? وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ? [القصص: 20].
في سورة القصص كان القومُ قد اجتمعوا على قَتْلِ موسى? عليه السلام؛ ولهذا كان حديثُ (الرجلِ) مُقْتضبًا في غايةِ الإيجابية، وَضَعَ بين يدي موسى? حَلَّ الخروج العاجل، والهجرة فِرارًا بدينه من بَطْشِ الطُّغيانِ الفرعوني الذي يظهر أنَّ (الرجلَ) كان مُوقِنًا بما يُـضْمَرُ لموسى?؛ ولهذا قال له: ? إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ? [القصص: 20]؛ والناصحُ لا يغشُّ مَنْ يُريدُ به الخيرَ، لقد علمتُ الشرَّ فيهم، وقد أزمعوا على قَتْلِكَ واجتثاتِ الدعوةِ التي تحمِلُها، إنهم يُريدونَ التخلُّصَ مِنْكَ؛ ليبقى? الطُّغيان ممتدًّا، بعيدًا عن الأيدي التي تحفُرُ في الجدار، فاخرج، بينما في سورةِ يس قال تعالى: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ? [يس: 20]، فـالسياقُ هنا لا يتحدَّثُ عن اجتماع الأعداء على قَتْل (الرُّسُل) كما في سورةِ القصص؛ وإنما مجرد تهديد في سياقِ الحوارِ والمجادلة: ? لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [يس: 18]؛ ولهذا وَجَدَ (الرجلُ) الناصحُ مساحةً للحوارِ معهم؛ خوفًا عليهم من تكذيبِ الرُّسُل وإيذائهم، لعلَّهم يعودون إلى دعوتهم، دعوة الحقِّ والسلام.
كما أنَّا لا نجِدُه هنا ينصحُ (الرُّسُلَ) بالهجرةِ والخروجِ من الأرضِ التي يُقِيمون فيها ما دامت الدعوةُ لم يصل إليها قرارُ الاستئصالِ والاجتثات، وكأنه فَهِمَ من تهديدِ القوم للرُّسُلِ مجرد التخويف والترهيب؛ للكَفِّ عن الدعوةِ إلى التوحيد التي تُزعِجُ مَنْ تلَوَّثَ بِداءِ الجاهلية، وانغمسَ في ظُلُماتِ الشِّركِ والوثنيَّةِ، وظلَّ يرزحُ تحتَ العبُوديةِ الممتدَّة!
كانت فكرةُ الرجلينِ واحدةً؛ حماية (جنابِ الدعوة، وحماية الكِيان المسلم)؛ لكنَّ الخطابَ اختلفَ بينهما بحسبِ تطلُّب الحالِ والوقائع، وهذا ما نجده تطبيقًا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما نَزلَ حُكْمُ الاستئصالِ بأصحابه للتنكيلِ بهم، واجتثاتِ شأفَتِهم، أمرَ أصحابَه بـ (الخروجِ والهجرة)، وكانَ (الأمرُ) هنا شبيهًا بـقرارِ صاحبِ موسى? الذي قدَّرَ الوَضْعَ جيدًا، وانطلق بقرارٍ حكيمٍ؛ لإنقاذِ الدعوةِ وأصحابها من الهلاك والتلاشي؛ فأمَرَ موسى? بالهجرة والخروج.
بينما النبي بَقِيَ في مكانه في مكَّة، وفي اللحظة التي مَكَرَ فيها المشركونَ، وقرَّرُوا إسكاتَ صوت النبوة، باتفاقهم على قَتْل صاحبها، أمَرَ الله نبيَّه بـ (الخروج والهجرة)؛ حفاظًا على مكتسباتِ الدعوة، والبناء في مكانٍ آخَرَ؛ استمرارًا وامتدادًا للجهدِ المبذول.
وهنا يتَّضِحُ أنَّ كلا الأمرينِ مَرَّا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فقد كان التغييرُ الذي قام به هؤلاء الأفراد يستحِقُّ الإشادةَ والتنويهَ من الله، فجُعِل (سَعْيُهم) قُرأنًا يُتلى? إلى يومِ الدِّين؛ لأنها دعوات (فردية) تغييريَّة حاولت إنقاذ كيان الجماعةِ المسلمة، وحمتْها من الاجتثات، وتعرَّضَ أصحابُها للإيذاء من أجلِ بقاءِ دعوة الله.
وستبقى? قصةُ الرجلين تُتْلى? إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، لا يُـعرَفُ مَنْ هما، لكنهما أسْهَما في التغيير، وخاضا معركة الوعي، وتركا أثرًا في مسير دعوة الأنبياء، كانا أُمَّةً في (رجل)، ففي اللحظةِ التي قررا فيها الخروج لإنقاذِ (أمر السماء)، لم يُفكِّرا في أمرِ أنفسهما، لم يكن الهَمُّ حينها إلا بقاء ضوء النبوة؛ خشيةً عليه من الانطفاء، ونصرة الحقِّ المتمثِّلِ في الرسل، ومن أجلِ ذلك كافأهما اللهُ، وخلَّدَ ذِكْرَهما، ليـكونا نِبْراسًا لمن أتى بعدهما يُكمِلُ البناء، ويحمي الدعوة، وينشدُ التغيير بـفرديةٍ خالصة، لا تبتغي إلا اللهَ دونَ سواه.
المصدر: الألوكة