بسم الله الرحمن الرحيم
تعلمون أن من الغزل ما هو عفيف، ومنه ما هو أيضًا خبيث، لكن ما سبب خبثه؟
الغزل هو محاولة المتغزل إيقاع فريسة من الفرائس -بحسب تعبيرات المتغزلين- هن إحدى الإناث في شركه بطرق شتى، يظن أنها مؤثرة في هذا الجنس؛ لغرض أنواع من الاستمتاع، تبدأ بالشم والضم, وقد تنتهي بالمواقعة، فمن ههنا كان هذا الغزل خبيثًا, قال شوقي:
نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء
ثم انظر ما يكون من وراء ذلك اللقاء مما قد لا يخفى؟
هذا اللقاء -الذي كانت بدايته الغزل- باب مفتوح لجرائم عدة لا علاج لها، تهدم الحياة هدمًا، يحرق فيه الأحمق بيته وبيوت الآخرين؛ تبتدئ بهتك العرض، وإذا هتك فلن يعود.
وقد يفسد الطرفان بعده فسادًا لا يرجى برؤه؛ فلا يجدان اللذة في إلا الحرام، فيعرضان عن الزواج اكتفاء بالحرام، وإذا ما تزوج كل منهما فربما نقل داءه إلى الولد، فينشأ الولد على الفساد.
إِذا كانَ رَبُّ البَيتِ بِالدُفِّ ضاربًا *** فَشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ
ولو كانت تلك ذات بعل، كان المتغزل سببًا في هدم أسرتها، وأسرته إن كان ذا زوج هو أيضًا، فأنى يجد الزاني والزانية حياة مستقرة آمنة؟! فمنذ وقوعهما في الفاحشة تنقلب العلاقات الأسرية في الجهتين رأسًا على عقب، فيدب الخلاف والشقاق والخصام، فالزوجة تشك في زوجها الزاني، والزوجة الزانية تثير ريبة زوجها، ولن يطول الأمر حتى ينتهي بالطلاق.
والزاني لن يطمئن يومًا إلى امرأة، فيرغب عن الزواج؛ فرارًا من ألم الشك والريب، بعد أن تأخذه الظنون السيئة بسائر النساء، فلا يطمئن إلى نقاء أثنى، فكيف يتخذ منها زوجة؟
أما الزانية فتعيش حياة القلق، تخاف الزواج خشية الفضيحة، فتؤخره وتتعلل، ولو مر بسلام، فإن نفسها لا تدعها حتى تعاود ذنبها، أو تظن بزوجها سوءًا، فأنى لها حياة مستقرة؟
هتك عرض، وفشل زواج، وهدم أسرة، وتشرد أبناء هو حصيلة لبداية خبيثة تسمى: غزلاً، هذا الفعل الأرعن الذي لا يأبه له كثير من الناس، فيستسهلون أمره، هو الشرر الذي به تكون النار العظيمة التي تحرق ما حولها، وما فوقها وتحتها، فتطمس الوجود، وتمحو الآثار.
ليس مجرد شرر، بل هي شرارة عند وقود سريع الاشتعال، ينتظر مستصغره ليتفجر نارًا، ولا أمل في منعها حتى تأتي على ما أرادت بالحرق والإتلاف، فكان من الحكمة منع هذا ابتداءً، وعدم التهاون فيه، والضرب على يد من يوقد الشرر في مكان الخطر، فلن يحرق نفسه فحسب، بل يحرق من قرب منه، وكل من له صلة بالمكان التي وجد فيه، هذا ما يتسبب به هذا الغزلي المغازل، الذي يسميه الناس اليوم: متحرش معاكس.
نعم هو شيطان متحرش، ومعاكس لأخلاق الرجال، وأفعال ذوي المروءات والشهامة، وأمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النــور:30].
ومنه نفهم لم أمرت المرأة بالحجاب -وغطاء الوجه من الحجاب، بل ليست محجبة إلا به-؟ فإنها بحجابها تمنع من تحرش وتغزل الأرعن بها، وهذا في الغالب ولا حكم للشاذ.
كما نفهم لم حرم الاختلاط المنظم كما يكون في التعليم والعمل؛ لأنه فرصة المتحرش ليمارس غزله وتحرشه كل يوم، فها هي الفريسة –كما يسميها كذلك– بين يديه، فقط عليه أن يحاول ويعيد المحاولة، فالصيد لن يذهب بعيدًا، فهو قريب! لا تتعجبوا فهذه هي طبيعة هذا المتحرش، وهذه هي هواجسه، فلن تراه يرقب ربًا، ولا يحفظ عهدًا، ولا يخشى عواقب، وهو أمثاله موجودون في كل مكان، لكن اعجبوا: كيف ترك هذا الغافل عرضه بين يدي هؤلاء الخبثاء؟ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
واعجبوا كذلك لمن يقول: إذا رأيت متحرشًا فعليك بنفسك, فمن ذا الذي هو صاحب حكمة يقبل أن يرى عابثًا يشعل كبريتًا عند محطة وقود ثم لا يمنعه، أو مفسدًا يحمل فأسًا يضرب به أساس بيت الجار ثم يقول: لا شأن لي، علي بنفسي؟
إن ما يحدثه هذا العابث المفسد المسمى بالمتحرش أخطر من ذلك، فمن ذا الذي يعي هذا؟
وقد نظن أن ما ذكر هو غاية ما يكون من أذى بفعل الغزل، وليس كذلك، بل فوق ذلك وزيادة، فإنه بداية لمشروع حمل الفتاة بمولود سفاحًا، وتلك أم المآسي لو تعلمون؟
مهما أردنا أن نصف الجريمة التي يركبها المتحرش حين يصل بتحرشه إلى الزنا, ثم حمل الفتاة سفاحًا، ثم ولادة طفل لقيط، فإن أقلامنا وألسنتنا تعجز عن ذلك، لا يقدر على وصفه حق الوصف إلا لقيط مسكين معوق أبد الدهر، فاذهبوا دور اليتامى واسألوهم إن كانوا ينطقون.
هل تصورنا طفلة تلد، ثم تكبر؛ لتكتشف يومًا أنها بلا أم، ولا أب، ولا أسرة، وأن المرأة التي تعتني بها في الدار ليست إلا حاضنة أو مربية، وأن كل هؤلاء الأطفال من حولها ليسوا سوى يتامى مثلها، ليس فيهم واحد يقرب منها بنسب، وأن هذه الدار ليست دارًا لها, بل هي ملتجئة فيه، وأن مستقبلها بعدئذ مجهول، وأنها ورقة من شجرة ماتت, فالرياح تقذف بها في كل ناحية؟!
هل تصورنا حالها، وهي تسمع الأطفال في مدرستها يقولون: أبي، أمي، أسرتي, وهي تتساءل عن معنى هذه الكلمات، وعن علاقتها بها، فترى طفلاً وقد تعلق بأبيه، وطفلة تعلقت بأمها، ثم تنظر وتنتظر يدًا تمتد لتكون أمًا أو أبًا، فلا ترى إلا سائق الدار يناديها لتركب، فتذهب غارقة في الخيال تتساءل: هل لي أب وأم مثلهم؟ وأين هما؟ ومتى أراهما، أم إني مختلف عنهم؟
إنه ألم نفسي لا يطيقه من يتحدث به، فكيف من يعيشه ويحيا عليه كل حياته، فيرى القردة جماعات، وكل قردة تحمل ولدها، فيقول: يا ليتني قردًا كهذا، له أم تحمله!
هكذا هو اللقيط، وهذا كل ما يتمناه، وله شعور وأحاسيس لا يحسن أن يعبر عنها إلا هو، فاسألوه، واسألوه أيضًا: من الذي تسبب في بلائه المزمن هذا، يجيبكم: ذكر -ليس برجل- كان يتحرش بالفتيات، فاستجابت له فتاة، فامتطاها لشهوته، فتلقته بالرغبة، وهما في غفلة أني بفعلها كنت أتخلق في بطونهما، لأكون ولدهما، لكنه الولد الذي يتبرؤون منه لاحقًا، فيقذفون به إلى أبواب المساجد، لعل رحيمًا يتلقفه أو ينقله إلى دور اليتامى.
هما سبب بلائي، وشكواي إلى الله تعالى أن ينتقم لي منهما عاجلاً غير آجل، فبطن الأرض خير لي من ظاهره مدة بقائي في هذه الدنيا، وما أذنبت ذنبًا لأستحق هذا منهما، بل هما صنعا مني ذنبًا وخطيئة وجرمًا، هما اللذين كرها لي حياة طيبة، أعيش فيها كالناس، فكانا شرَّ أب وأم على هذه الأرض، رب العنهما كما حرماني صغيرًا وكبيرًا.
وليسا وحدهما سبب بلائي، بل ذلك الذي قال لغيره وهو يرى تحرش من كان يجدر به أن يكون أبي، بمن كان يجدر بها أن تكون أمي: دعهما! عليك بنفسك, ولو نهوا عن هذا المنكر، وقاموا بما عليهم من الضرب على يد هذا العابث والعابثة، لما عانيت مثل هذا البلاء، لكن تركوهما في التهتك والهتك لستر الله، وانسلوا يظنون أنهم ناجون من انتقام الله تعالى، لكن هيهات، فهؤلاء اللقطاء المحرمون –وهم عدد بالألوف– سيكونون يومًا نقمة على المجتمع الذي حرمهم الإنسانية، والأسرة، والأبوين، والبيت الآمن، والعائلة والنسب، حرمهم النشأة على الخلق والمروءة، فلينتظر ما يكون منهم يومًا، إن أبواب الجريمة مفتحة أمامهم.
إنه ليس لهم خيار في النهي عن المنكر، وإلا استوجبوا لعنة الله تعالى، كما لعن يهود: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:78-80].
ولو تركوا منع هذا المنكر وأمثاله، لكان ذلك لينزع عنهم الخيرية، فيعودوا أذل العالمين بعدما فضلهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110].
فيا خيبة من يقبل التنحي عن مراتب الخيرية ودرجات الأفضلية إلى دركات اللعنة.
إنها منكرات كمثل النار، لن تحرق المذنب وحده، بل تمتد بنيرانها لتحرق كل ما حوله، فليس حوله أسوار تحجز خطيئة على نفسه، وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً فيه عبرة لمن اعتبر، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» [البخاري].
وإن ترك إنكار المنكر عاجلاً موجب لمنع نزول النصر على الأمة، فإن الله تعالى لا ينصر إلا من يقيم هذه الشعيرة: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحـج:41].