المسارعة في الخيرات
إن من الأشياء المهمة في حياة المحتسب تزوده بما يعينه على احتسابه, والسير إلى الله تعالى، ومن الزاد العظيم النفع اتصافه بالمسارعة في الخيرات, وهي: المبادرة إلى الطّاعات والسّبق إليها والاستعجال في أدائها وعدم الإبطاء فيها أو تأخيرها(1), وهاك بعض النصوص التي تبين منزلة من اتصف بهذه الصفة؛ لكي تقدم عليها وأنت مطمئن القلب, فمن ذلك:
1- أن الله تعالى وصف المسارعين في الخيرات بأنهم من الصالحين، فلا يمكن أن تحظى أيها المحتسب بهذا الوصف دون المسارعة فيها؛ قال تعالى: ?لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ? [آل عمران:113-114].
2- من سارع في الخيرات كانت مسارعته سبباً مهماً لاستجابة الدعاء، قال تعالى: ?وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ? [الأنبياء:89-90], وكونها سبباً لاستجابة الدعاء يعلم من عود الضمير على زكريا ويحيى -عليهما السلام- وزوجه؛ لكونهم أقرب مذكور، وهذا رأي إمام المفسرين ابن جرير الطبري, حيث قال: “يقول الله: إن الذين سميناهم، يعني: زكريا وزوجه ويحيى، كانوا يسارعون في الخيرات في طاعتنا، والعمل بما يقرّبهم إلينا”(2).
وهناك من العلماء من يعيد الضمير إلى جميع من ذكر من الأنبياء في هذه السورة؛ قال القرطبي: “إِنَّهُمْ” يعني: الأنبياء المسمين في هذه السورة(3).
وعلى هذا القول تكون المسارعة في الخيرات من صفات الأنبياء، وهم كذلك, فأعظم بها من صفة!!!
3- المسارعة في الخيرات أيها المحتسب أمر إلهي يدل على عظيم الرحمة من رب رؤوف رحيم؛ قال تعالى: ?وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [البقرة:148].
وتأمل قول العلامة السعدي في تفسير هذه الآية؛ قال: “والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل: من صلاة، وصيام، وزكوات, وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر, ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب, قال: ?أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [البقرة:148], فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته، فيجازي كل عامل بعمله: ?لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى? [النجم:31].
ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل: كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة: من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية”(4).
وقال سبحانه: ?فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ? [المائدة:48].
أتريد أخي المحتسب الفضل الكبير فهو السبق بالخيرات؛ قال تعالى: ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ? [فاطر:32].
فقوله: ?ذَلِكَ? إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البعد, مع قرب العهد بالمشار إليه؛ للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلته في الشَّرفِ(5)، ثم فسر الفضل الكبير بقوله تعالى: ?جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ? [فاطر:33-35].
كيف تكون مسارعاً للخيرات؟
لا شك أنك أيها المحتسب، وأنت الغيور على محارم الله، وبعد أن رأيت الفضل العظيم للمسارع في الخيرات تود أن تتحلى بهذه الصفة، وها أنا أدلك على الطريق، فقد وصف الله سبحانه وتعالى المسارعين بالخيرات في كتابه بأوصاف عظيمة, فقال: ?إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ? [المؤمنون:57-61].
الصفة الأولى: الإشفاق من خشية الله تعالى:
قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ? [المؤمنون:57]؛ والمعنى: أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه، قال الحسن البصري: “المؤمن من جمع إحسانًا وخشية، والمنافق من جمع إساءة وأمنًا، فهم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه، وجلون من مكره بهم”(6).
الصفة الثانية: الإيمان بآيات الله تعالى:
قال سبحانه: ?وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ? [المؤمنون:58], قال الحافظ ابن كثير: “يؤمنون بآياته الكونية والشرعية”(7).
الصفة الثالثة: التوحيد:
قال تعالى: ?وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ? [المؤمنون:59], قال ابن كثير: “أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ, وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ”(8).
الصفة الرابعة: العمل الصالح مع وجل القلوب من الوقوف بين يدي الله سبحانه:
قال تعالى: ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ? [المؤمنون:60], فهم يعطون العطاء وهم خائفون ألا يتقبل منهم؛ لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط(9).
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ? [المؤمنون:60], يَا رَسُولَ اللهِ! هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ يَخَافُ اللهَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ, وَهُوَ يُخَافُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ»(10).
فمن كانت تلك صفاته كان من المسارعين في الخيرات؛ قال تعالى: ?أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ? [المؤمنون:61]، والملاحظ أن هذه الصفات متعلقة بالقلب، فليكن ذلك منك بمحل الاعتبار.
نموذجان للمسارعين في الخيرات:
النموذج الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
سأكتفي بذكر روايتين لموقفين له تبينان أن المسارعة في الخيرات كانت وصفاً له:
الأولى: ما ورد في حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه؛ قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ، عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَامَ فَتَسَمَّعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَكَعَ عَبْدُ اللهِ، وَسَجَدَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ. قَالَ: فَأَدْلَجْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ لِأُبَشِّرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا ضَرَبْتُ الْبَابَ -أَوْ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ صَوْتِي- قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قُلْتُ: جِئْتُ لِأُبَشِّرَكَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: قَدْ سَبَقَكَ أَبُو بَكْرٍ, قُلْتُ: إِنْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ سَبَّاقٌ بِالْخَيْرَاتِ، مَا اسْتَبَقْنَا خَيْرًا قَطُّ إِلَّا سَبَقَنَا إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ»(11).
الثانية: ما ورد في حديثه أيضاً حيث يَقُولُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا»(12).
ولعلك أخي المحتسب لاحظت أن الراوي للموقفين هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما ذلك إلا لحرصه على المسارعة أيضاً، ولا يضيره أن كان الثاني بعد الصديق فهو أيضاً مسارع في الخيرات.
النموذج الثاني: من يدخل الجنة بغير حساب:
ورد في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيَدْخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، لاَ يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ»(13)؛ قال ابن عباس: “… وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب”(14).
تلك صفة المسارعة في الخيرات، وبعض فضلها، وما يوصلك إليها من صفات، ونموذجان طبقا تلك الصفات، ولم يبق إلا إتباع العلم بالعمل, جعلنا الله وإياك من المسارعين في الخيرات، والله أعلم.
____________________
(1) نضرة النعيم (8/ 3388).
(2) تفسير الطبري (18/ 521).
(3) تفسير القرطبي (11/ 336).
(4) تفسير السعدي (ص:73).
(5) تفسير أبي السعود (7/ 153).
(6) تفسير البغوي (5/ 421)، تفسير ابن كثير (5/ 480).
(7) تفسير ابن كثير (5/ 480).
(8) المصدر السابق (5/ 480).
(9) المصدر السابق (5/ 480).
(10) مسند أحمد (42/ 156)، وصححه الشيخ الألباني في الإيمان لابن تيمية (162)، وفي تحقيقه على الطحاوية (365).
(11) مسند أحمد (1/ 372), صحح إسناده الأرناؤوط.
(12) سنن الترمذي (5/ 614)، حسنه الألباني, انظر: صحيح وضعيف سنن الترمذي (8/ 175).
(13) صحيح البخاري (4/ 118).
(14) تفسير ابن كثير (6/ 546).