الحسبة في ظل الخلافة وفي ظل الدولة الحديثة
بدر باسعد
أعتقد أن أهم إشكالات النظر العلمي لدينا اليوم هي تلقي المعارف المختلفة دون ربط فلسفي بينها يرجعها إلى أصولها الوجودية والمعرفية. فحصيلتنا المعرفية في المعاملات الاقتصادية ليست نابعة من نظرية اقتصادية بل هي مجموعة أحكام تأسيسية لمسائل أملاها الظرف الاجتماعي. وقل مثل هذا في حصيلتنا المعرفية السياسية والتربوية والعلمية التي لدينا اليوم.
إننا كأمة بين الأمم أشبه بطالب علم مجتهد في الطلب لكنه غير مرتب ولا متبع للمنهجية العلمية وسط أمم ذات منهجية علمية رصينة. وليس أدل على هذا من أن علومنا لا تثمر ثمرات حقيقية، ثمرات حقيقة مثل إنشاء مؤسسات اقتصادية وسياسية أو ثمرات علمية مثل النظريات العلمية والعملية. فالثمرات العلمية حصيلة تراكم منظم للعلم والمعرفة.
أضف إلى ذلك ما حصل من تحولات اجتماعية كبيرة تتطلب عينا فاحصة ترصد ما يجري من تغيرات في المجتمعات لتنبه المتكلمين من أهل العلم أننا نعيش وضعا اجتماعيا مختلفا، يولّد تحديات من نوع جديد، ويستلزم مواجهة هذه التحديّات تجديدا في النظرة المعرفية، فالتأسيس الأول للموضوع – مهما كانت درجة اتقانه – لم يعد صالحا للاستجابة لما بين يدينا من التحديات، ومن أبرز الأمثلة على ذلك – والأمثلة لا حصر لها – تنبيه ابن خلدون على أثر اختلاف المنزلة الاجتماعية للقضاة وأثرها على كتابة التاريخ حيث يقول رحمه الله:
ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرّخون عند ذكر الدّول ونسق ملوكها فيذكرون اسمه ونسبه وأباه وأمّه ونساءه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره كلّ ذلك تقليد لمؤرّخي الدّولتين من غير تفطّن لمقاصدهم، والمؤرّخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدّولة وأبناؤها متشوّفون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم وينسجوا على منوالهم حتّى في اصطناع الرّجال من خلف دولتهم وتقليد الخطط والمراتب لأبناء صنائعهم وذويهم والقضاة أيضا كانوا من أهل عصبيّة الدّولة وفي عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كلّه وأمّا حين تباينت الدّول وتباعد ما بين العصور ووقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصّة… عنها فما الفائدة للمصنّف في هذا العهد في ذكر الأبناء والنّساء ونقش الخاتم واللّقب والقاضي والوزير والحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم ولا أنسابهم ولا مقاماتهم إنّما حملهم على ذلك التّقليد والغفلة عن مقاصد المؤلّفين الأقدمين والذّهول عن تحرّي الأغراض من التّاريخ[1].
والمقدمة ككل تعتبر مثالا نموذجيا لهذه المسألة، لأنها تجاوزت التقاليد العلمية عند المؤرخين وأتت بنمط جديد في التعامل مع التاريخ استجابة للتحديات التي كانت تواجه المؤرخين والساسة آنذاك.
وما حصل في مجال التاريخ يحصل في كل المجالات العلمية والمعرفية الشرعية منها أو الطبيعية والإنسانية، وبما أننا اليوم بصدد الكلام على شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ألا وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فسوف يتجه المقام إلى النظر في التغيرات الاجتماعية التي حصلت بين بداية التأليف في الموضوع وما يخطه المعاصرون بهدف التعرف على التغيرات التي ينبغي أن تحدث في طريقة معالجة هذا الموضوع.
إن لعدم مراعاة التغيرات التاريخية بل والمعرفية أثّر كثيرا على تلك الأطروحات حتى أصبحت أعلاها وأمثلها تلخيص لما سيق لا إضافة فيها ولا جديد. وهذه المعالجات التقليدية تبعث برسالة غير مباشرة وغير مقصودة أيضا لقارئها – وخصوصا إذا أتت ممن لهم مكانة علمية مرموقة – بأنه لا جديد يمكن أن يقدم في الدرس الشرعي. ويمكن الاستفادة من نص ابن خلدون الذي أشار فيه إلى عدد من التغيرات الاجتماعية التي حصلت في وظيفة الحسبة، تغيرات يوضحها نصه المستل من مقدمته النفيسة إذ يقول عليه سحائب الرحمة والمغفرة:
“أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية”[2].
وإذا ما قارنا وضعية الحسبة في عهد ابن خلدون مع العهد الذي نعيشه فسوف نلاحظ أنّ:
– جل هذه الوظائف قد توزعتها الوزارات الحكومية مثل وزارة التجارة ووزارة التعليم ووزارة النقل.. وغيرها وهذا كله حصر عمل الحسبة في المخالفات الأخلاقية التي تحصل في الأماكن العامة. فالدولة الحديثة سحبت جلّ وظائف الحسبة من المحتسبين وأوكلتها إلى الوزارات وهذا من الأمور التنظيمية التي لا إشكال فيها والمهم فعلا أن يقوم كل بدوره حق قيام. بل إن تنظيم الدولة على هذا الأساس صار أمرا ضروريا بسبب تعقد الأمور في هذا العصر وتضخمها بشكل يعجز عنه جهاز حكومي واحد على إدارتها.
– الفرق الثاني: وجود ترتيبات إدارية تحد من اجتهاد المحتسب، حيث تعتبر اللائحة النظامية ملزمة له بعكس الحسبة في السابق حيث يعتمد المحتسب على فتاوى العلماء ويجتهد في تحديد المعروف والمنكر من خلالها وهذا يعني أنّ عندنا نقلة في المرجعية من الفتوى الشرعية التي تنتج في فضاء مفتوح يحدده المجتهد إلى الفتوى النظاميّة (= الفتوى الرسمية التي تنتجها الدولة ) . ومثل هذا الانتقال يقلل من قيمة مسائل كثيرة مثل هل ننكر في مسائل الخلاف؟ ومسألة المصالح والمفاسد في الإنكار ؟.
– الفرق الثالث: من المباحث التي يعقدها العلماء في هذا الباب التفريق بين وظيفة القضاء والحسبة وهذا الباب لم يعقده المتقدمون عبثا بل لغرض توضيح مهام المحتسب حتى لا يتعدى على مهام القاضي فيحصل تداخل وأما اليوم فلا حاجة لعقد مقارنات بين وظيفة الحسبة والقضاء أو بينها وبين المظالم لأن المرجع في تحديد مهام المحتسب واضحة من خلال النظام – أو يفترض أن تكون كذلك-. بل إذا أردنا أن نعقد مقارنات بين الحسبة وغيرها فالأفضل أن نعقدها مع الوظائف المشابهة التي لها وظائف رقابية لها مثل هيئة الرقابة والتحقيق، هيئات الرقابة المختلفة.. إلخ. فالمقارنة هنا قد تفيد في تبادل الخبرات وطرق التعامل مع المخالفات.
كل هذه التغيرات كان من المفروض أن تلقي بظلالها على طرق معالجة موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي هذه الورقة سأحاول تتبع شيء من هذه التغيرات التي يفترض حصولها.
موقع الاحتساب في منظومة الإصلاح:
لو تأملنا المجتمع كمنظومة عناصر تؤثر بعضها في بعض، فإننا يمكن أن نحصل على الشكل المقابل الذي يوضح ما يلي:
كل مجتمع يستند على مرجعية عليا تمثل منبع المعرفة ومنبع تصوراته الوجودية وفي مجتمعنا الإسلامي نعتبر الوحي هو الأصل المعرفي الذي نستقي منه المعرفة وهو المعيار الذي يرجع إليه عند الاختلاف.
وأما إضافة الطبيعة والانسان باعتبارهما مصادر أخرى للمعرفة تتمثل في سنن الله تعالى الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل أيضا.
الطبقة الثانية هي الأصول المعرفية المستقاة من الوحي ومن الطبيعة والإنسان والتي تعبر عن فهم الانسان لهذه المصادر الثلاثة ومن ثم فهي في مراجعة دائمة ومستمرة مع المرجعيات العليا. وتعتبر هي الأساس لجميع ما بعدها.
الطبقة الثالثة هي الدولة ومؤسساتها المختلفة حيث تبني الدولة مؤسساتها وفق رؤيتها الوجودية والمعرفية ومن هنا ندرك أن المؤسسات ليست منتج محايد بل هي منتجات ثقافية تعبر عن رؤية أصحابها.
الطبقة الرابعة هي طبقة المجال العام أو مؤسسات المجتمع المدني والذي يضم المؤسسات الغير تابعة للدولة مثل القطاع الخيري والجمعيات الإعلامية والتربوية والثقافية المختلفة.
وأخيرا، الطبقة الخامسة التي تضم عموم الناس وفي هذا المستوى نحن نتعامل مع سلوكيات الناس التي يمارسونها في حياتهم اليومية، وتعتبر هذه الممارسات ثمرة المستويات السابقة جميعا. أي أن التصرفات في هذا المستوى تعبر عن تراكم تأثير كلا من: المرجعية التي يعتنقها المجتمع (= أيديولوجيته أو مجموعة التصورات التي يعتقد أنها غير قابلة للمراجعة )، وأصوله المعرفية ( المستقاة من مرجعيته )، وفاعلية مؤسسات الدولة (= التنظيم الاجتماعي المبني على تصورات مجتمع الوجودية والمعرفية )، وكذلك فاعلية مؤسسات المجتمع المدني. كل هذه الطبقات تنتج سلوك الرجل العادي والبسيط الذي يتصرفه ويقوم به في الشارع خلال حياته اليومية.
موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة بحسب الكتب التي تعالج الموضوع يتناول هذه الطبقة الخامسة (رأس الهرم)، يتناول تصرفات الرجل العادي في الشارع والأماكن العامة دون أن يلقي بالاً لأصول هذه المشكلات والتي ترجع إلى مؤسسات الدولة باعتبارها منتجة للإنسان أو إلى الأصول المعرفية باعتبارها المنتجة لعالم الأفكار الذي يتحكم في رؤية الإنسان للعالم والمجتمع ولنفسه قبل ذلك. أعتقد أن هذا الإطار النظري يوفر نوعا من الربط بين الإنكار الجزئي وأصول المشكلات سواء كان أصلها منهجيا معرفيا أو تنظيما اجتماعيا هو دور رجال الفكر والعلم وليس دور المحتسبين الميدانين من المتطوعين والنظاميين، دورهم في اكتشافها وإعادة تحسين المؤسسات وتصميمها بشكل يتلافى هذه السلبيات. وهذا يعني أننا يجب أن نكون في مجتمع حي وفاعل تكمن حياته وفاعليته في المراجعة الدائمة والمستمرة لذاته المتكونة من مؤسساته (من خلال الاجتهاد العملي) ونظرياته (من خلال الاجتهاد النظري)
وليست هذه دعوة للتقليل من العمل الميداني بل هو أمر لا بد من وجوده والصبر على المشقة فيه، فمثلما لا يمكن أن نستغني عن رجال الشرطة مهما قلنا إن الجرائم لها أصول تربوية وأخلاقية فكذلك في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن نستغني عنه بحجة أن هذه معالجة الإشكالات الأخلاقية التي تحصل أو يمكن أن تحصل في الأماكن العامة لا يعالج جذور المشكلة. المقصود فقط من هذا الاستعراض السريع هو بيان موقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الخاص من منظومة الإصلاح الاجتماعي كما هو بيّن من العنوان الذي اخترناه للموضوع.
المفهوم العام والخاص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يقول الشيخ خالد السبت في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
“ثم إنك قد تبتلى بمن يسألك أيهما أولى: تربية المجتمع على الإسلام أو العناية بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وقد تسمع من الإجابات ما يثير العجب ! ولم يعلم هؤلاء أن تربية المجتمع على دين الله عز وجل وتعليم الناس العلم وما إلى ذلك من الأمور كله داخل في إطار الأمر بالمعروف”[3].
الاستشهاد السابق يهدف إلى تأكيد فكرة وجود المفهوم العام والخاص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأب الذي يربي أبناءه على الأخلاق والمحتسب على المحلات التجارية والمشارك بالخير في الشبكات الاجتماعية وأعظم الشهداء كل هذه أنواع مختلفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تكلمنا عنه بالمفهوم العام، ولكن المفهوم الخاص له هو كل أمر ونهي يتعلق بما يحصل في الأماكن العامة من أمور تخل بآداب المجتمع وأخلاقياته. وفي هذا الإطار تدور جل كتابات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهي تتناول بشكل فني دقيق كيفية الاحتساب وشروطه والعقبات التي تواجه المحتسب وكيف يتغلب عليها وكيف يوازن بين المصالح والمفاسد وكيف يغيّر المنكر ونحوها من المباحث.
وإذا طبقا المفهوم العام على الشكل الهرمي السابق، سوف نجد أن الطبقة الثانية التي تتعلق بالأصول المعرفية يندرج فيها مناقشة العلماء لبعضهم البعض وردودهم المتبادلة ومناظراتهم ونقدهم كله جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثله في الطبقة الثالثة التي تتعلق بمؤسسات الدولة ومراجعة قوانينها وإجراءاتها ولوائحها.. إلخ. وقل مثل ذلك في طبقة المجتمع المدني حيث يبادر الأفراد بتكوين ما يرونه من مؤسسات لخدمة المجتمع مثل الدفاع عن المظلومين أو إطعام الفقراء والمحتاجين أو نشر الكتب والعلم النافع.. وغير ذلك.
وحياة الأمة تكون بحياة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المستويات جميعا وهو ما اصطلحنا عليه بـ (المفهوم الشامل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وليس في طبقة من طبقاتها فضلا عن أن تكون في الطبقة الأعلى من رأس الهرم التي هي أقلها أهمية باعتبارها ثمرات لما تم غرسه في المجتمع من خلال مؤسسة الأسرة ومؤسسة التعليم ومؤسسات المجتمع المدني ككل وغير ذلك.
http://www.nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?ID=30649
[1] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص 42، ت: خليل شحاته، دار الفكر.
[2] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص 281، ت: خليل شحاته، دار الفكر.
[3] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خالد السبت، ص 58. طبعة المنتدى الإسلامي، عام 1415