آداب المحتسب مع المُحتسب عليه
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله الأطهار وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وبعد:
لا بد للمحتسب من أن يتحلى بآداب ذاتية تجعل منه نموذجاً يمثل الإسلام في أبهى وأحسن صورة؛ ليكون ذلك أدعى للآخرين لامتثال أمره ونهيه والاقتداء بفعله، وآداب المحتسب متنوعة منها آداب مع الآخرين تظهر عند الاحتساب على الآخرين، ومنها آداب ذاتية يحققها في نفسه ويلتزم بها كالإخلاص؛ لأنه شرط قبول الأعمال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات…»(1) الحديث، مع تقوى لله تبارك وتعالى، وقدوة صالحة ليقتدي به الآخرون، بل قد يكون داعية من مظهره إذا رأه صاحب منكر فرَّ منه وخاف، وإذا احتسب عليه تقبل منه بكل سهولة، وغير ذلك من الآداب الذاتية التي هي ليست موضع بحثنا في هذه الأوراق، وموضوعنا هنا هي الآداب التي ينبغي للمحتسب أن يتحلى بها تجاه من يحتسب عليهم، والمقصود من الآداب الأخذ بما يحمد قولاً وفعلاً، والتحلي بمكارم الأخلاق، فينبغي للمحتسب أخذ نفسه بها حتى يكون عمله مقبولاً، وقوله مسموعاً، ومن ذلك ما يلي:
أولها: الرفق واللين في القول، وإظهار طلاقة الوجه عند الأمر والنهي:
إن من الصفات الكريمة، والآداب الحميدة التي يجب أن يتحلى بها من يتصدى لدعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر: أن يكون لين الجانب وحسن الخلق، رفيقاً بمن يدعو؛ ليكون التأثير أبلغ والاستجابة أقوى، وهذه الصفة من اللطف والرفق واللين هي من أميز ما يجب أن يظهر به الداعية في طريق الإصلاح والتبليغ والدعوة إلى الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»(2)، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “قال سفيان الثوري لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهي، عدل بما يأمر عدل بما ينهي، عالم بما يأمر عالم بما ينهي، وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له، قال: وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلاً رحمكم الله، مهلا رحمكم الله، وقال أحمد: يأمر بالرفق والخضوع فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه والله أعلم”(3).
ومن الرفق أن يراعي المحتسب في قيامه بواجبه الاحتسابي حرمة الناس ومشاعرهم فلا يفضحهم، وإنما يأمرهم وينهاهم بالرفق واللين وبدون تشهير بهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”(4)، وقال الشاعر:
تغمدني بنصحك في انفرادي *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا ارضي استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة
لكن يستثنى من ذلك من قام بفضح نفسه بنفسه فاختار لنفسه الفضح فجاهروا بمعصيته، فهذا لا بأس من أمره ونهيه سراً وعلانية.
على أهل الحسبة الأكارم وكل مسلم غيور على دينه أن يسلكوا مسلك الرفق واللين والتيسير في الأمر كلّه، بلا مداهنة ولا مجاملة، ولا مجافاة للحق، عليكم بالتيسير في التربية والتعليم والدعوة إلى الله، والرفق بالطلاب والمدعُوِّين، ولقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: ?هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً? [الكهف:66]، ثم قال: ?لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً? [الكهف:72]، خذوا الناس باليسير من الأمر، لا تجشِّموهم المصاعب، ولا تكلّفوهم عُسراً، بشِّروا ولا تنفّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، أخرج الترمذي بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: «حُرِّم على النار كل هيّنِ ليّن سهل قريب من الناس»(5).
ثانيها: الحلم والصفح والأناة:
الحلم والصفح والأناة من الصفات الحميدة التي ينبغي للمحتسب أن يتحلى بها مع من يحتسب عليهم، خاصة وهو يقوم بوظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي تورثه عدم التعجل في فرض العقوبات، وعادة كل من سلك هذا المسلك العظيم، فإنه يتعرض للأذى والابتلاء ربما بجميع أشكاله، فما عليه إلا أن يتصف بالحلم، ويصفح فقد أوذي خير البشر صلى الله عليه وسلم أشد الأذى بأبي هو وأمي، وخاطبه سبحانه فقال: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف:35]، وأمر سبحانه بالصبر بعد الأمر والنهي كما في قوله: ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ? إلى قوله: ?وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ? [المدثر:1-7].
ولا يكون الإنسان حليماً إلا إذا كان صاحب صبر قوي، مقتدياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد أوذي أشد الأذى، ومع ذلك صبر وحلم وأعرض عن الجاهلين؛ لأن الله يقول له: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف:199].
ومن تلك المواقف التي حلم فيها النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين حينما قام بتقسيم الغنائم وأعطى أناساً وهم المؤلفة قلوبهم، وآثرهم على غيرهم، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فثار رجل وقال: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها، وما أريد بها وجه الله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل اللّه ورسوله؟!»، ثم قال مسلياً نفسه: «رحم اللّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»(6).
ثالثها: التعامل مع الناس بصدق وأمانة:
إن الصدق والأمانة صفتان حميدتان، ينبغي للمحتسب أن يكون متصفاً بها، والتعامل بالصدق والأمانة دليل على قوة الإيمان، والخيانة والغش والتلاعب بالعقود دليل على ضعف الإيمان وقلة الحياء والخوف من الله، والصدق سبب لرضا الرحمن وطريق موصل إلى الجنان، فإذا صدق الإنسان مع الله تبارك وتعالى، عمل بشرعه، وإذا عمل بشرعه دخل الجنة بإذن الله وكذلك الصدق مع النبي صلى الله عليه وسلم، والصدق مع الناس يعني عدم الغش لهم في المعاملات، عدم الغش لهم في النصيحة، أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكرات، وعدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يعني الغش لهم، وقد ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً»(7)، قال الإمام النووي رحمه الله: “قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده، والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به، وكتبه الله لمبالغته صديقاً إن اعتاده، أو كذاباً إن اعتاده، ومعنى يكتب هنا يحكم له بذلك ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكذابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين إما بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظه من الصفتين في الملأ الأعلى، وإما بأن يلقي ذلك في قلوب الناس وألسنتهم كما يوضع له القبول والبغضاء”(8)، فعلى المحتسب أن يصدق مع الله تبارك وتعالى، ومع نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يلتزموا بالشرع الحنيف، ويصدقوا مع الناس وذلك بأن يكون آمراً بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعها: أن يكون الباعث على الحسبة العطف والشفقة على أهل المعاصي:
مما ينبغي للمحتسب أن يكون الباعث له على الاحتساب العطف والشفقة والمحبة على المحتسب عليه، وذلك لأن المعاصي والمنكرات سبب لوقع عذاب الله تبارك وتعالى؛ لقوله سبحانه: ?وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ? [النساء:14]، والمحتسب حينما يحتسب على أهل المعاصي فإنه بعمله هذا يحجزهم عنها، ويمنعهم من مزاولتها رحمة بهم وشفقة عليهم مما يحل بهم من غضب الرحمن عليهم، فأهل المعاصي يريدون أن يقتحموا النار بأفعالهم، والمحتسب عليهم يحاول جاهداً منعهم، ويحاول إنقاذهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فَيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخذ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وهم يقتحمون فيها»(9)، قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله في شرحه على هذا الحديث: “قوله: «مثلي ومثل الناس» بفتح الميم أي: صفتي وحالي وشأني في دعائهم إلى الإسلام المنقذ لهم من النار، ومثل ما تزين لهم أنفسهم من التمادي على الباطل كمثل رجل… إلى آخره، وهذا من تمثيل الجملة بالجملة”(10)، فعلى المحتسب أن يُظهر لمن يحتسب عليهم أنه يريد لهم الخير، ويريد لهم السلامة والنجاة من النار، وأنه لم يقدم على الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا شفقة وعطفاً على عباد الله وقد قال الله تبارك وتعالى عن سيد الأولين والأخيرين وقدوة المحتسبين، وإمامهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا والمسلمين لطاعته ورضاه، ونسأله أن يجعلنا آمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحمد لله رب العالمين.
______________________________________
(1) رواه البخاري، برقم (1)، ومسلم، برقم (1907).
(2) رواه مسلم، برقم (2594).
(3) جامع العلوم والحكم، للحافظ ابن رجب(325).
(4) انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني (9/140)، وشرح النووي على مسلم، للنووي (2/24).
(5) رواه أحمد في المسند، برقم (3938)، وقال محققوه: حسن بشواهده، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3135).
(6) رواه البخاري، برقم (3150).
(7) رواه البخاري، برقم (6094)، ومسلم، برقم (2607).
(8) شرح النووي على مسلم (16/160).
(9) رواه البخاري، برقم (6483)، ومسلم، برقم (2284).
(10) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني (16/17).