اللقاء الخامس:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحييكم في لقائنا الخامس مع ( القواعد الشرعية المتعلقة بالاحتساب)
سيكون حديثنا الليلة عن:
القاعدة الخامسة من القواعد الكبرى، وهي قاعدة: ” العادة محكمة “.
وأصلها قوله تعالى : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )، وقوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف). قال: [ابن السمعاني] : المراد ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم، قال ابن عطية: ” معناه: كل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة “.
ومنها: قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم)، فالأمر بالاستئذان في الأوقات التي جرت العادة فيها بالابتذال ووضع الثياب، فابتنى الحكم الشرعي على ما كانوا يعتادونه.
وكل ما تكرر من لفظ المعروف في القرآن نحو: (وعاشروهن بالمعروف)، فالمراد ما يتعارفه الناس من مثل ذلك الأمر.
ومنها: قوله – صلى الله عليه وسلم – لهند: ” خذي ما يكفي وولدك بالمعروف “.
قال ابن نجيم : ” واعلم أن اعتبار العادة والعرف يرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلا، فقالوا في الأصول في باب ما تترك به الحقيقة: تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة “.
انظر: الأشباه والنظائر (ص/79).
ويندرج تحت هذه القاعدة الكبرى عدد من القواعد، منها ما هو بمعناها، ومنها ما هو كالقيد لها، ومن ذلك القواعد التالية:
o (استعمال الناس حجّة يجب العمل بها) .
o (الممتنع عادة كالممتنع حقيقة) .
o (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) .
o (إنما تعتبر العادة إذا طردت أو غلبت).
علاقة القاعدة بالاحتساب :
إذا رأى المحتسب ما يخالف الأعراف السليمة كان الاحتساب عليه واجباً صوناً للمجتمع المسلم من الانحراف، وتحقيقاً للمصلحة .
ومن الأمثلة على ذلك :
1- الاحتساب على من يرقص من الرجال في مجامع الناس لأن فعله خفة ورعونة، وفيه تشبه بالنساء .
2- الاحتساب على من يخرج إلى الأسواق أو الأماكن العامة بملابس قصيرة تخالف ما يلبسه أهل البلد .
3- لا يُنكر على من صام يوم الشك إذا كان له عادة في صوم مثله، وذلك بحسب العادة.
4- يحتسب على القاضي الذي يقبل الهدية، إلا ممن له عادة في إهدائه ولم يكن له مصلحة في ذلك .
5-
وتعتبر هذه القاعدة من قواعد التيسير في الشريعة، حيث راعى الشارع أحوال الناس، فأسند تحديد بعض الأمور التي لم يرد بتحديدها نص شرعي، ولم تقتض اللغة تحديدها بحد معلوم إلى أعرافهم التي عهدوها، وإلى العادة الغالبة عند كل فئة، وشمل ذلك تقدير بعض الأمور المتعلقة بالعبادات مما يكون للعرف والعادة فيه مدخلا، وكذلك ما يقع بين الناس من معاملات، وفي هذا توسعة عظيمة؛ لأن هذه الأعراف والعادات قد استقرت في أذهان الناس، وأصبحت معلومة للغالب منهم، فإقرارهم عليها واعتبارها في إثبات الأحكام يدفع عنهم مشقة التحديد بغير ما يألفونه ويعلمونه؛ ولذا فقد كان مما قرره العلماء أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان وذلك بسبب تبدل الأعراف والأحوال.
ونقل ابن عابدين أن العادة إحدى حجج الشرع فيما لا نص فيه.
وإنما تعتبر العادة إذا كانت سابقة، فلا عبرة بالعرف الطارئ، وللعادات والأعراف سلطان على النفوس، وتحكم في العقول، لهذا اعتبرت من ضروريات الحياة، وفي نزع الناس من عاداتهم حرج شديد.
أقسام العرف :
العرف قسمان: عام، وخاص.
والعرف الخاص: هو ما كان مخصوصاً ببلد، أو مكان دون مكان آخر، أو بين فئة من الناس دون أخرى .
والعرف العام: هو ما كان فاشياً في جيع البلاد بين الناس كالاستصناع في كثير من الحاجات واللوازم، وكتأجيل جانب من مهور النساء في البلاد الإسلامية، وغير ذلك.
والعرف إن صادم النص من كل الوجوه فهو العرف المردود، وإن لم يخالفه من كل وجه كان له تأثير في بناء الأحكام الشرعية عليه، فيترك به القياس، ويخصص به العام كدخول الحمام، والاستصناع، وغيرهما من المسائل الفقهية الكثيرة، ولذلك قال ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبارُ
لذا عليه الحكمُ قد يُدار
والأصل في العادات الحل، وعليه فالمروءات لا تزول إلا بالأعراف؛ لأن الأصل في العادات الحل، وهذه قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية استنباطاً من قول الله تعالى: ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً )، فاللام إما للملكية، وإما للتخصيص، وكلاهما فيهما دلالة على الإباحة، بأن كل ما في الأرض لك، إلا ما دل الدليل على الحرمة، فكل عادة يعتادها الناس فهي على الحل لا على الحرمة، فإن كانت العادة عدم غطاء الرأس، فلا نقول: غطاء الرأس واجب، بل نقول: هنا الأصل الحل، وإن كان في عرف الناس جميعاً أو عادة الناس جميعاً أن عدم تغطية الرأس لا يصح، ومن خدش المروءات، فنقول: عدم تغطية الرأس لا تصح؛ لهذه العادات؛ لأن لها قاعدة أخرى قال بها العلماء: وهي العادة محكمة.
إذاً: فليعلم المحتسب ومن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الأصل في العادات الحل، إلا ما دل الدليل على الحرمة؛ لأنها لا تخالف الشرع.
من التطبيقات النظامية لقاعدة *(العادة محكمة)* في *الأنظمة الحسبية والرقابية* :
= ما جاء في اللائحة التنفيذية لنظام الاجراءات الجزائية بالمادة (176): (يُراعى في تفتيش دور السفارات الأجنبيـة والهيئات والمنظمات الدولية ذات الحصانة القنصلية والدبلوماسية ما تقضي به الأنظمة والقواعد الصادرة في هذا الشأن، *والأعراف* والاتفاقيات الدولية).
= وما جاء في نظام مزاولة المهن الصحية المادة (5): (يزاول الممارس الصحي مهنته لمصلحة الفرد والمجتمع في نطاق احترام حق الإنسان في الحياة وسلامته وكرامته، *مراعيًا في عمله العادات والتقاليد السائدة في المملكة مبتعدًا عن الاستغلال.* )
= وما جاء في قواعد تنظيم لوحات الدعاية والإعلان المادة (15) : *(يجب أن يكون الإعلان منسجماً مع عادات وتقاليد البلاد،* وأن تتلاءم مادته مع الذوق السليم، وأن تكون الصور والكتابات في إطار الآداب الإسلامية، مع التقيد بقواعد اللغة العربية الفصحى، وبما يصدر من الجهات ذات العلاقة فيما يخص الضوابط الشرعية للإعلانات) .