ليست شريعة الإسلام كالشرائع الأخرى السماوية انتهى عملها بفترة معينة من الزمن، بل إنها آخر منهج إلهي للبشر كافة، يلبي للإنسان كل متطلباته في حياته وأخراه، على رغم أنف الملحدين الذين يتجاهلون هذه الحقيقة الناصعة، منساقين في ذلك مع فطرتهم التي ران عليها نزيف المستور ذات البراقة التي شقيت بها أمتنا اليوم، وتعاني من جرائها الأمرين، والتي بدأ فشلها وانتكاسها يظهر في الآفاق حتى في منبتها الأصلي.
ونظرًا لكون الإسلام دين ودولة، شرع قوانين عديدة للحياة الإنسانية, متناغمة والفطرة البشرية في ارتفاعها وانحدارها، ومن جملة هذه القوانين قانون: (الحسبة), الذي يكفل للمجتمع حياة الرخاء والأمن, بعيدًا عن الغش والتزوير.
إذًا: بحثنا سيكون عن الحسبة في الإسلام، وسيقول البعض: إن هذا الحديث مكرور، عالجته كثير من المصادر قديمًا، فأي جديد فيه؟
أجيب بأن أكذوبة قد اختلقها مستشرق يدعى (جوستاف جريتبام) في كتابه: “الإسلام في العصر الوسيط”(1), فزعم بأن نظام الحسبة مستمد من كتاب: “والي المدينة” البيزنطي، يعني: أنه ليس إسلاميًا، وإنما هو منقول عن الغير؛ لذلك سنضطر إلى إلقاء نظرة عجلى على هذا النظام, ووضع النقط على الحروف -كما يقولون-؛ لبيان زيف من يدعون أنهم يعالجون قضايا الإسلام بروح منصفة، وبدافع من نشدان الحق، والدراسة النزيهة، وبالمقارنة ستبدو الحقائق بارزة لا يشوبها بهتان وزيغ.
الحسبة في اللغة:
“من حسب حسبًا وحسبانًا بالضم وحسبانًا وحسبة وحسابة بكسرهن عدة والمعدود محسوب… والحسبة بالكسر الأجر والتدبير, واسم من الاحتساب، وهو حسن التدبير كالاحتساب”(2).
وقد تصدى لهذه المادة ابن مالك -رحمه الله- في كتاب: “الأعلام بمثلث الكلام” مفصلًا معانيها، فقال: “حسب(3) للعد, وللظن حسب(4),
وحسب(5) أفهم منه صار ذا حسب, فهو حسيب أي كريم المنتسب, يحسب آباء ذوي انتخاب, ومرة من الحسـاب حسبـة, والجر والتدبير أيضًا حسبـة(6).
الحسبة في الاصطلاح:
“هي من الخطط الدينية التي تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإداريًا: تطلق على حسابات الدولة، وجهاز المحاسبة والمواريث ومراقبة المكاييل، ثم اختصت بمعنى شرطة الأسواق والآداب.
والحسبة في أصلها: نظام إسلامي بحت, نصت عليه آيات قرآنية قاطعة، من ذلك قوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
وقوله تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ? [التوبة:71].
كما نصت عليه أفعال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد باشر بنفسه هذه الوظيفة، روى مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام, فأدخل يده فيها, فنالت أصابعه بللًا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله, قال: أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس؟ من غش فليس مني»(7).
وقد أشرك رسول لله -صلى الله عليه وسلم- صحابته –رضي الله عنهم- في هذا الأمر, فعين سعيد بن العاص على سوق مكة؛ ليتسنى بذلك أن تسير الحياة على طريقة إسلامية سليمة, ويلتزم من تسول له نفسه الغش الأخلاق الفاضلة والسلوك القويم.
وعلى هذا النهج سار الخلفاء الراشدون، فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقوم بوظيفة المحتسب بنفسه، فيجول في الأسواق؛ مراقبًا الموازين، وسير العمل فيها، كما هو معروف عنه، وقد روي: “أنه ضرب جمالًا فقال له: حملت جملك ما لا يطيق”.
وبجانب قيامه بهذه المهمة فقد عين على سوق المدينة عبد الله بن عتبة، وكلف ببعض أسواق المدينة امرأة أنصارية تسمى: الشفاء بنت عبد الله(8).
وقد اشترط الفقهاء: أن يكون المحتسب عالمًا بالشريعة، صلبًا في الحق، عارفًا بمعالجة المشاكل؛ حتى يستطيع أن يقوم بالمهمة على خير وجه، وهذا النظام بطبيعة الحال تكيف حسب تطورات الأزمان، وتغيرت أساليبه بتغير العصور، ولكنه لم يخرج أبدًا عن التصور الشرعي في جوهره.
وقام الخلفاء الأمويون والعباسيون بمهمة المحتسب رعاية للصالح العام، وكانوا ينيبون عنهم القضاة وعمال الشرطة, وهكذا نجد تداخلًا واضحًا في الاختصاصات، ولما جاء عصر المهدي العباسي أسس ديوانًا خاصًا لمحاربة الزنادقة, الذين يعملون على تخريب المجتمع الإسلامي.
فبرز نظام الحسبة للفصل في مشاكل اجتماعية، والقائم بها يعين من طرف الخليفة أو وزيره أو القاضي، وهكذا انتشر نظام الحسبة في رقعة العالم الإسلامي في بغداد، ومصر، ودمشق، والمغرب، والأندلس.
ثم أمسى في عهد الفاطميين المحتسب يعين عنه نوابًا يجولون في الأسواق، متفقدين القدور واللحوم والطبخ, ويجبرون أصحاب المراكب على عدم حمل ما لا يجب حمله من البضائع، ويراقبون السقائين؛ لضمان نظافة القرب… وهلم جرًا.
وكان يتولى في الأندلس الحسبة موظف يدعى: المحتسب أو صاحب السوق؛ لأنه يشرف على كل ما يتعلق بالسوق من قريب أو بعيد، ويصور المقري ذلك بقوله: “وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن، وكأن صاحبها قاض, والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبًا على الأسواق وأعوانه معه, وميزان الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان؛ لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان.. إلخ”(9).
وأما في المغرب فقد استمرت الحسبة إلى وقت متأخر جدًا، ولا زلت أذكر من كان يتولى أخيرًا هذه الوظيفة في تطوان، وكان عمله لا يتجاوز السوق، ثم اضطلعت بمهمة الحسبة في مغربنا مصالح حكومية, فاستغني بذلك عمن تدعونه محتسبًا.
وإذا عدنا إلى المصادر التي تحدثت عن الحسبة فإننا لا نجدها تخرج في تعريفها وتحديدها عن المفهوم الإسلامي الأصيل, فهذا ابن خلدون يقول في المقدمة: “أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين, يعين بذلك من يراه أهلًا له, فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان, ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة, مثل: المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة.. إلخ”(10).
ونجد ذلك عند الماوردي في الأحكام السلطانية وابن تيمية في كتاب: “الحسبة في الإسلام”, والشيزري في كتاب: “نهاية الرتبة في طلب الحسبة”.. وغير هذا كثير.
هذه هي الحسبة في الإسلام بإيجاز، فماذا قال المستشرق (جوستاف)(11) في كتابه: “الإسلام في العصر الوسيط؟”
إنه عقد مقارنة بين الحسبة في الإسلام وكتاب: “والي المدينة” البيزنطي, وحاول بالطريقة المعروفة عند المستشرقين أن يشوه أصالة هذه النظام، ولكن ادعاؤه لا يقوم على أساس من الموضوعية والإنصاف؛ ذلك أن كتاب: “والي المدينة” ألف في القرن العاشر للميلاد, والحسبة عندنا مستمدة من الكتاب والسنة، وما قام به الخلفاء الراشدون, وبهذا يكون هذا النظام أسبق من الكتاب المذكور بقرنين.
والسائد في كتاب: “والي المدينة” الحديث عن أصحاب الجواهر وبائعي الملابس الحريرية.. وغيرها من المسائل التي تتعلق بالطبقة الأرستقراطية، في حين الحسبة تعتني بكل الطبقات.
وينص كتاب: “والي المدينة” على قوانين تقيد الطبقة الأجنبية واليهود والرقيق، أما حسبتنا فلا تفضل طبقة على طبقة, فالكل سواء أمام قانونها، وأمام قانون الإسلام كما هو معروف لدى الجميع.
من هنا تظهر الفروق واضحة بينةً، ويبدو الافتراء بادي المعالم، وليس ببعيد أن تكون مواد من كتاب: “والي المدينة”, وقد أخذت من نظام حسبتنا، وخاصة ونحن نعلم أن الإنجيل لا يتدخل في أمور الدولة بتاتًا, وأن مبدأ الدعوة المسيحية هو: “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”؛ لذلك أرجح هذا الرأي، غير أننا لا ننفي وجود ما يشبه الحسبة في الأمم القديمة, التي كان لها نظم خاصة في الرقابة على الأسواق: كالإغريق مثلًا، وكيف ما كان الحال فالفارق واضح جدًا بين ما هو سماوي وما هو أرضي.
ولا أريد أن أنهي الحديث دون الإلماع إلى كتاب لطيف صدر حديثا للأستاذ موسى لقبال تحت عنوان: “الحسبة المذهبية في بلاد المغرب العربي، نشأتها وتطورها”, وقد وردت فيه هذه الفقرة: “وقد تطورت هذه الوظيفة مع الاحتفاظ بها في العصور التالية حتى وجدها العرب المسلمون في الأماكن التي وصل إليها نفوذهم في المشرق والمغرب فأبقوا عليه لأهميتها، ونالها التطوير حتى أصبحت نظامًا إسلاميًا, لا يحتفظ إلا بإثارة ضعيفة في الماضي”(12).
يفهم من هذا الكلام أن المسلمين لم يصدروا في قيامهم بالحسبة عن ذاتهم التي صاغها منهج الله، وإنما تأثروا بما وجدوه في البلدان الأعجمية, فأبقوا عليها؛ لأهميتها، وطوروه؛ ليصبح إسلاميًا, كما لو كان ذلك جديدًا عليهم, ولم ينص عليه الكتاب والسنة، ولست أتهم الأستاذ بدسيسة, بدليل أنه ذكر بعد ذلك: أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أول من مارس مهمات الحسبة، وكان من الأجدر أن يقول: إن المسلمين أبقوا على هذا النظام؛ لأنهم ألفوه موافقًا في ملامحه العامة لحسبتهم, وبذلك تكون الصياغة بمأمن من الشكوك أو التأويل.
وليس بدعًا أن تتفق بعض الأحكام الإسلامية مع بعض الأحكام في البلدان الأخرى -إذا لم تكن مقتبسة منها, كما رجحنا فيما سبق-, أن كانت من باب البداهة التي تحتم هذا الاتفاق, مع الفارق المبتدي في أن حسبتنا من الأمور الدينية, التي يتحقق بها سعادة المجتمع البشري، باعتبار أن المنهج الإلهي الإسلامي هو الذي يوجه الحياة الإنسانية، ويخطط لها في كل فرع من فروعها، وكل مجال من مجالاتها، لا الحياة هي التي تفرض إرادتها عليه.
المصدر: مجلة: دعوة الحق العددان (164) و (165):
______________________
1- الدكتور عبد الهادي الشال، الإسلام والمجتمع الفاضل, سلسلة البحوث الإسلامية (ص241), ذو الحجة (1392ه).
2- انظر: الفيروز آبادي القاموس (ص:54-55).
3- بفتح العين.
4- بكسر العين.
5- بضم العين.
6- انظر: (ص:45) من الكتاب المذكور، تحقيق الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي, ط (1) (1329), مصر.
7- مسلم (1/ 99), حديث (102), ط (1), تحقيق: فؤاد عبد الباقي.
8- انظر المجليدي أحمد سعيد, التيسير في أحكام التسعير, تحقيق موسى لقبال, (ص:42), الشركة الوطنية للنشر والتوزيع, الجزائر، وقد ذكر: أن من شروط المحتسب: الذكورة, أما تولية عمر -رضي الله عنه- لهذه المرأة فهو شاذ, والحكم للغالب (ص:45).
9- النفح (1/ 218), تحقيق الدكتور إحسان عباس, دار صادر (1388).
10- (ص:404), دار الكتاب اللبناني, (1956م).
11- جوستاف فون جرنيوم, ولد سنة (1909م), وهو نمساوي الأصل, له إنتاج كثير, من بينه الكتاب المذكور الذي ترجمه الأستاذ عبد العزيز توفيق, بعنوان: حضارة الإسلام.
12- (ص:22) ـ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع, الجزائر.