د. حلمي محمد القاعود
قضية الحسبة في الشريعة الإسلامية من أبرز القضايا التي لا تكاد تأتي مناسبة ثقافية هنا أو هناك، حتى يطرحها المثقفون الذين يزدرون الإسلام، ويطالبون بإلغائها؛ لأنها ضد حرية الفكر والتعبير والفن والإبداع بحسب مزاعمهم، فها هو مسؤول ثقافي يقول: سنناقش قانون الحسبة وحريات الفكر؛ لأنها قضية تشغل المثقفين والمفكرين، وأضاف: “أنه لا بد أن يتم إعادة النظر في مثل هذه القوانين التي تعيق حريات الفكر والإبداع، وأن تفتح هذه الملفات مرة ثانية، وأن تشهد معارض الكتاب مثل هذه النقاشات المهمة!”.
وزعم آخر: “أن كاتبة أبلغته أنها تسلمت إخطارًا يفيد برفع دعوة حسبة جديدة ضدها، مشيرًا إلى أنها تسلمت الإخطار، وأنه من المفترض أن تمثل أمام النيابة”.
وقال المذكور: “إن رئيس الجمهورية المنتخب أمامه تحدٍ كبير خلال الفترة المقبلة، خاصةً في ظل المؤشرات التي تدل على أن المفكرين والمبدعين سوف يواجهون العديد من قضايا الحسبة، وتهم ازدراء الأديان!”.
ومشكلة أعوان النظام الفاسد أنهم يريدون أن يثبتوا وجودهم واستمرارهم عن طريق الهجوم على التشريعات الإسلامية، وتطويع الحياة الاجتماعية والسياسية لنزواتهم وشطحاتهم، وتفسيراتهم الفجة والقاصرة لمفاهيم الإسلام، فضلاً عن قطع كل الألسنة التي تلهج بالإسلام أو تذكره, إنهم يريدون محوه تمامًا, ويأبى الله.
إن نظام الحسبة في الإسلام يعد من الأنظمة المتقدمة, التي تجعل من المجتمع قائمًا على تصحيح أوضاعه أولاً بأول، والحرص على تنمية عناصر الخير والإحسان في أرجائه، إنه نظام اجتماعي يختص بالرقابة والتشريع تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكل ما يندرج تحت المعروف, ويدخل في دائرة المنكر، وخاصة في القضايا الكبرى التي تخص المجتمع وتؤثر فيه إيجابًا أو سلبًا، وقد وضع الفقهاء المسلمون مفاهيم وشروطًا لمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تضبط المسألة وتحدد درجاتها؛ لكي يتحرك المسلمون كل في إطار قدراته وإمكاناته وفقًا؛ لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
ونظام الحسبة ليس مرتبطًا بنظام أو مرحلة أو حاكم من الحكام، ولكنه مسؤولية إسلامية مفتوحة بوصفها فرض عين عند معظم الأئمة والفقهاء، أو فرض كفاية يتقرب به المسلم إلى ربه؛ ليواجه أشرار المجتمع الذين يسلبون الناس الحرية أو الكرامة أو الأمل، أو يعتدون على القيم والحرمات وحقوق العباد.
إنها ليست قاصرة على مراقبة الأسواق والأسعار والحمامات؛ كما يتخيل فقهاء الشيوعية الذين صاروا يفتون بغير علم، وجعلوا من أنفسهم أصحاب عمائم تفسر القرآن وتشرح الحديث، وتعلم الناس الحلال والحرام، ولكن الحسبة نظام عام لمقاومة المنكر في أي مستوى, والحض على المعروف في كل الأحوال.
لقد اشترى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أعراض المسلمين من الحطيئة الهجاء البذيء، بعد أن أخفق السجن في تأديبه وتهذيبه، ولم يكن الرأي أو حرية الاعتقاد في يوم ما عنصرًا من العناصر التي تهددها الحسبة في التاريخ الإسلامي، ولكن من تعرضوا للمحاكمات أو الملاحقات كانوا يتحركون في الملعب السياسي الذي تحكمه اللعبة السياسية على مدى التاريخ.
إن الشيوعيين.. وأشباههم حين يزعمون أن الحسبة تقف ضد الإبداع؛ إنما يعبرون عن فشل ذريع، وضعف شديد في كتاباتهم وأعمالهم الفنية، والمفارقة أنهم يستخدمون الحسبة بالمعكوس للأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وتأمل مؤتمراتهم ومظاهراتهم ووقفاتهم التي يزعمون أنها من أجل حرية الإبداع، ولكنها في حقيقة الأمر من أجل نشر الإباحية والابتذال والتسطيح والتجديف، وترسيخ جذور الشيوعية التي جفت في بلادها!
أيها الشيوعيون وأشباههم! الحسبة قيمة إنسانية عليا، فكونوا من أهل القيم الإنسانية العليا!