الحسبة في المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
إن الله -عز وجل- جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وعلق خيريتها بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر, قال -تعالى-: ?كنتمْ خَيْرَ أمةٍ أخْرِجَتْ لِلناسِ تَأْمرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمنكَرِ وَتؤْمِنونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لهم منْهم الْمؤْمِنونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقونَ? [آل عمران:110]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح بين المسلمين من أهم الأمور التي يحفظ الله -تعالى- بها العباد والبلاد، وقد مثل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المجتمع بالسفينة التي يحفظها التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»(1)، وسنتحدث في موضوعنا هذا عن قضية التناصح في بيوت الله -عز وجل-؛ كونها خير البقاع، وأحبها إلى الله، رغبةً منا أن نصل بها إلى الكمال؛ فإن المساجد لا تخلو من بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس، والإنسان بطبيعته خطاء، ولكن من يعالج الخطأ؟ وكيف؟
لا شك أنه بالحسبة في المساجد تعالج الأخطاء، فإننا قد نرى الأخطاء، ونتواكل في تعديلها، ولو وجد من يحتسب من أبناء المسجد فيقوم بالمبادرة لذلك لكان في ذلك خير، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى الخطأ فلا يلبث حتى يغيره, فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد»(2)، فحذر -صلى الله عليه وسلم- من المبالغة في التعبد، ولو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتكلم، ولم يأمر بحل الحبل؛ لاستمر الأمر، ومضى الناس في هذا الخطأ، لكن بادره -صلى الله عليه وسلم- بالنصيحة والتوجيه.
وحادثة أخرى عندما رأى رجلاً لا يحسن الصلاة فعلمه كيفية الصلاة الصحيحة, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرد، وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل. ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها»(3)، فكم من الناس اليوم ممن لا يحسن صلاته، لكن من منا يبادر فيأخذ بيده وينصحه, كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الرجل.
وفي حادثة ثالثة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحية المسجد لما رأى من جلس ولم يصلها, فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «دخل رجل المسجد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل الركعتين»(4).
ولما رأى الصحابة الكرام الأعرابي يبول في المسجد أنكروا عليه، وإن كان قد أغلظ البعض له، فعلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريق الأمثل لعلاج هذا الخطأ, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعوه، وهريقوا على بوله سجلاً من ماءٍ، أو ذنوباً من ماءٍ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»(5).
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يرى خطأً فيعالجه, فعن السائب بن يزيد قال: “كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“(6).
وهذا أبو موسى الأشعري وابن مسعود -رضي الله عنهما- ينكران البدع عندما رأوا ذلك، فعن عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: «كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً, فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقةٍ رجلٌ، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مئةً، فيكبرون مئة, فيقول: هللوا مئةً، فيهللون مئةً، ويقول: سبحوا مئةً، فيسبحون مئة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً؛ انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم، ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا: أن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج»(7).
وبهذا يتضح أنه لا بد أن يكون في كل مسجد دعاة للحق، يهدون الناس إلى الخير، يعلمون الجاهل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو حدث هذا بشكل مرتب لكان أفضل، مع عدم إغفال المشاورة في تغيير المنكر, كما فعل أبو موسى الأشعري مع ابن مسعود -رضي الله عنهما- فأخذ برأيه، واستعان به؛ حتى تنقى المساجد من البدع والخرافات، ويتعلم الناس الدين الصحيح، ويعم النفع للمسلمين.
____________________
1- البخاري (2313).
2- البخاري (1082)، مسلم (1306).
3- البخاري (715)، مسلم (602).
4- مسلم (1445).
5- البخاري (213).
6- البخاري (450).
7- سنن الدارمي (240)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2005).
موقع إمام المسجد.