المحتسب وفقه مراتب الحسبة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن الحسبة من أفضل القربات إلى الله تعالى، قال تعالى: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ? [فصلت:33] ويقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»(1).
واعلم أخي المحتسب أن الحسبة مراتب(2):
النوع الأول:
التنبيه والتذكير وذلك فيمن يعلم أنه يزيل فساد ما وقع لصدور ذلك على غرة وجهالة، كما يقع من الجاهل بدقائق الفساد في البيوع، ومسالك الربا التي يعلم خفاؤها عنه، وكذلك ما يصدر من عدم القيام بأركان الصلاة وشروط العبادات؛ فمثل هذا النوع يكون التنبيه فيه والاحتساب بطريق التلطف والرفق والاستمالة.
وهنا همسة في أذن كل محتسب ومعلم ومربي الناس الخير؛ ليجيب كل واحد على هذا السؤال, أين نحن من هذه الصفة الحميدة التي لا تأتي إلا بالخير، فما تخلق بها أحد إلا جملته، وما اعتزل عنها أحد إلا شانته. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الرفق الذي هو جزء من الإحسان فقال: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»(3).
النوع الثاني:
الوعظ والتخويف من الله ويكون ذلك لمن عرف أنه قد اقترف المنكر وهو عالم به من أنواع المعاصي التي لا تخفى على المسلم المكلف فيتعاهده المحتسب بالعظة والإخافة من ربه.
وأهم ما يجب أن يراعيه المحتسب أن يكسب تعاطف الناس من حوله قبل إنكار المنكر، وذلك باستنفار المشاعر الإيمانية في الحال، وإظهار المنكر في أشنع صورة، بحيث يحصل الإجماع من الموجودين على استقباحه واستهجانه، ثم يبدأ بعد ذلك في بيان عقوبة الله تبارك وتعالى والتخويف من سطوته وانتقامه، ولا ينبغي أن يقصر في بيان البديل الذي جعله الشرع لهذا المنكر، ورسم صورة واضحة لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم والمؤمن من توقير حرمات الله وتعظيم شعائره.(4)
النوع الثالث:
الزجر والتأنيب والإغلاظ بالقول والتقريع باللسان والشدة في التهديد، والإنكار، وذلك فيمن لا ينفع فيه وعظ، ولا ينجح في شأنه تحذير برفق، بل يظهر عليه مبادئ الإصرار على المنكر والاستهزاء بالعظة، ويكون ذلك بما لا يعد فحشا في القول ولا إسرافا فيه خاليا من الكذب، ومن أن ينسب إلى من نصحه ما ليس فيه مقتصرًا على قدر الحاجة حتى لا يكون من نتيجته إصرار واستكبار.
وهذه الطريقة في الحسبة هي من الحكمة فاستخدام الشدة والتأنيب أحيانا، ذلك لأن الحكمة تعني وضع كل شيء في موضعه، فهي لين في وقت اللين، وشدة في وقت الشدة. يقول الله –تعالى- على لسان موسى -عليه السلام- مخاطباً فرعون لما طغى وتكبر ?قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا? [الإسراء:102] ويقول تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ? [التوبة:73].
النوع الرابع:
التغيير باليد بإزالة ذلك المنكر وذلك فيمن كان حاملا الخمر، أو ماسكا لمال مغصوب، وعينه قائمة بيده، وربه متظلم من بقاء ذلك بيده، طالب رفع المنكر في بقائه تحت حوزه وتصرفه، فأمثال هذا لا بد فيه من الزجر والإغلاظ من المباشرة للإزالة باليد، أو ما يقوم مقام اليد كأمر الأعوان الممتثلين أمر المغير في إزالة المنكر. الثانية التخويف بالله والتهديد بالضرب أو مباشرة الضرب حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف.
وقد استدل الفقهاء على مشروعية إزالة عين المنكر، وله حالتان:
إن كانت عينه لا تستخدم إلا في هذا المنكر كالأصنام فتتلف، وإن كان يمكن الاستفادة من بعضه فيتلف منه موضع المنكر فقط.
قال العلامة البغوي: “أما كسر الدَّنِّ وشقُّ الزِّق الذي لا يصلح إلا للخمر؛ فمشروع فإن صَلُح لغيره فلا يفعل.. فأما الصنم والصليب والطنبور والملاهي فتكسر.. فإن كان الطنبور والملاهي بحيث لو حُلَّت أوتارها صَلُحت للمباح فلا تكسر وتُحلّ..”(5).
ومن ذلك فقد يقابل المحتسب شخصًا ممن معه آلة فيها منكر، ولكن هذه الآلة تستخدم في أمور أخرى، ومن أقرب الأمثلة على ذلك الهاتف الجوال، فقد يوجد من الشباب من يضع في جواله الأغاني المحرمة، والأفلام وغير ذلك مما هو يعد منكرًا شرعيًا ففي مثل هذه الحالة لا يحل للمحتسب أن يقوم بإفساد هذه الآلة (الجوال) إذ قد ينتفع بها على وجه آخر، ولكن المتعين عليه هو تغيير المنكر فقط، إلا لو كانت هناك حاجة ملحة تستدعي ذلك فقد يجوز للمحتسب أن يفعل ذلك من باب التعزير، للشخص صاحب المنكر.
النوع الخامس:
إيقاع العقوبة بالنكال والضرب، وذلك فيمن تجاهر بالمنكر وتلبس بإظهاره ولم يقدر على دفعه إلا بذلك. والتعنيف والضرب لا يجوز للآحاد وللسلطات إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب المؤدي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار.(6)
ويقول العلامة ابن نجيم وهو يبحث في التعزير: “قالوا لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ فليس ذلك لغير الحاكم”(7).
وعلل ذلك في كتب الفقه: “لو عزره حال كونه مشغولا بالفاحشة فله ذلك، وأنه حسن لأن ذلك نهي عن المنكر، وكل واحد مأمور به، وبعد الفراغ ليس ينهى عن المنكر؛ لأن النهي عما مضى لا يتصور فيتمحص تعزيرًا، وذلك إلى الإمام”.
النوع السادس:
الاستعداء ورفع الأمر إلى الحاكم والإمام لما له من عموم النظر ونفوذ الكلمة، ما لم تدع الضرورة لترك النصرة به لما يخشى من فوات التغيير، فيجب قيام المحتسب بما تدعو إليه الحاجة في الحال.
وأخيرًا فليجتهد المحتسب في التعرف على مراتب الحسبة؛ حتى يكون على بصيرة من أمره، ويكون نفعه أعم وأكثر للأمة الإسلامية. والله أعلى وأعلم.
_____________________________________
(1) صحيح البخاري – كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة – حديث:2804، صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه – حديث:4528.
(2) تحفة الناظر وغنية الذاكر 10/ 12، وإحياء علوم الدين 2/ 420 – 425، معالم القربة 195 – 197، الطرق الحكمية 101 وما بعدها. والموسوعة الفقهية الكويتية (17/265).
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، برقم: (2594).
(4) انظر: 30 طريقة لخدمة الدين رضا أحمد صمدي.
(5) شرح السنة للبغوي (8/34).
(6) إحياء علوم الدين، (2/ 284)، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء الكتاب والسنة.
(7) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (5/ 42).