ومن احتساب المؤمنين أنهم:
إذا مروا باللغو مروا كراما(2/2)
الحمد لله ولي المتقين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد.
فقد بينا في المقال السابق المراد باللغو، وما ينبغي لكل مؤمن تجاهه، لا سيما في عصر الفضاءات المفتوحة والمواقع الإلكترونية والأجهزة الحديثة التي صارت في أيدي الجميع، وجعلتهم ينفتحون يومياً على عشرات ومئات -بل ربما آلاف البشر- كاتبين وقارئين ومستمعين ومشاهدين، ونتابع في هذا المقال بإذن الله، مبشرين بما أعده الله للمعرضين عن اللغو، ومنذرين من الوقوع فيه أو الركون له ولأصحابه.
لقد مدح الله جل وعلا المؤمنين بإعراضهم اللغو، وجعل هذا من علامات فلاحهم فقال عز من قائل: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ? [المؤمنون: 1 – 3]، كما أثنى بهذا الإعراض على أهل الكتاب الذين يؤتَون أجرهم مرتين لإسلامهم وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته فقال: ?وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ? [القصص: 55]؛ وفي المقابل نفَّر من هذا الفعل القبيح ببيان أنه سلاح المشركين للإعراض عن كلام الرب جل وعلا والصد عنه، قال سبحانه: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ? [فصلت: 26]، قال السعدي: “أي: تكلموا بالكلام الذي لا فائدة فيه، بل فيه المضرة، ولا تمكنوا -مع قدرتكم- أحدًا يملك عليكم الكلام به، وتلاوة ألفاظه ومعانيه، هذا لسان حالهم ولسان مقالهم في الإعراض عن هذا القرآن”(1)، وقال الطبري: “يقول: الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرؤه كَيْما لا تسمعوه، ولا تفهموا ما فيه”(2)، وفي هذا وحده كفاية وذكرى ?لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ? [ق: 37]، كي يتشبه بأهل التقى والفلاح، وينأى عن موافقة أهل الكفر والضلال.
وأما قوله تعالى: ?لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ? [البقرة: 225]، فليس حجة للوقوع في اللغو كما يظن بعض الناس، لأنه لا يعني الإذن باللغو، ولكنه فضل من الله ورحمة منه بعباده الذين يجري منهم مثل ذلك بدون قصد، وتجاوز منه عن عقوبتهم، قال ابن كثير رحمه الله: “أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله»؛ فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد، لتكون هذه بهذه؛ ولهذا قال تعالى:?وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ? [البقرة: 225] كما قال في الآية الأخرى في المائدة: ?وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ? [المائدة: 89](3)؛ وهذا العفو والتجاوز لا يُخرج اللغوَ عن قُبحه، فقد قال الطبري بعد ذكر أمثلة عن هذه الأيمان: (جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق)(4).
وإن من بديع أسلوب القرآن الكريم وعجيبه في النهي عن هذا الفعل والتنفير منه، أن وصف الجنة التي تهفو إليها النفوس وترحل إليها الأفئدة بأنها خِلْوٌ من اللغو، دلالة على أنه مما ينبغي أن تفر منه الطباع البشرية كغيره من مشاق الحياة وأكدارها، وأن ضده نوعٌ من النعيم الذي تهفو إليه النفوس السوية، قال تعالى: ?جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا? [مريم: 61، 62]، وقال: ?لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً? [الغاشية: 11]، وقال: ?لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا? [الواقعة: 25، 26]، وقال: ?لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا? [النبأ: 35، 36].
والجزاء من جنس العمل أيها القارئ الكريم، فمن نزه مجالسَه وسمعَه وبصرَه وكلامَه وكتابتَه عن اللغو كان أهلاً لجنة لا يَسمع فيها لاغية… فنسأل الله من فضله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تيسير الكريم الرحمن (ص: 748).
2-تفسير الطبري (21/ 460).
3-تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 601).
4-تفسير الطبري [4/ 447].