أخلاقيات المحتسب بعد إنكار المنكر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن القائم بالأمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن يكون النموذج الذي يحتذي به، والقدوة المثلى، لمن يأمرهم وينهاهم؛ ولذا عليه التحلي بالأخلاق الفاضلة، والصفات الحسنة؛ حتى تسهل مهمته، ويتحقق له ما يرجوه من استجابة من يدعوهم، وفيما يلي سنذكر بعض الأخلاقيات التي ينبغي أن يتحلى بها المحتسب بعد إنكاره المنكر، فنقول وبالله نستعين:
إن من أهم الأخلاقيات التي ينبغي أن يتخلق بها المحتسب:
أولاً: العفو والصفح عن المحتَسب عليه:
قد يتعرض المحتسب عندما يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشيء من الأذية ممن احتسب عليهم، كالسب، والشتم، والاستهزاء، والسخرية، فينبغي أن يعفو ويصفح عن تلك الإساءات التي تعرض لها.
والعفو هو: “ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح: “ترك التثريب”(1) وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه بالعفو فقال تعالى: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف:199]، قال الإمام ابن كثير: “قال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [البقرة:195] يعني به الصفح عمن أساء إليك”(2). فالعفو عواقبه حميدة، حتى من صدر منه إساءة حال الإنكار إذا عولج بالعفو، فإنه قد ينقلب صديقاً مطيعاً، يقول الله تبارك وتعالى: ?ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ? [فصلت:34-35].
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلق العظيم، روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً»(3). على رغم كل هذا الصنيع من أولئك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، بل ودعا الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، وكان له صلى الله عليه وسلم ما رجاه، هذا نموذج واحد من نماذج عفوه صلى الله عليه وسلم عمن أساء إليه، والمحتسب عليه أن يتخلق بهذا الخلق اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن لهذا الخلق الأثر البالغ في من يدعوهم ويحتسب عليهم فقد يكون سبباً في هدايتهم ورجعوهم إلى الله.
ثانياً: البعد عن الغيبة:
قد يطلع المحتسب على شيء من المنكرات، وبعض تفاصيل تلك المنكرات، التي وقع فيها المحتسب عليه، وهنا يجب على المحتسب عدم ذكر صاحب تلك المنكرات، وما وقع فيه من زلات للناس ما دام أن الأمر لا يحتاج إلى ذلك لأن هذا الأمر يعد من الغيبة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ? [الحجرات 12]. وقد ذكر في هذه الآية “مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال: ?أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ? شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس غاية الكراهة باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا فاقد الروح، فكذلك فلتكرهوا غيبته، وأكل لحمه حيًا”(4).
أما أصل الغيبة ومتى تكون فقد بين لنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته»(5).
فينبغي على المحتسب أن يبتعد عن الغيبة ولا يذكر منكرات من احتسب عليهم ما دام الأمر لا يحتاج إلى ذكر ذلك وليس هناك ضرورة تدعو للإخبار بما وقعوا فيه.
ثالثاً: الستر على أصحاب الزلات:
من أهم أخلاقيات المحتسب عندما يطلع على شيء من عورات الناس، وما وقعوا فيه من منكرات الستر عليهم فلا ينبغي إظهار الزلات، والعثرات التي وقعوا فيها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “إن الله حليم بالمؤمنين يحب الستر”(6). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»(7).
ومن ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الستر ما قاله لهزال عندما أمر ماعز بن مالك أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه زنا، فعن نعيم بن هزال: أن هزالاً كان استأجر ماعز بن مالك، وكانت له جارية يقال لها: فاطمة، قد أملكت، وكانت ترعى غنما لهم، وإن ماعزاً وقع عليها، فأخبر هزالاً فخدعه، فقال: انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، عسى أن ينزل فيك قرآن، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، فلما عضته مس الحجارة، انطلق يسعى، فاستقبله رجل بلحي جزور، أو ساق بعير، فضربه به، فصرعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلك يا هزال، لو كنت سترته بثوبك، كان خيراً لك»(8).
فالمحتسب لا يتصيد هفوات الناس وزلاتهم، بل يستر ويعالج الخطأ وينصح لعل ذلك يكون سبباً في هدايتهم وإقلاعهم عن المنكر أمد الحياة.
أما صاحب المعاصي الذي يجاهر بها فيقول ابن تيمية: “من فعل شيئاً من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك؛ فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(9) فإن كان الرجل متستراً بذلك وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة»(10) إلا أن يتعدى ضرره، والمتعدي لا بد من كف عدوانه، وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين. وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك”(11).
ومن الستر أن يكون النصح والإرشاد والتوجيه سراً ولا يطلع عليه أحد، يقول الشافعي رحمه الله: “من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”(12).
رابعاً: الاستمرار في إنكار المنكر وعدم اليأس:
قد لا يستجيب المُحتسب عليه من أول وهلة، وقد يستمر الواقع في المنكر على منكره، ولا يتأثر من النصيحة الأولى، فيحتاج هؤلاء إلى تكرار النصيحة، وهنا ينبغي أن يكون من أخلاقيات المحتسب الاستمرارية في إنكار المنكر، وعدم اليأس من استجابة الواقعين في المنكر، والمعرضين عن المعروف، هذا الأمر يجعل المحتسب يسعى بوسائل متعددة وطرق مختلفة في إنكار المنكر، وإقناع المحتسب عليهم بطريق الهداية التي أمر الله بها عباده وحذرهم من الزيغ عنها.
ومما يدعو إلى الاستمرارية في إنكار المنكر: تأمل المحتسب نصوص القرآن الكريم التي تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بتبليغ أمر الله سبحانه وتعالى إلى الناس، أما استجابة الناس فإن أمرها إلى الله عز وجل يقول الله تعالى: ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ? [الشورى:48] وقال: ?قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ? [النور:54]. وقال: ?فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ? [الغاشية:21- 22]، يقول الإمام النووي رحمه الله: “قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين”(13).
ومما يعين على استمرارية المحتسب في إنكار المنكر: الرجاء في استجابة من يُنكر عليهم لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، ومتى ما أراد الله لها الهداية وفقها للاستجابة(14).
ومما يعين على استمرارية المحتسب في إنكار المنكر وعدم اليأس: تذكر الجزاء المترتب على دعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»(15).
نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لكل خير ويجنبنا كل شر، وينفعنا بما علمنا، والحمد لله رب العالمين.
__________________________________________
(1) الذريعة إلى أحكام الشريعة (ص 241) الراغب الأصفهاني.
(2) تفسير ابن كثير (3/60).
(3) صحيح البخاري (4/115) رقم (3231) وصحيح مسلم (3/1420) رقم (1795).
(4) تيسير الكريم الرحمن (ص: 802).
(5) صحيح مسلم (4/2001) رقم (2589).
(6) سنن أبي داود (4/349) رقم (5192).
(7) صحيح البخاري (3/128) رقم (2442)، وصحيح مسلم (4/1996) رقم (2580).
(8) مسند أحمد ط الرسالة (36/217) رقم (21891) وقال محققوه: “صحيح لغيره”.
(9) رواه مسلم (1/69) رقم (49).
(10) رواه مسلم (4/ 2074) رقم (2699) بلفظ: “من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة “.
(11) مجموع الفتاوى (28/217).
(12) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/140).
(13) شرح النووي على مسلم (2/23).
(14) انظر: أخلاقيات إنكار المنكر في ضوء التربية الإسلامية (ص 238-247).
(15) رواه مسلم (4/2060) رقم (2674).