حقيقة الإنكار بالقلب
من محاسن ديننا الإسلامي أنه جعل إنكار المنكر مراتب، وعلق ذلك بالاستطاعة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(1)، فإذا عجز المسلم عن إنكار المنكر بيده ولسانه لعدم استطاعته ذلك أو لما ينزل به من ضرر غير محتمل، أو لما قد يترتب على ذلك من مفسدة أكبر من المنكر الذي ينكره فهو معذور في ترك ذلك الإنكار، ولينتقل إلى المرتبة الثالثة المذكورة في الحديث وهي الإنكار بالقلب.
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن درجات الإنكار: “هو باليد مع القدرة، وباللسان عند عدم المَكَنَة، وبالقلب عند خوف الفتنة، والعجز عن القيام بالفريضة، وهو أضعفها”(2).
وسأل إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بنِ هانئٍ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ رحمهما الله: “متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: ليس هذا زمان نهي إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان”(3).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “إنها ستكون هنّات وهنّات بحسب امرئٍ إذا رأى أمراً لا يستطيع له تغييراً أن يعلم الله أنَّ قلبه له كاره”(4).
وعن أبي الطفيل رحمه الله قال: “قيل لحذيفة رضي الله عنه: ما ميت الأحياء؟ قال: من لم يعرف المعروف بقلبه, وينكر المنكر بقلبه”(5).
وبكراهية القلب للمنكر تبرأ ذمة المحتسب إن لم يستطع الإنكار باليد أو اللسان، فعن العُرْس بن عميرة الكندي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عُمِلتِ الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -وقال مرة: أنكرها- كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها»(6). قال الشيخ أبو الطيب آبادي رحمه الله في معنى قوله: «كمن غاب عنها»: “أي: في عدم لحوق الإثم له، وهذا في من يعجز عن إزالتها بيده ولسانه، والأفضل أن يضيف إلى القلب اللسان فيقول: اللهم هذا منكر لا أرتضيه, قاله العزيزي”(7) أ.هـ
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها، لأنَّ الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال”(8) أ.هـ
صفة الإنكار بالقلب:
أن يشعر المؤمن في قلبه بكراهة هذا المنكر وبغضه له، والنفور منه، وتمني زواله، ويعقد العزم على تغييره عند القدرة على ذلك، ويناله حزن وهم لعدم قدرته على تغيير هذا المنكر، وهذا الأخير هو من أمارات صدق الإنكار بالقلب، وينبغي أن ينضم إلى ذلك سؤال الله الإعانة على تغيير هذا البلاء وإزالته حقيقة.
ومن لوازم إنكار القلب: مفارقة المنكر وعدم القعود مع أهله حال مقارفتهم له، فإذا كان الإنسان عاجزاً عن تغيير المنكر ولكن بوسعه مفارقة المكان الذي يعصى الله به، فإنه يجب عليه مفارقته، ولا يكتفي في هذه الحالة بإنكار القلب فقط.
وقد يغلط البعض فيظن أنه ما دام كارهاً للمنكر فلا بأس عليه بمخالطة فاعله والجلوس معه حال مواقعته المنكر.. أو البقاء في مكان فيه منكر في الشرع, وهذا مخالف لما دل عليه القرآن والسنة. قال تعالى: ?وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ? [النساء:140] وهذا نهي صريح عن مجالستهم حال مواقعتهم لهذا المنكر.. فما دام لا يقدر على الإنكار باليد أو اللسان فلا بد إذاً من مفارقته للمنكر.. هذا هو الصحيح(9).
قال القرطبي -رحمه الله- عند هذه الآية: “.. فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: ?إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ? [النساء:140], فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية, وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قومًا يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين: إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية: ?إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ? [النساء:140] أي: إن الرضا بالمعصية معصية، ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم”(10) ا.هـ.
وقال العلامة السعدي رحمه الله عند هذه الآية: “وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم ?حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ? [النساء:140], أي: غير الكفر بآيات الله ولا الاستهزاء بها.
?إِنَّكُمْ إِذًا? أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكور ?مثلهم?؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلساً يعصى الله به فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها”(11). ا.هـ.
وقال البخاري -رحمه الله-: “باب: هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة؟”، ثم قال: “ورأى ابن مسعود صورة في البيت فرجع، ودعا ابن عمر أبا أيوب فرأى في البيت ستراً على الجدار, فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء. فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لكم طعاماً، فرجع”(12).
ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها: «أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهة فقالت: يا رسول الله: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قالت: فقلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة»(13).
وقال ابن ماجه: “باب إذا رأى الضيف منكراً رجع”(14). وذكر حديث علي رضي الله عنه قال: «صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع»(15).
وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يخرج من الوليمة إذا وجد جدران البيت قد سترت، وكذا إذا استعمل صاحب الوليمة آنية الفضة أو الذهب، أو رأى في البيت شيئاً من ذلك المستعمل(16).
وقال المروذي: “سألت أبا عبد الله عن الرجل يدعى فيرى فرش ديباج، ترى أن يقعد عليه أو يقعد في بيت آخر؟! قال: يخرج، قد خرج أبو أيوب وحذيفة”(17).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين: “أن حذيفة بن اليمان أتى بيتاً فرأى فيه حارستان، فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وفي لفظ آخر: فرأى شيئاً من زي العجم فخرج وقال: «من تشبه بقوم فهو منهم»“(18).
وقال علي بن أبي صالح السواق: “كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الدار، فنفض يده في وجهه وقال: زي المجوس، زي المجوس، وقال في رواية صالح: إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من آنية المجوس: الذهب والفضة، أو ستر الجدران بالثياب، خرج ولم يطعم”(19) ا.هـ.
وقال إبراهيم الحربي: “وكان –أي: الإمام أحمد- إن رأى إناء فضة أو منكرًا خرج..”(20).
وقال الحافظ بن حجر عند شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها في الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بهم: “قال المهلب: في هذا الحديث أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم. قال: واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر وإن لم يشرب”(21). ا.هـ.
وقال الإمام مالك رحمه الله: “لا ينبغي المقام بأرض يعمل فيها بغير الحق والسب للسلف الصالح، وأرض الله واسعة، لقد أنعم الله على عبد أدرك حقاً فعمل به”(22).
متى تجب مفارقة المنكر؟
لا شك أن مفارقة المنكر أمر واجب على المستطيع, لكن فرق بعض الفقهاء -فيما يتعلق بمفارقة مكان المنكر- بين كون المنكر في مكان لا يلحق من فارقه حرج وضرر ظاهر كناحية في السوق، أو دار صاحب الوليمة إذا وجد فيها شيء من المنكرات, وبين كون المنكر واقعًا من جار له في المنزل إذا كان يلحقه من الخروج ضرر ظاهر، ككون الدار ملكاً له, فيجوز له البقاء فيه مع متابعة النصح له(23).
أما من دعي إلى وليمة وهو يعلم أن فيها منكراً لكنه لم يره ولم يسمعه فهل له الجلوس والأكل؟
قال البهوتي رحمه الله: “له الجلوس والأكل نصاً؛ لأن المحرم رؤية المنكر أو سماعه ولم يوجد. وله الانصراف, فيخير لإسقاط الداعي حرمة نفسه بإيجاد المنكر”(24).
لكن قد يختلف الحكم إذا كان الرجل ممن يقتدى بمثله, والمنكر في تلك الوليمة أو المناسبة مشتهر عند الناس, ففي هذه الحالة قد لا يفهم الناس من جلوسه إلا الإقرار فعليه أن يفارق -والله أعلم-.
هذا ولا يفهم من كون الإنكار بالقلب يقتضي مفارقة المنكر أن ندع بعض الأعمال المشروعة، أو قصد بعض ما يشرع قصده من الأماكن لوجود بعض المنكرات هناك, فلا يهجر المسجد لكونه مزخرفاً مثلاً، أو كان أهله يسبلون ثيابهم, كما إذا اتبعت الجنازة، ثم جاء من يضرب بالدف، أو يظهر النياحة، فلا تدع ما أنت فيه لأجل هذا المنكر.. (25)، وقد كان الإمام أحمد -رحمه الله- إذا حضر جنازة ثم ظهر هناك بعض المنكرات لم يرجع عنها, ويقول كما قال الحسن لابن سيرين: “لا ندع حقاً لباطل”(26).
فهذه النصوص عن السلف الصالح تبين لنا أن المسلم إذا كان لا يقدر على تغيير المنكر باليد أو اللسان، ولكنه يستطيع مفارقة القوم بدون أن يحصل عليه ضرر منهم فإنه يجب عليه مفارقتهم.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يفقهنا في دينه، ويعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، والحمد لله رب العالمين.
_____________________
1- صحيح مسلم (1/ 69) رقم (49).
2- طبقات الحنابلة (2/ 279).
3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (رقم 19).
4- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (3/ 298).
5- مصنف ابن أبي شيبة (8/ 667).
6- سنن أبى داود (4/ 218) رقم (4347) وحسنه الألباني.
7- عون المعبود (11/ 336).
8- جامع العلوم والحكم (ص: 321).
9- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه.
10- تفسير القرطبي (5/ 418).
11- تفسير السعدي – تيسير الكريم الرحمن (ص: 210)
12- صحيح البخاري (7/ 25).
13- صحيح البخاري (7/ 25) رقم (5181).
14- سنن ابن ماجه (2/ 1114).
15- سنن ابن ماجه (2/ 1114) رقم (3359)، وصححه الألباني.
16- انظر: الورع للإمام أحمد (ص: 149).
17- انظر: الورع للإمام أحمد (ص: 150).
18- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 361).
19- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 362).
20- سير أعلام النبلاء (11/ 226).
21- فتح الباري (4/ 341).
22- موطأ مالك (1/ 262).
23- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه (ص 380).
24- كشاف القناع عن متن الإقناع (5/ 170).
25- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه وآدابه (ص 381).
26- طبقات الحنابلة (1/ 278).