بقلم د. محمد فاروق النبهان
كلمة الحسبة في المؤلفات الإسلامية، وبخاصة ما يتعلق منها بالأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية، تُفيد مدلولاً خاصاً، لا يقتصر على مجرد ما يُفيده المعنى اللغوي للكلمة من دلالات، تتعلق بالأجر والمثوبة، وإنما يتجاوز ذلك ليدل على نظام إداري وقضائي معين، كان يقوم بدور الرقابة الفعلية؛ لضمان حماية المصالح الجماعية، التي تعتبر من أهم المقاصد الشرعية التي يتوجب على السلطة أن تقوم بحمايتها ورعايتها.
وكان علماء الفكر الإسلامي يلخصون دور هذا الجهاز -الذي كان يعتبر ولاية خاضعة لولاية القضاء العامة، أو هي نوع من أنواع القضاء، بحكم ما يملكه المحتسب من صلاحيات قضائية محدودة- بالقيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلمة شائعة في الفكر الإسلامي، وهي ذات مدلول ديني خاص، بالرغم من سعة ما تشتمل عليه من دلالات اجتماعية وأخلاقية وتشريعية، وأبرز تلك الدلالات: أخلاقية الفكر الإسلامي، وتماسك المجتمع الإسلامي وترابطه، في ظل المسؤولية التي يتحملها كل فرد من أبناء ذلك المجتمع، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار المجتمع الإسلامي، وكل فرد في هذا المجتمع يمارس دوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر ذلك مسؤولية دينية يُثاب عليها فاعلها، ويأثم مَن يرى المنكر ولا ينهى عنه، ولو كان ذلك النهي باللسان أو بمجرد الإنكار القلبي.
والحسبة في معناها اللغوي: مأخوذة من معنى الأجر والمثوبة، يُقال: فعلت هذا الأمر حسبة لوجه الله، أي: تطوعاً، واحتسبتُ هذا الأمر عند الله, أي: جعلتُ أجري من الله.
وتُستعمَل في مجال القضاء كلمة “الدعوة الحسبية”، ويُراد بها: الدعوى التي يقيمها صاحبها للدفاع عن مصالح الناس ولمنفعتهم..
نشأة نظام الحسبة:
من الصعب تحديد النشأة الفعلية لنظام الحسبة في التاريخ الإسلامي، فالنظام عادةً يجري العمل به قبل ذلك، إلى أن يستقر في أعماق الناس، ثم بعد ذلك يصبح نظاماً إدارياً أو قضائياً.
ومن المؤكد أن فكرة الحسبة قد ابتدأت مع بداية التاريخ الإسلامي؛ حيث كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المنهج الأول في بناء المجتمع الإسلامي؛ ولِذا فإننا نستطيع الجزم بأن فكرة الحسبة بالمفهوم الفعلي قد ابتدأ مع البدايات الأولى لنشأة المجتمع الإسلامي في المدينة؛ حيث كان من حق أي مسلم أن يمارس دور الحسبة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ونجد الأصول التوجيهية والتشريعية لهذا المنهج الإسلامي في النصوص القرآنية التالية:
قال تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
وقال تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحج:41].
وقال سبحانه: ?التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? [التوبة:112].
كما نجد أن السُنّة النبوية قد دعت إلى الاعتماد على هذا المنهج؛ تأكيداً لروح المسؤولية الجماعية، في الدفاع عن القيم الإسلامية والأخلاق الإسلامية.
روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلّم-: «مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
أما نظام الحسبة من حيث مباشرة السلطة لدور الرقابة لحماية المصالح الجماعية، فإننا نجد أن الخلفاء الراشدين، قد قاموا بهذا الدور، وبخاصةً أن الروايات التاريخية تؤكد لنا أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان يقوم بنفسه بالرقابة الفعلية، ويمارس دور المحتسب في الأسواق, فيأمر وينهى، ويزجر المخالفين بسوطه.. ولعل ذلك كان يمثل البداية الفعلية لممارسة السلطة لدورها في الرقابة على المصالح العامة.
إلاّ أن طبيعة الحياة في الجزيرة العربية في ذلك الحين، وبساطة الجهاز الإداري، وعدم بروز معنى السلطة بالمفهوم الشائع اليوم، لم يُعطِ لمعنى الحسبة مفهوماً تنظيمياً يمارسه جهاز مختص متفرغ.. وكان الأمر لا يعدو أن يكون مجرد قيام الخليفة بنفسه أو مَن ينوب عنه، بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حدود ما يتوافر لهما الاطلاع عليه من حياة الناس ومعاملاتهم.
نظام الحسبة في العصر العباسي:
خلال العصر العباسي ازدهرت الحياة الاجتماعية، واتسعت التجارات، ونمت حركة الأسواق، وتعددت المهن، وازدادت الهوة بين الفقراء والأغنياء، وأصبح الاحتكار وسيلة للربح الفاحش، والغش وسيلة للكسب السريع, وكان لا بد من وضع نظام للرقابة يملك من الصلاحيات الزجرية ما يمكنه من منع المنكر، وزجر فاعليه، وحماية الضعفاء من عنت الأغنياء, وإنصاف المستهلكين من ظلم التجار واحتكارهم للسلع الضرورية للناس.
وظهرت “ولاية الحسبة” قوية السلطة، محددة الهدف، يمارسها أصحاب الاختصاص، ممن تُوْكِلُ إليهم السلطة أمرها، ويروى أنها ظهرت في عصر الخليفة العباسي المهدي، وبعضهم يقول في عصر الرشيد.
وجاء في كتاب: “حضارة الإسلام في دار السلام” لمؤلفه جميل نحلة مدور, ما يلي: “لما اتسع نطاق التجارة في بغداد، وأصبحت مورداً لأهل الأهواز من كافة البلاد يتناولون فيها حاجتهم من المال، وقع غش فاحش في التجارة، وصارت الصيارف من اليهود.. وغيرهم يُعطون مالهم بالربا، على أن يُعاد عليهم المثل في آخر العام مثلين وأكثر منه، فأقام الرشيد محتسباً يطوف بالأسواق, ويفحص الأوزان والمكاييل من الغش، وينظر في معاملات التجار أن تكون جارية على سنن العدل؛ حتى لا يتحامل الشرفاء على الوضعاء, والأغنياء على الفقراء”.
نظام الحسبة في المكتبات الإسلامية:
حظي نظام الحسبة باهتمام العلماء والمؤلفين منذ بروز هذا النظام في العصر العباسي حتى الآن، إلاّ أن الاهتمام لم يكن بحجم أهمية هذا النظام ودلالاته، الحضارية والتشريعية والأخلاقية.
ويبدو أن هذا النظام الإداري الذي كان متبعاً خلال التاريخ الإسلامي ابتدأ اليوم يحظى باهتمام خاص لدى رجال الفكر المعاصرين، المهتمين بهذا الجانب من الدراسات الحضارية، وأركز هنا على الجانب الحضاري؛ لأن نظام الحسبة هو مظهر حضاري في تاريخ أمتنا، يدلنا على مدى ما وصلت إليه أمتنا من تنظيمات إدارية في مجال تحقيق التوازن الاجتماعي، والتخفيف من حدة المظالم الاجتماعية التي تولدها التطورات الحضارية بشكل عام.
ويمكننا تقسيم الكتب التي تعرضت لموضوع الحسبة إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: الكتب التي عرضت لموضوع الحسبة بطريقة عرَضية، وأشارت إلى بعض أحكامها، ووسائل تطبيقها في المجتمع الإسلامي، وهذه الكتُب كثيرة ومتعددة، منها: كتاب “الأحكام السلطانية” للماوردي، و “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى الحنبلي، وهذان الكتابان من أهم الكتُب التي تعرضت لكل ما يتعلق بالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، سواء ما ارتبط بالحاكم والحكم, أو ما ارتبط بشؤون المال والجباية والخراج والأموال.
وهناك كتب أخرى تعرضت لموضوع الحسبة، وتحدثت عن ولاية الحسبة سواءً من الناحية التاريخية أو من الناحية التطبيقية، ومن أهم تلك الكتب: “مقدمة ابن خلدون”، و “صبح الأعشى” للقلقشندي، و “إغاثة الأمة” للمقريزي..
ثانياً: الكتُب التي تخصصت في موضوع الحسبة، وبخاصةً ما يتعلق بكيفية الحسبة على أنواع الحرف التي كانت قائمة في ذلك الحين:
كالحسبة على الأطباء والكحالين والمجبرين والمكحلين.
والحسبة على الخبازين والفرانين والجزارين والشوايين والطباخين، والحلوانيين.
والحسبة على المكاييل والموازين.
والحسبة على الأسواق والأبنية العامة، والطرقات، والدروب.
والحسبة على المبايعات الفاسدة، وتدليس الأثمان، والغش والاحتكار.
ومن أهم هذه الكتُب كتاب: “نهاية الرتبة في طلب الحسبة” (1/ 108) لعبد الرحمن بن نصر الشيزري المتوفى عام (589هـ).
ويتألف هذا الكتاب الهام من أربعين باباً:
يبحث المؤلف فيه في الباب الأول فيما يجب على المحتسب من شروط الحسبة، ولزوم مستحقاتها.
وفي الباب الثاني يبحث في النظر في الأسواق والطرقات.
ويبحث في الباب الثالث في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم.
ثم يبتدئ بعد ذلك في البحث عن الحسبة في كل مهنة من المهن، ثم يصل إلى الباب الثامن والثلاثين يبحث فيه عن الحسبة على مؤدبي الصبيان, ثم الحسبة على أهل الذمة.. ثم قال في نهاية كتابه: “وقد ذكرنا في هذا الكتاب من الحسبة على أرباب الصنائع المشهورة ومن كشف غشوشهم وتدليسهم، ما فيه الكفاية للمتحسب، وأصل يقيس عليه ما عداه، مما لم نذكره”.
ويبدو أن هذا الكتاب الهام الذي يعتبر أصلاً لكل الكتب الأخرى المؤلفة في الحسبة قد كشف النقاب عنه لأول مرة الدكتور “فالتر برنارد” أمين المكتبة الامبراطورية بمدينة فيينا، وذلك أثناء دراسته لنظام الشرطة عند العرب والفرس والترك عام (1860م)، وقد أعد هذا الباحث بحثاً عن التنظيمات السياسية المختصة بالضبطية عند العرب والفرس والترك وترجم إلى اللغة العربية، ثم قام بنشره السيد الباز المعريني، وأبرز أهمية هذا الكتاب الذي يعتبر أصلاً لكل المؤلفات الأخرى في موضوع الحسبة، وبخاصة تلك المؤلفات التي اهتمت بموضوع التطبيقات العملية خلال التاريخ الإسلامي، وهذا النوع من الكتابة في موضوع الحسبة يختلف كلياً عن أسلوب تناول المؤلفين الآخرين للموضوع من أمثال: الماوردي، وأبي يعلى, اللذين اهتما بالجانب التشريعي الفقهي من حيث إن الحسبة هي ولاية من ولايات الفقهاء، ولا بد من توافر أركان وشروط سواء فيما يتعلق فيمن يتولاها، أو فيما يتعلق باختصاصاتها.
وهناك كتب أخرى لا تخرج في طرحها لموضوع الحسبة عما فعله الكتاب الأم، للشيزري، وإن كان قد اشتملت على إضافات في مجال التطبيقات ذات أهمية تاريخية، ومن هذه الكتب: “معالم القربة في أحكام الحسبة” لمحمد بن محمد القرشي المعروف بابن الإخوة المتوفى سنة (729هـ).
وقد تضمن هذا الكتاب سبعين باباً، وهو مقتبس من كتاب الشيزري، وقام بطبعه أحد المستشرقين من أساتذة جامعة كمبريدج.
وهناك آخر اسمه: “نهاية الرتبة إلى طلب الحسبة” لابن بسام، ويقع في (118) باباً، وهو غير مطبوع، وتوجد منه مخطوطة في المكتبة الوطنية في القاهرة، وأخرى في المتحف البريطاني.
وبالإضافة إلى هذه الكتب فهناك كتاب في “آداب الحسبة” لمحمد بن أحمد السقطي المالقي الأندلسي، وقد قام بعض المستشرقين الفرنسيين بنشره سنة (1931م).
المؤلفات الحديثة:
ازداد اهتمام المؤلفين المعاصرين بموضوع الحسبة، وأصبح هذا الموضوع يلقى عناية متزايدة في الأوساط العلمية؛ نظراً لما كان يمثله من مظهر حضاري في تاريخ الإسلام، ولأنه كان يمثل نظاماً للرقابة والتفتيش بالغ الأهمية لحماية المصالح الجماعية.
ونجد اليوم مقالات عديدة تتحدث عن موضوع الحسبة، من زوايا مختلفة، كما أن بعض المؤتمرات العلمية قد تناولت موضوع الحسبة، وركزت على أبحاثه ووظائف المحتسب.
ومن أهم هذه الدراسات التي أُتيحَت لي فرصة الاطلاع عليها، ما أسهم به مؤتمر الفقه الإسلامي الذي انعقد في جامعة دمشق عام (1961م)، في موضوع الحسبة، وهذه المحاضرات مسجلة ضمن كتاب: “أسبوع الفقه الإسلامي” المطبوع في القاهرة، بالإضافة إلى عدد من الدراسات الأخرى، ومن أهمها: ما كتبه المرحوم الأستاذ محمد المبارك في كتابه: “الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية”، الذي عرض فيه مؤلفه موضوع الدولة ومدى جواز تدخلها في الشؤون الاقتصادية، كما تحدث عن موضوع الأسعار والأجور، وأبدى رأي الإسلام فيهما.
الفرق بين المحتسب والمتطوع:
تعتبر الحسبة فرض عين بالنسبة للمحتسب، بحكم ولايته ووظيفته، فهو مسؤول عن القيام بواجبه كلما وجد الضرورة لذلك، أما بالنسبة للمتطوع فلا تعتبر في حقه فرض عين، وإنما هي فرض كفاية؛ لأنه غير مكلّف بها، ويجب على كل مسلم على وجه الكفاية أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ تدعيماً للمسؤولية الجماعية، وتأكيداً لرفض المجتمع الإسلامي كل انحراف أو زلل في مسيرته.
ويجب على المحتسب المتفرغ لهذه الأمة أن يستعين بأعوان يساعدونه في مهمته من أصحاب الاختصاص، كما يجوز له أن يعاقب ويزجر باسم السلطة كل مَن يتجاوز حدود الشرع، في غير الحدود، ولا يجوز للمتطوع أن يقوم بذلك من غير تكليف أو ولاية له بهذا الشأن، وإلاّ انتشرت الفوضى، فالمتطوع لا يجوز له أن يتجاوز حدود الإنكار، بأن يجعل من نفسه وصياً باسم السلطة على مصالح الأمة؛ إذْ إن ذلك لا يجوز إلاّ بتكليف من السلطة المختصة.
وظائف المحتسب:
وظائف المحتسب كثيرة ومتعددة، وقد ذكر المؤلفون في موضوع الحسبة أشكالاً مختلفة من مسؤوليات المحتسب، وكيفية قيامه بتلك المسؤولية, ومن الطبيعي أن تلك الوظائف ليست قاصرة على ما ذكره الباحثون في القرن السادس والسابع من أنواع المهن، وإنما يمكن أن تتعداها إلى كل مهنة جديدة يجد المحتسب ضرورة حماية المصالح العامة فيها، سواء ما تعلّق منها بحياة الناس، أو طعامهم، أو صحتهم، أو تعليمهم، أو أخلاقهم، أو معاملاتهم.
ونذكر منها على سبيل الإيجاز ما يلي:
1- حقوق الله:
يقوم المحتسب بالأمر بالمعروف، فيدعو إلى أداء الصلوات والعبادات في أوقاتها، وأدائها على الوجه الصحيح، فإن وجد انحرافاً في كيفية أداء العبادات فيجوز له أن يأمر بتصحيح الأداء؛ لكي يكون منسجماً مع التعاليم الإسلامية، ولا يجوز له أن يتدخل في كيفية الأداء إذا كانت منسجمة مع وجه من وجوه الاجتهاد؛ لأنه ليس من مهمة المحتسب أن يمنع الرأي الاجتهادي، ما لم يؤدِّ ذلك إلى فتنة تهدد وحدة الأمة بالتمزُّق.
ومن مهمة المحتسب: أن يمنع الجهلة من التصدي لموعظة الناس، كما يجوز له أن يمنع دعاة الفتنة من إفساد عقائد الناس، وما أجمعوا عليه، كما يجوز له أن يمنع من استخدام المساجد وأماكن العبادات؛ لكي تكون موطناً للهزل والتسلية.. أو في غير ما أُعِدَّت له.
2- مراقبة الآداب العامة:
يجب على المحتسب أن يحمي الآداب العامة فلا يسمح بأن ترتكب الفواحش في الأماكن العامة، أو أن يتعود الناس على عادات تخالف الآداب الإسلامية في لباسهم، وعاداتهم، واختلاطهم، وأحاديثهم، وتسليتهم، وأفراحهم، إلاّ أن ذلك لا يجيز له أن يقيد حريات الناس فيما أجازه المشرع لهم من إباحات وحريات، ويخضع ذلك لمعيار اجتماعي تحدده الأعراف الإسلامية دون تزمت أو تطرف؛ لأن الإسلام لا يمنع من أن يمارس المواطن المسلم حياته السليمة الصحيحة.
3- مراقبة الصحة العامة:
يجب على المحتسب أن يراقب الأماكن العامة التي يرتادها الناس للعلاج: كالمستشفيات، أو للطعام: كالمطاعم العامة، أو للإقامة: كالفنادق، أو للنظافة: كالحمامات العامة، أو للمهن التي ترتبط بنظافتها صحة الناس: كالخبازين واللحامين والطباخين، وصانعي الحلوى.. وغيرهم، فإن وجد أن الشروط الصحية ليست متوافرة، أمرهم بذلك، ويجوز له أن يصادر السلع التي يراها ضارة بالصحة العامة, كما يجب عليه أن يمنع الأدوية التي تهدد حياة الناس أو تضر بهم.
4- مراقبة الأسواق:
يجب على المحتسب أن يفتش الأسواق العامة ويراقب الموازين والمكاييل والمبايعات، وأنواع الغش والاحتكار والتدليس، والمعاملات الربوية، فإن وجد أن ذلك يتنافى مع أحكام الإسلام في العدل والتوازن والحق منع ذلك وزجر عليه، ويجوز له أن يتخذ كل وسيلة لمنع هذا الانحراف, ومن الطبيعي أن الانحراف في مثل هذه المعاملات قد لا يكتشفه إلاّ أصحاب الاختصاص؛ لذا يجب للمتحسب أن يستعين بأصحاب الاختصاص.
ويجوز له في حالة وجود ما يستدعي توحيد الأسعار أن يفعل ذلك؛ حمايةً لمصالح الأمة، ومنعاً لاستبداد القوي بالضعيف، والبائع بالمشتري، والمنتج بالمستهلك، كما يجوز له أن يمنع الاحتكار إن وجد أن ذلك يسيء لمصالح الأمة، سواء في ذلك احتكار السعر أو احتكار السلعة، أو احتكار التخصص المهني، أو احتكار الاستيراد، أو احتكار المقاولات، أي: كل احتكار يخل بالتوازن ويمنح المحتكر حقاً في فرض ما يريده على الآخرين.
5- مراقبة الأبنية:
يجب على المحتسب أن يراقب الأبنية العامة, ويرى مدى توافر صفات الإتقان في بنائها؛ لئلا تهدد حياة الساكنين فيها، كما يجوز له أن يراعي توافر الشروط الصحية في بنائها, من حيث التهوية السليمة، ويجوز له أيضاً أن يراقب مدى انسجامها الظاهري مع جمال الترتيب والتنسيق، فلا يبني صاحب بناء في منتصف الطريق، ولا يشوّه جمال المباني المجاورة بعبث جاهل، أو تخطيط سقيم.
6- مراقبة أماكن التعليم:
يجب على المحتسب أن يراقب بدقة أماكن التربية والتعليم، وأن يطلع على سير التعليم ومناهجه وأسلوب تلقينه.. فيمنع ما هو فاسد منه, ويشجّع ما هو حسن.
وأخيراً:
فإن نظام الحسبة هو جهاز للرقابة, ابتدعه تاريخنا الإسلامي؛ للنهوض بمستوى المجتمع الإسلامي، حضارياً وأخلاقياً وإدارياً وتربوياً وصحياً، وإذا كان مجتمعنا المعاصر قد ابتدع أساليب إدارية وأجهزة مختصة للقيام بهذا الدور، سواء من خلال الأجهزة الرقابية المتعددة في كل وزارة من وزارات الدولة، تراقب وتخطط، وترعى كل مصلحة عامة، فإن نظام الحسبة يظل هو المنطلق الحضاري لأي تقدُّم معاصِر، لا في اختيار نفس الأساليب القديمة في الرقابة، ولكن في تطوير جهاز الرقابة المعاصرة؛ لكي يؤدي نفس الدور، وبحجم أكبر، وبأسلوب أكثر دقة من الدور الذي كان يؤديه نظام الحسبة.
وهنا أدعو -وبكل إخلاص وإلحاح- إلى أن يكون جهاز الرقابة في كل مجتمع، جهازاً مؤمناً برسالته الاجتماعية، نظيفاً في سمعته، مهذباً في أداء رسالته، قوياً في الحق، شديد الإحساس بآمال الناس وتطلعاتهم، لا يتسامح مع القوي لقوته، ولا يتشدد مع الضعيف لضعفه، يحتسب أجره عند الله في مواقف جهاد وإخلاص، يقاوم الظلم أياً كان مصدره، ويواجه الباطل في مواقعه ولو كانت محصنة، يتلاحم بإخلاص وصدق مع مصالح الأمة، ويرفع صوت الحق والفضيلة والعدل شعاراً له؛ لكي يكون موطن ثقة الأمة به، سيفاً مع الحق وفي مواجهة الباطل، دائماً وأبداً.
http://www.alkeltawia.com/site2/pkg09/index.php?page=show&ex=2&dir=dpages&cat=1032