اللقاء الثالث:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحييكم في لقائنا الثالث مع (القواعد الشرعية المتعلقة بالاحتساب)
سيكون حديثنا الليلة عن:
القاعدة الثالثة: ” المشقة تجلب التيسير “
لأن الحرج مدفوع بالنص، ولكن جلبها التيسير مشروط بعدم مصادمتها نصا، فإذا صادمت نصا روعي دونها.
قال الناظم :
ومن قواعد الشريعة التيسير في كل أمر نابه تعسير
وهذه القاعدة إحدى قواعد الإسلام الكبرى.
وقد دل على صحتها الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فآيات، منها: قوله سبحانه في [سورة المائدة] : (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وقوله في [سورة الحج] : (ما جعل عليكم في الدين من حرج) قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنما هو يسر الإسلام) رواه ابن جرير .
وأما السنة فأحاديث، منها: ما رواه الشيخان مرفوعا: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) ، ومنها: ما رواه الإمام أحمد في: “مسنده”، وغيره مرفوعا: (إنما بعثت بالحنيفية السمحة) .
وأما الإجماع، فحكاه غير واحد كالشاطبي في: “موافقاته”.
والمعنى الإجمالي للقاعدة المشار إليها: هو أن المشقة والعنت، إذا طرآ على المكلف كانا سببا في المجيء باليسر له في العمل المطروء عليه تلك المشقة.
والمشقة من حيث مجيئها وأحكامها ثلاثة أقسام أيضا:
القسم الأول: مشقة لا تعلق للعبد وفعله بمجيئها، وهي المصائب والابتلاءات النازلة على العباد والمكلفين كالأمراض ونحوها، فهذه المشقة ليس ثم حرج على العبد في السعي في إبعاد آثارها.
القسم الثاني: هي مشقة للعبد تعلق بمجيئها، وقد يأتي الفعل بدونها، فهذه غير مطلوبة شرعا من المكلف.
ومثال ذلك ما جاء في “صحيح البخاري” وغيره، من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- في صنيع من نذر أن لا يستظل، وأن لا يفطر، وأن لا يقعد، فأمره النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يستظل، ويقعد، وأن يستمر في صيامه.
فهذه المشقة جلبها العبد على نفسه، وليست مقصودة من الشارع ولا أمر بها.
القسم الثالث: هي ما كانت مصاحبة للفعل، فهذه نوعان:
الأول: مشقة اعتيادية لا تخرج الفعل عن طاقة العبد وقدرته، ويدخل في ذلك: جملة الأفعال التكليفية، فإنها لم تسم تكليفية إلا لوجود مشقة فيها.
وهذه المشقة موجودة في أكثر المصالح الدنيوية كذلك، ولذا يقول ابن القيم في: “إعلام الموقعين”: (إنما تقوم مصالح الدنيا والآخرة على هذا التعب، وهذه المشقة) .
ومثال ذلك: الصلاة والصيام والحج، فكلها تكاليف فيها نوع مشقة، وهذه المشقة كما قال الشاطبي في” موافقاته” تختلف باختلاف الذي يباشرها، فقد تكون في أعلى درجات هذا النوع من المشاق، وقد تكون في أدنى درجات هذا النوع من المشاق، وقد تكون بين ذلك.
والثاني: مشقة زائدة عن المشقة الاعتيادية التي تصحب التكاليف الشرعية، وهذه قسمان:
الأول: ما كان في مباشرتها تلف لجارحة أو للنفس أو نحو ذلك، سواء أباشرها المكلف فوجد تلك المفاسد أو بعضها، أو أيقن بوجودها، أو غلب على ظنه، فهذا النوع من المشاق لا يجوز شرعا مباشرته، لما يحصل من ذلك من مفاسد للنفس والجوارح والعقل ونحو ذلك، ومخالف لمقاصد الشرع من المحافظة على الكليات الخمس المعروفة، ومن مجيء الشارع باليسر والسماحة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (إن الدين يسر) .
الثاني: ما كان بمباشرته مشقة عظيمة، ولكنها ليست كالمشقة في القسم الأول من كون مباشرتها قد يتلف الجوارح والنفس ونحو ذلك، فللعبد خيار بين أمرين عقلا وشرعا.
فأما الأول: فهو عدم فعلها ومباشرتها؛ لأنها مشقة تجلب التيسير كالفطر في نهار صائف شديد الحرارة حال السفر والجهاد، ومنه ما جاء في: “الصحيح” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من البر الصيام في السفر) .
وأما الثاني: فهو أن يباشر العبد هذه المشاق، محتملا ما فيها من عنت، ثم لعله يحظى بأجر زائد كما ذهب إليه بعض الفقهاء، وهو مبني على قاعدة: الثواب على قدر المشقة، قال شيخ الإسلام في: “المجموع”: (وهي قاعدة لا تصح بهذا الإطلاق) ، يعني- رحمه الله- أن فيها تفصيلا، فليس الثواب متعلقا بالمشقة مطلقا، وليس الثواب منفيا عن وجود المشقة مطلقا، بل قد يكون بقوة الإخلاص والصدق، واللجأ في العبادة، وقد يكون بالمشقة والبلاء في العبادة والجهاد.
ويتفرع عن هذه القاعدة قواعد :
أولها: أن الواجبات منوطة بالاقتدار.
وثانيها: أن الضرورات تبيح المحظورات.
وثالثها: أن الضرورة تقدر بقدرها.
ورابعها: إذا ضاق الأمر اتسع.
وخامسها : الميسور لا يسقط بالمعسور .
تطبيقات القاعدة وما تفرع عنها من القواعد في الحسبة :
1- حديث الأعرابي الذي بال في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن دقيق العيد : “نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس عن زجره؛ لأنه إذا قطع عليه البول أدى إلى ضرر بنيته، والمفسدة التي حصلت ببوله قد وقعت، فلا تضم إليها مفسدة أخرى، وهي ضرر بنيته ” انظر: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 122).
2- ترك الاحتساب على من أفطر في رمضان عمداً لسبب مباح شرعا .
3- عدم الاحتساب على من ترك الصلاة في المسجد بحجة الجمع بين الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء بحجة المرض أو المطر، أو السفر .
4- جواز الاحتساب على من أوصى الأطباء بفطره لمرضه القاتل إذا أصر على الصيام؛ لأن فعله هذا من قبيل الغلو الممنوع .
5- إذا توسع المحتسبون في ترك الاحتساب بحجة الخوف ضاق لئلا يضيع الاحتساب ويترك .
6- يجوز للمحتسب للضرورة القبض على النساء اللاتي يرتكبن المنكرات، ولو لزم ذلك الإمساك بهنّ بحائل كاضطرار الطبيب للنظر إلى عورة المرأة عند العلاج ، فالضرورات تبيح المحظورات، قال السنامي : ” ويحتسب على الرجل والمرأة إذا كانا في خلوة وكانا اجنبيين لأن النهي فيه غير واحد إلا إذا كان له على المرأة حق فله أن يلازمها ويجلس معها ويقبض على ثيابها وهذا ليس بحرام فإن هربت ودخلت الخربة فأراد الرجل أن يدخل تلك الخربة لا بأس به إذا كان الرجل يأمن على نفسه في ذلك فيكون بعيدا عنها يحفظها بعينيه لأن هذه الخلوة ضرورة فإن قيل العرف في ديارنا أن يأخذ أعوان المحتسب البغايا بأيديهن ويقيمون التعزير عليهن مأخوذات ومس الأجنبية حرام فإن هم وقعوا في حرام متيقن لدفع حرام مظنون فنقول المس هو المباشرة باليد من غير حائل ومس الأجنبية إذا كان بحائل يجوز للضرورة الدنيوية فما ظنك في الضرورة الدينية ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين أو ردغة يحل للرجل الأجنبي أن يأخذها بيدها بحائل ” نصاب الاحتساب (ص: 135) .
7- جواز التجسس على السحرة، الذين اشتد خطرهم على المجتمع .
8- إلزام عمال الورش ومحلات تغيير زيوت السيارات بأداء الصلاة جماعة في المسجد مع اتساخ ملابسهم ومشقة تبديلها، لأن في ذلك ضرر على المصلين، والمسجد، ولكنهم يلزمون بأدائها جماعة إذا تعذر لبس ملابس نظيفة في مصلى يخصص لهم في أماكن عملهم .
الخلاصة : أن المحتسب لا يحمل الناس على العزائم في مقام الرخص، ولا على المشاق في مقام التيسير، بل يترفق بهم فيحقق بذلك مقصود الشارع من الاحتساب بهداية الناس إلى الفضيلة وبدفع المسؤولية الشرعية عن نفسه .