النهي من المسلم المقصر
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد:
إن كنت ممن ابتلاه الشيطان فقال لك: أنت عاصٍ، كيف تنصح؟ أنت مدخن كيف تنهى عن التدخين؟ فاعلم أنك وقعت في خطر عظيم؛ لأنك تركت أهم شعيرة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فربما كنت مدخناً فرأيت شاباً صغيراً يدخن فتكلمه بكلمة تخرج من قلبك عن أضرار التدخين، فربما كان نفع الكلمة أعظم من نفع الآيات، والأحاديث، والمحاضرات؛ لأنها خرجت من قلب ذاق الألم، ومن لسان الحال، وليست بلسان المقال.
فعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه كان يقول: “كنت كثيراً أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم! فقلت: من أبو الهيثم؟ قال: أبو الهيثم الحداد لما مُدت يدي إلى العقاب، وأُخرجت للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلـت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا؛ فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين. فكان سبباً في ثبات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، قلت: انظر كيف أن اللص استطاع أن يكون سبباً في تثبيت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رغم علم الإمام بآيات الصبر والثبات والأحاديث، ومع أنه لص!!
المبحث هو: قال الشيخ سليمان الخراشي حفظه الله: هل للمسلم المقصر -سواء بفعل المعاصي، أو التهاون في بعض الأوامر- أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ وهو من كلام ابن حزم رحمه الله ضمن رسالته ” التلخيص لوجوه التخليص” (ص 259-265)، أحببتُ نقله (دون هوامشه). لما فيه من فائدة.. قال رحمه الله: “قد توصل الشيطان إلى جماعة من الناس بأن أسكتهم عن تعليم الخير؛ بأن وسوس إليهم، أو لمن يقول لهم: إذا أصلحتم أنفسكم فحينئذ اسعوا في صلاح غيركم.. وربما اعترض عليهم بقول الله عز وجل: ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105]، وبقوله تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ? [البقرة:44].
– والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً يقذف به في النار فتندلق أقتابه، فيقول له أهل النار: يا فلان! ألست الذي كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: نعم كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». أو كما قال عليه الصلاة والسلام: «فأسكتهم عن تعليم الخير».
فاعلموا رحمكم الله: أن الآية الأولى لا حجة فيها للمعترض بها؛ لأنه ليس فيها نهي لنا عن أن ننهى من ضل عن ضلاله، ولكن فيها تطييب لأنفسنا عن غيرنا ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا.
وقد جاء في بعض الآثار: أن المنكر إذا خفي لم يؤخذ به إلا أهله، وأنه إذا أعلن فلم ينكره أحد أخذ فاعله وشاهده الذي لا يقره؛ فإنما في هذه الآية إعلام لنا أننا لا نُضرُّ بإضلال من ضل إذا اهتدينا، وعلى من اهتدى بنا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وأما الآية الثانية فلم ينكر فيها الأمر بالبر، وإنما أنكر استضافة إتيان المنكر إليه.. ونعم معترفون لها بذنوبنا، منكرون على أنفسنا وعلى غيرنا، راجون الأجر على إنكارنا، خائفون العقاب على ما نأتي مما ندري أنه لا يحل.
ولعل أمرنا بالمعروف، وتعليمنا الخير، ونهينا عن المنكر: يحط به ربنا تعالى عما نأتي من الذنوب؛ فقد أخبرنا تعالى أنه لا يضيع عمل عامل منا.
وأما الحديث المذكور فهو عن رجل غلبت معاصيه على حسناته، فإن كان مستحلاً للمنكر الذي كان يأتي ومرائياً بما يأتي به: فهذا كافر مخلد في نار جهنم، ويكفي من بيان هذا قوله تعالى: ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ? [الزلزلة:7-8].
فمن أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وعصى مع ذلك فوالله لا ضاع له ما أسلف من خير، ولا ضاع عنده ما أسلف من شر، وليوضعن كل ما عمله يوم القيامة في ميزان يرجحه مثقال ذرة، ثم ليجازين بأيهما غلب. هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
وقد أمر تعالى فقال: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104]. وقال تعالى: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? [التوبة:122]، فأمر تعالى من نفر ليتفقه في الدين بأن ينذر قومه، ولم ينهه عن ذلك إن عصى، بل أطلق الأمر عاماً، وقال تعالى: ?وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ? [آل عمران:115]. فمن رام أن يصدَّ عن هذه السبيل بالاعتراض الذي قدمنا فهو فاسق، صاد عن سبيل الله، داعية من دواعي النار، ناطق بلسان الشيطان، عون لإبليس على ما يحب، إذ لا ينهى عن باطل ولا يأمر بالمعروف ولا يعمل خيراً..
وقد بلغنا عن مالك، أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له قائل: يا أبا عبد الله! وأنت لا تفعل ذلك؟ فقال: يا ابن أخي ليس في الشر قدوة.
ورحم الله الخليل بن أحمد الرجل الصالح حيث يقول: “اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي، ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري”.
وذُكرت هذه المسألة يوماً بحضرة الحسن البصري رحمه الله فقال: “ودَّ إبليس لو ظفر منا بهذه؛ فلا يأمر أحدٌ بمعروف ولا ينهى عن منكر”، وصدق الحسن؛ لأنه لو لم يأمر المعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يذنب: لما أمر به أحد من خلق الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكل منهم قد أذنب. وفي هذا هدم للإسلام جملة.
فخذوا حذركم من إبليس وأتباعه في هذا الباب، ولا تدعوا الأمر بالمعروف وإن قصرتم في بعضه، ولا تدعوا النهي عن منكر وإن كنتم تواقعون بعضه، وعلّموا الخير وإن كنتم لا تأتونه كله، واعترفوا بينكم وبين ربكم بما تعملونه بخلاف ما تعلِّمونه.
نصيحة: لا تعلم أي حسنة تكون سبباً لرحمة الله لك فتدخل الجنة، فلا تحتقر أي عمل، وعليك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعظم المعروف التوحيد، وأعظم المنكر الشرك.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.