عبد القادر بن فالح الحجيري السلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الحسبة:
في اللغة: هي في اللغة من العد والحساب, وتأتي بمعنى طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل.
أما في الاصطلاح فقد عرفها جمهور الفقهاء بأنها: ولاية دينية يقوم ولي الأمر -الحاكم- بمقتضاها بتعيين من يتولى مهمة الأمر بالمعروف إذا أظهر الناس تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله؛ صيانة للمجتمع من الانحراف، وحماية للدين من الضياع، وتحقيقًا لمصالح الناس الدينية والدنيوية وفقًا لشرع الله تعالى.
أدلة مشروعيتها:
مشروعيتها في الكتاب الكريم:
دلت نصوص عدة من القرآن الكريم على مشروعية الحسبة، ونصت على ذلك بشكل واضح وصريح، ومن تلك النصوص الكريمة:
1- قوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:104].
2- وقوله سبحانه: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
3- وقوله تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71].
4- وقوله عز وجل: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحـج:41].
5- وقوله تعالى: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان:17].
مشروعيتها في السنة المطهرة:
جاء عدد من أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تنص بشكل واضح وصريح على مشروعية الحسبة، وتأمر بالقيام بها على أفراد المجتمع المسلم، ومن تلك الأحاديث:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره, ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون, ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن, ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن, ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم والجلوس في الطرقات, فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها, قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف, ونهي عن المنكر».
مشروعيتها من الإجماع:
أجمعت الأمة الإسلامية ممثلة بعلماء السلف المعتبرين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استنادًا منهم لنصوص الكتاب والسنة.
ومن أقوال بعض هؤلاء العلماء التي توضح إجماع الأمة على مشروعية الحسبة ووجوبها:
قول النووي -رحمه الله-: “وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب, والسنة, وإجماع الأمة..”.
وقال أبو بكر الجصاص -رحمه الله-: “أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه، وبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أخبار متواترة عنه فيه، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه…”.
وقال ابن حزم -رحمه الله-: “اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحمد منها…”.
وبهذا يتضح أن الحسبة تقوم على أسس وركائز متينة في الإسلام: هي كتاب الله, وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الأمة، وهذا كله مما يؤكد على أهميتها وفضلها.
حكمها:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ويكون فرض عين على القادر إذا لم يقم به غيره، ومناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته, كما قال الله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن:16], والقدرة والسلطان والولاية، فذووا السلطان أقدر من غيرهم؛ فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، والقرآن قد دل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه, بل هو على الكفاية, كما قال تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:104], والجهاد من تمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يقم به أحد أثم كل قادر بحسب ما أوتي من قدرة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلَسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ, وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ».
مسألة: في شَرْط سقوط الحرج عن الباقين:
شَرْط سقوط الحرج عن الباقين، إذا قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من يكفي هو أن يكون سكوته؛ لعلمه أن هذا الواجب قد قام به من يكفي.
قال ابن النحاس في كتابه: “تنبيه الغافلين” (ص:15-16): “واعلم أن مقتضى فرض الكفاية، أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى، وسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت؛ لعلمه بقيام من قام عنه بالغرض، فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر -والله أعلم- أنه لا يسقط عنه الحرج؛ لأنه أقدم على ترك واجب عمدًا، كما لو أقدم على الفطر في رمضان؛ ظانًّا منه النهار باقٍ وكان ليلًا، أو جامع ظانًّا أن الفجر قد طلع وكان ليلًا، فإنه يأثم بذلك” ا.هـ.
مسألة: في الحالتين اللتين يصير فيهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكفاية إلى الفرض العين.
الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية, ولكنه يصير فرض عين في حالتين:
الأولى: ألا يعلم به إلا هو.
الثانية: ألا يتمكن من إزالته إلا هو.
قال أبو زكريا النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم: “وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني يصير فرض عين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف”.
فائـدة في ميزة القائم والمؤدي لفرض الكفاية على القائم بفرض العين:
القائم والمؤدي لفرض الكفاية له ميزة على القائم بفرض العين، تلك هي أن القائم بفرض العين أسقط الحرج عن نفسه فقط، والقائم بفرض الكفاية أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين وفرض العين إذا ترك.
وقد قال اختص هو بالإثم، وفرض الكفاية إذا ترك أثم الجميع.
قال ابن النحاس في كتابه “تنبيه الغافلين” (ص:17-18): “وقد قال النووي -رحمه الله- في “زوايد الروضة”: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين، من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين.
وقد قال إمام الحرمين -رحمه الله- في “الغياث”: والذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنه لو ترك المتعين لاختص هو بالإثم، ولو فعله اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو ترك أَثِمَ الجميع، ولو فعله سقط الحرج عن الجميع، ففاعله ساع في صيانة الأمة عن الإثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمة من مهمات الدين والله أعلم” ا.هـ.
مكانتها:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتدفع شر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما.
وقد أمر الله تعالى عباده بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصلح, واجتناب الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر في التشريع الإسلامي: فإن مدار الشريعة على قوله سبحانه تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن:16]، المفسر لقوله سبحانه تعالى: ?اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ? [آل عمران:102].
وعلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدين مع احتمال أدناهما هو المشروع, ثم إن مقصد الولايات الشرعية من: خلافة, وقضاء, وحسبة.. وغيرها: أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فولاية الحسبة إنما جعلت لإصلاح دين الخلق, الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، ولإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دينهم.
والشريعة إنما جاءت بأحكام تحفظ على الناس الكليات الخمس, أو المصالح العليا الخمس, وهى: الدين, والنفس, والعقل, والنسل, والمال.
فكل الأحكام الشرعية في هذا الخصوص إنما هي أوامر ونواه؛ للحفاظ على هذه الكليات، والحسبة إنما تسعى للتحقق من تطبيق هذه الأوامر والالتزام بالنواهي.
ويمكن أن نفصل هذه الناحية للحسبة في أهداف أساسية فيما يلي:
1- حماية دين الله تعالى بضمان تطبيقه في حياة الناس الخاصة والعامة, وصيانته من التعطيل أو التبديل أو التحريف, فقد وكل إلى المحتسب حث الناس على الالتزام بأداء عبادتهم بكيفياتها الشرعية, ومنعهم من التبديل والتحريف فيها، كما أنه يمنع البدع في الدين ويحاربها, ويوقع العقاب على مرتكبيها, فالمحتسب يهتم بكل ما يتعلق بالدين, ويسعى لإحيائه وتمكينه.
2- تهيئة المجتمع الصالح بتدعيم الفضائل وأنمائها، ومحاربة الرذائل وإخمادها, فالمحتسب يمنع المنكرات الظاهرة ويعاقب مرتكبيها إن كان مما يوكل إليه العقاب فيه، أو يرفعه إلى القضاء إن كان مما يختص القاضي بالفصل فيه.
كما أنه يتتبع مواطن الريب والشبهة, فيمنع وقوع المنكرات فيها, مثل: مواطن اختلاط الرجال بالنساء، والأماكن التي يرتادها أهل الشك والريب.
3- إعداد المؤمن الصالح المهتم بقضايا مجتمعه، وحماية مصالحه؛ ذلك أن الإسلام جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على كل مسلم؛ حتى لا يرى منكراً قد ارتكب فيسكت عنه، أو يرى معروفاً ترك فيتواطأ على الترك.
فإذا قام بذلك كان أدعى إلى أن يأتي هو ذاته المعروف الذي أمر به وينتهى عن المنكر الذي نهى عنه غيره؛ لذا قال الله تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة:44].
ومن جانب آخر فإن الحسبة -وهي الحد الرسمي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- تؤمن لأفراد المجتمع المتابعة الدائمة لأنشطتهم؛ بتدعيم الصالح منها وتعزيزه، ومحاربة الفاسد منها والزجر منه.
4- بناء الضمير الاجتماعي -الوازع الجماعي-, الذي يحول دون هتك مبادئ المجتمع المسلم وقواعده وآدابه العامة وأعرافه؛ ذلك أن للبيئة الاجتماعية أهمية قصوى في سلوك أفراد المجتمع، فإذا كان للمجتمع قواعد مرعية وآداب محفوظة ومبادئ محمية من سلطاته صعب على العصاة الخروج عليها، وتربي في أنفسهم الحياء من مخالفة المجتمع والخروج عليه.
أما إن كانت هذه المبادئ والقواعد منتهكة من غالب أفراد المجتمع، ولم تكن هناك سلطة تسعى للحفاظ عليها؛ بحجة أن تلك الأمور من الشئون الخاصة، سهل على الأفراد الخوض في المنكرات، بل إن العصاة يغرون الصالحين بسلوك نهجهم؛ لأن الناس يحبون التشبه ببعضهم بعضاً؛ لذا قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ? [النــور:19].
وأمر الله تعالى أن تكون العقوبات الشرعية علنية؛ حتى يتعظ الناس بعذاب غيرهم، فقال بعد أن ذكر عقاب الزناة: ?وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ? [النــور:2].
كما أمر النساء بالحجاب, وعدم إبداء الزينة لغير المحارم، بل وأمرهن بعدم التلين في الكلام بما يثير الرجال، ثم بعد ذلك كله أمر كلًا من الرجال والنساء بغض البصر منعاً للفتنة المثيرة للشهوة
5- استقامة الموازين الاجتماعية, واتزان المفاهيم واستقرارها؛ حتى لا ينقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً؛ لذا نجد أن من أشد الأمور خطورة انتشار المنكرات, ثم تواطؤ المجتمع على السكوت عنها, ثم قبولها أخيرًا! فإذا بلغت المنكرات درجة القبول عند الناس، وذلك بأن يروها أموراً معتادة لا حاجة لاستنكارها فضلاً عن الإنكار على مرتكبيها، إذا بلغ الحال إلى هذا الحد، فإن المجتمع يفقد موازينه المستقيمة, وتذوب مفاهيمه الصحيحة لكل القيم الفضيلة، وعندئذ يعجز كل قانون عن التأثير في الناس, ولا سيما القوانين الوضعية التي تقوم على مبدأ عدم التدخل في الحريات الشخصية, فلو نظرنا إلى كثير من المجتمعات الإباحية نجد أن الأمور قد انفلتت من يد السلطات؛ إذ أصبح المجتمع لا يستنكر سلوك الانحراف والشذوذ، والسلطة لا تقدر على محاربة الرذائل والمخدرات والجرائم التي يعتدى فيها على حرمات الناس.
بينما نجد المجتمعات الإسلامية -على وجه العموم- لا تزال تحتفظ بأصولها ومبادئها، مما يجعل السلوك الانحرافي والشذوذ والخروج على قيم المجتمع أموراً مستقبحة ومستنكرة من عامة الناس.
6- دفع العقاب العام من الله تعالى، ومنع حالات الفساد الجماعي؛ ذلك أن فشو المنكرات وظهور الفساد يستحق العقاب من وجهين:
الأول: أن ارتكاب تلك المنكرات موجب للعقاب.
الثاني: أن السكوت عن هذه المنكرات من غير أصحابها موجب آخر للعقاب؛ لذا قال الله تعالى محذراً هذه الأمة أن تسكت عن المنكر: ?وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً? [الأنفال:25]؛ وذلك حتى لا يقع لهم مثل ما وقع لمن قبلهم، الذين حكى الله تعالى حالهم في قوله: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [المائدة:78-79].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب».
7- تحقيق وصف الخيرية للأمة، كما قال الله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110]؛ وذلك لأن صلاح المعاش والمعاد إنما يكون بطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس.
وما تمت هذه الخيرية إلا بعد تحقيق الصفات المذكورة في الآية, وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فمن اتصف بهذه الصفات من هذه الأمة دخل في هذا المدح، كما قال عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه- في حجة حجها فرأى من الناس منكراً فقرأ: “?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران:110], ثم قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها”.
أهميتها:
يهدف الإسلام إلى خلق مجتمع آمن مستقر تسوده المحبة, ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى؛ حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض, وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان, وهي عبادة الله تعالى، كما قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات:56].
ولأن الناس محتاجون دائمًا إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس، لزم أن يكون هناك من يذكر الناس بذلك, ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحكمة من مشروعيتها:
1- إقامة حجة الله على خلقه:
كما قال تعالى: ?رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ? [النساء:165].
وقال تعالى: ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ? [المائدة:19].
وقال تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? [البقرة:143].
2- خروج الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من عهدة التكليف والمسئولية:
كما قال تعالـى في قصة أصحاب السبت عن الفرقة الناهية أنهم قالوا لمن قال لهم: ?وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ? [الأعراف:164].
وقال تعالى: ?فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ? [الذاريات:54], دلت الآية بمفهومها على أنه لو لم يخرج من العهدة -بأمرهم ونهيهم- لكان ملومًا.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «الدِّينُ النَّصِيحةُ -ثلاثًا-، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ», فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد أدى النصيحة التي هي الدين، بعد استقامته هو على ما يأمر به وينهى عنه, وامتثاله لذلك.
3- رجاء انتفاع المأمور والمنهي بتقوى الله تعالى باجتناب المنهيات وفعل المأمورات:
كما قال تعالى عن الفرقة الناهية في قصة أصحاب السبت: ?مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ? [الأعراف:164].
وقال تعالى: ?وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ? [الذاريات:55].
وقال تعالى في بيان من ينتفع: ?سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى? [الأعلى:10].
نبذه عن تاريخ الحسبة:
إن أول من مارس الحسبة في التاريخ الإسلامي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان يمشي في الأسواق وينهى عن الغش والتطفيف في الكيل والوزن, وسار على دربه أصحابه وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون, وعندما توسعت رقعة الدولة الإسلامية صار يتوجب على ولاة أمور المسلمين تعيين من يرونه أهلاً للقيام بالحسبة, ويمدونه بما يحتاج إليه من الأعوان والوسائل اللازمة لذلك, ويفوضونه صلاحية البحث عن المنكرات في الأسواق والطرقات, وفي أماكن تجمعات الناس, فيؤدب مرتكبيها ويحذرهم من اقترافها, ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة, مثل: منعهم من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل, والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة, والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب.. وغيرها عند المبالغة في ضربهم للصبيان المتعلمين, ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء, بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه, وليس له إمضاء الحكم في الدعاوي مطلقاً, بل في ما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش.. وغيرها في المكاييل والموازين, وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف, وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم ينزه القاضي عنها؛ لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة؛ ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء, وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية, مثل: العبيديين بمصر والمغرب, والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره, ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة, وصار نظره عاماً في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وانفردت بالولاية.
تشير العديد من المصادر التاريخية أن الحاضرة اليونانية قد عرفت نظاماً اقتصادياً انتشر مع انتشار السيطرة اليونانية بالبلدان, تضمن تعيين ما يدعى (اغورانوموس) أي: صاحب السوق, والواقع أن هذا النظام قد اتسم بطابع مادي صرف, تحدد بالإشراف على أمور السوق, والتأكد (من صحة المكاييل, وجودة المتاجر والبضاعة المعروضة للبيع, وسلامة المعاملات التجارية), كما أن اليونان قد قاموا بتطبيق هذه الصيغة بعد تحديدها في المدن التي سيطروا عليها, ثم احتفظ الرومان والبيزنطيون بها, وطوروها فكانت تلك المدن تخضع لسلطان صاحب السوق بشكل أو بآخر دونها تبديلات جوهرية تذكر بتفاصيل العمل, وأداء الواجبات الخاصة بنشاط السوق, ولكن نظاماً مثل هذا يعد قائماً بذاته آنذاك, في حين نجد إن نظام الحسبة العربي الإسلامي يشمل جوانب عديدة, من ضمنها: مسألة السوق, وإن كانت بداية الحسبة قد نشأت لضرورات اقتصادية, وبذلك لا يمكن عد نظام السوق اليوناني أساساً لفكرة الحسبة في الإسلام؛ لأن الحسبة في المجتمع العربي الإسلامي تتضمن جانبين:
أحدهما: مادي, (ما يتعلق بالسوق).
والآخر: معنوي, (أخلاقي).
ففكرة الحسبة في المجتمع العربي الإسلامي أعمق منها في تلك المجتمعات؛ فإن الأسواق قد نشأت في المنطقة العربية قبل نشوئها في المجتمعات الرومانية والبيزنطية.. وغيرها, فكما هو معروف أن لموقع شبه الجزيرة العربية أهمية كبيرة في تجارة العالم منذ العصور القديمة, وكانت اليمن أكبر سوق لتبادل السلع الهندية والحبشية وشرق أفريقيا وآسيا وجنوب أوروبا, إن نفس الذين يدعون تسرب علوم اليونان إلى العرب يؤكدون دور الأسواق العربية وليس الأوروبية في ذلك, كما يؤكدون تطورها وحسن نظامها, أو أثرها الفاعل في التماس بين الشعوب, حتى (خيل لبعض القدماء أن هناك قارة تمتد من أفريقيا إلى الهند, وأن بلاد العرب فيها بمثابة بيت في الوسط على الساحل الشمالي من المياه الواقعة جنوب باب المندب).
ولعل مدينة (جرها) التي أسسها العرب بعد الغزو الفارسي لبابل خير مثال على الأسواق الكبيرة والتجارة المزدهرة للعرب, ومن هنا نجد أن بداية التطور التجاري وبداية تطور الأسواق التجارية كانت من نتائج أنشطة أجدادهم, فإذا كانت التجارة عربية والأسواق عربية فإن ذلك لا يحتم أن تكون أنظمتها قد أخذت عن الغير, بل إن كل المبادرات المبكرة تشير إلى أن العرب هم المبادرون علماً وعملاً, يحملون شعلة الحضارة الإنسانية الأصيلة للعالم أجمع, ويضمن ذلك كله نظام الحسبة العربي الإسلامي, ذلك النظام الرائد في مجال تنظيم العمل الاقتصادي وإدارته على نحو متطور ورصين, بما يضمن تحقيق مبادئ العرب والإسلام في إشاعة الحق والمساواة, وسيادة الأخلاق والمثل والقيم السامية, زد على ذلك ما أكدته كل الصادر التاريخية من أن نظام الحسبة قد جاء أثر التطور الاقتصادي, والتوسع في الأعمال التجارية في المجتمع العربي الإسلامي, وازدهار المدن والتجارة والصناعة والصيرفة, وان بداية ظهور الاحتساب مع مبادرة للرسول العربي -صلى الله عليه وسلم-, وبهذا فلا مجال للشك في أصالة الحسبة العربية الإسلامية.
المراجع:
1- الحسبة, لشيخ الإسلام ابن تيمية.
2- القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, للشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي.
3- نهاية الرتبة في طلب الحسبة, لعبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيرازي الشافعي