واستهزاءً وهمزاً ولمزاً واستخفافاً واستصغاراً وقتلاً وتعذيباً وإيلاماً وتهجيراً, والاتهام بالجنون والسفه والصرع.. ونحو ذلك من أنواع الأذى البدني والنفسي, الذي يحتاج لصبر عظيم وصدر واسع.
– وقد تتمثل في مؤامرات الكيد التي تؤذي الداعية في أهله ونفسه وماله وعرضه.
– وقد تتمثل بتكذيب دعوته والإعراض عنه وجحود ما جاء به, والإباء والاستكبار والامتناع والصد عن سبيل الله ومحاربته.
ومن هنا أمر الله رسله وأتباعهم أن يقابلوا كل ذلك بالصبر, بمثل قوله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا? [المزمل:10].
والأنبياء جميعًا ردوا على أذى أقوامهم بالصبر، ولهذا حكى الله على لسانهم هذا القول ردًّا على أقوامهم: ?وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُون? [إبراهيم:12].
وعزَّى الله خاتم رسله بما حدث لإخوانه من قبله, فقال:?وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كذِّبُوا وَأُوذُوا حَتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ? [الأنعام:34].
ومن أتباع الرسل ذكر لنا القرآن مثلاً رائعًا يتجلى في سحرة فرعون, لمَّا وقر الإيمان في قلوبهم قابلوا تهديده بالقتل والصلب بقولهم: ?إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ? [الأعراف:125-126].
ثامناً: الأسباب المعينة على الصبر:
إن طريق المحتسب وإن كان محفوفاً بالمخاطر ومفروشاً بألوان الفتن والمحن إلا أنه يملك من وسائل الصبر والثبات على المنهج, والسير على الطريق ما يكون زادا له في مواصلة عمله الاحتسابي, وعدم التأثر بشيء من عوائق وعقبات الطريق, فمن هذه الوسائل:
1- العلم بطبيعة هذا الطريق:
إن من عرف طبيعة طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يعتريه من عقبات ويعقبه من أذى وبلاء هان عليه ما يبتلى به فيها؛ لأنه وقع في أمر يتوقعه، والشيء من معدنه لا يستغرب كما يقولون، وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة وأمرنا بالصبر عليها, فقال: ?لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور? [آل عمران:186].
2- الاستعانة بالله على تحمل مشاق الطريق:
إن من أعظم الوسائل المعينة على الصبر الاستعانة بالله تعالى على ذلك، وسؤاله الثبات، واللجوء إليه، والتوكل عليه، والثقة به، والشعور باقتراب فرجه ونصره؛ ولذا قال موسى لقومه بعد أن هددهم فرعون بما هددهم به: ?اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [الأعراف:128]، ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة, كقوله: ?نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ? [العنكبوت:58-59]، وقوله عن رسله: ?وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ? [إبراهيم:12].
3- احتساب الأجر عند الله تعالى:
إن مما يرغب الإنسان في مواصلة هذا الطريق والثبات عليه والاستقامة فيه وعدم الانتكاس عنه علمه بعظيم الأجر المدّخر له عند الله تعالى، ولا نجد في القرآن شيئاً ضَخُمَ جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر, فيقول سبحانه: ?نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ? [العنكبوت:58-59]، ويقول مبيناً أن الصابرين يجزون بأحسن ما عملوا: ?وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? [النحل:96]، ويصرح بأن أجرهم غير معدود ولا محدود, فيقول: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ? [الزمر:10].
يقول أبو طالب المكي: “وأصل قلة الصبر: ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له؛ لأنه لو قوي يقينه كان الآجل من الوعد عاجلاً إذا كان الواعد صادقاً، فيحسن صبره لقوة الثقة بالعطاء…”.
4- اليقين بحصول الفرج:
إن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر, وأن الفرج آت بعد الكرب, وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، وقد كثرت الآيات الدالة على هذا المعنى؛ لما له من أثر في مزيد التحمل والثبات، قال تعالى: ?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسْرًا? [الشرح:5-6].
قال بعضهم: “لن يغلب عسر يسرين”.
وقد تكرر في القرآن الأمر بالصبر مقروناً بالتذكير بأن وعد الله حق لا يتخلف أبداً, قال تعالى: ?وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ? [الزمر:20]، وقال: ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنونَ? [الروم:60]، فاشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب حصول الفرج واقتراب النصر والظفر بالمطلوب؛ ولهذا نجد يعقوب يكون أمله في العثور على يوسف أشد عندما أُخذ ابنه الثاني فيقول: ?فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا?[يوسف:83] وقال لأبنائه: ?يَا بَنِيَّ اذْهَبواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ? [يوسف:87].
5- قراءة سير الصابرين والاقتداء بهم:
إن التأمل في سير الصابرين يعطي الإنسان شحنة دافعة على الصبر، ومن هنا ندرك سر حرص القرآن المكي على ذكر صبر الأنبياء على ما لاقوه من أممهم, وهذا ما صرح الله به في قوله: ?وَكلاًّ نَّقصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسلِ مَا نُثَبِتُ بِهِ فؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ? [هود:120] وقال الله: ?وَلَقَدْ كذِّبَتْ رُسلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ? [الأنعام:34], وجاء الأمر صريحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالصابرين قبله: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ? [الأحقاف:35] وحين نزل البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم التذكير ببلاء من كان قبلهم: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ? [العنكبوت:2-3], وقال لهم: ?أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنةَ وَلَما يَأْتِكُم مَّثَلُ الذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ? [البقرة:214].
الآفات المعيقة عن الصبر:
هناك آفات وبلايا تعتري عمل المحتسب فتعيقه عن التخلق بالصبر والتحلي به, فيكون لذلك آثار سيئة على نفسه أولاً وعمله ثانياً، فمن هذه الآفات:
1- الاستعجال: فالنفس مفطورة بحب العاجل, كما وصفها خالقها: ?خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ? [الأنبياء:37]، فإذا أبطأ على الإنسان ما يريد نفد صبره وضاق صدره واستعجل قطف الثمرة, وهذا من أعظم آفات وعوائق الصبر؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهمْ? [الأحقاف:35]، أي: العذاب؛ فإن له يوماً موعوداً.
وكم من الدعوات باءت بالفشل ولم تؤت ثمرتها المرجوة بسبب الاستعجال؟ ولو أنهم صبروا لكان خيراً لهم.
2- الغضب: فقد يرى المحتسب في عمله بعض المخالفات, فيأخذه الغضب فيدفعه إلى مالا يحسن به وبدعوته ورسالته, فيكون لذلك أسوأ الأثر في نفوس وقلوب المحتسب عليهم, مما قد يدفع يبعضهم إلى التمرد والعصيان؛ ولهذا حذر الله رسوله صلى الله عليه وسلم من مغبة الغضب بألا يقع فيما وقع فيه يونس, فقال: ?فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ? [القلم:48], لقد فرغ صبره فضاق صدره فغادرهم غاضباً قبل أن يأذن الله له؛ ظناً منه أن الله لن يضيق عليه, فضيق الله عليه بأن جعله في بطن الحوت: ?وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ? [الأنبياء:87], فتاب الله عليه: ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ? [الأنبياء:88].
3- اليأس والفتور: وهو أعظم عوائق الصبر، وهو الذي يقتل عمل المحتسب ويذبحه، وهو الذي حذر يعقوبُ أبناءه من الوقوع فيه مع تكرار البحث عن يوسف وأخيه: ?يَا بَنِيَّ اذْهَبواْ فَتَحَسسُواْ مِن يُوسفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ? [يوسف:87]، وهو الذي حرص القرآن على دفعه عن أنفس المؤمنين, فبذر الأمل في صدورهم: ?وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ ندَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ? [آل عمران:139-140], وقال لهم: ?فَلَا تَهِنوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ? [محمد:35].
إن إضاءة شعلة الأمل دواء اليأس, وهذا ما ذكَّرت به الآيات المؤمنين, وهو ما ذكَّر به موسى قومه, فقال: ?اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [الأعراف:128]، ولما شكا خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من أذى قريش, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكره مصاب الصالحين في الأمم قبله: «والله ليتمن الله هذا الأمر, حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): انظر لسان العرب مادة (صبر).
(2): شرح رياض الصالحين لابن علان ج1/ ص194.
(3): المصدر السابق.
(4): المصدر السابق.
(5): عدة الصابرين ص15.
(6): شرح رياض الصالحين، ج1باب الصبر.
(7): (انظر: مدارج السالكين 1/ 165).
(8): تهذيب مدارج السالكين ص353-354.
(9): (انظر المدارج 2/ 174).
(10): (انظر الإحياء 4/ 69).
(11): مستفاد من رسالة “الصبر في القرآن الكريم”.
(12): سنن الترمذي: حديث رقم 6560 وقال محققه شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط مسلم.
(13): سنن الترمذي حديث رقم 2398 وقال عنه: حسن صحيح.