ربّ الأسرة والاحتساب في رمضان
إننا يوم أن نسعى إلى صلاح المجتمعات لابد أن نعمل جاهدين على إصلاح اللبنات التي يقوم عليها المجتمع، ولابد من اهتمام بالغ بالفرد الذي هو اللبنة الأولى للمجتمع، وهذا ما دعا إليه الإسلام، وجعله من الواجبات المتحتمات، فدعا إلى إصلاح الأسرة والتي هي عبارة عن أفراد، إذ لو صلحت لبنة الأسرة، وحصلت الرعاية المطلوبة لكل فرد في الأسرة، فإن الخير الكثير هو المستقبِل للأمة على بوابة السعادة في الدنيا والآخرة، ولذلك اهتم الإسلام بالأسرة اهتماماً بالغاً فجعل رعايتها، والاهتمام بها، وتربيتها من المسؤوليات التي يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته…»، ثم قال: «والرجل في أهله راع، وهو مسؤول عن رعيته»(1)، فهو يسأل عن هذه الأمانة التي حمله الله إياها، والتي هي له أجر وثواب إن أحسن تأديبها، وهي وزر وعقاب إن أساء وفرط في حقها، فالاهتمام بالأسرة والعناية بها طريق للجنة، وإهمالها وتضييعها طريق إلى النار، فـ«ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة»(2)، وأمر الله تعالى كل رب أسرة أن يقي نفسه وأهله من النار، فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? [التحريم:6]، “احفظوا أنفسكم من هذه النار بترك المعاصي، وفعل الطاعات، واجتناب المنهيات، التي تغضب اللّه ورسوله، واحفظوا أهليكم منها بأن تأمروهن بالمعروف وتنهوهن عن المنكر، وتعلموهن الخير وأوامر الشرع، وتؤدبوهن بأدب القرآن”(3).
ومسؤولية رب الأسرة في إصلاح أسرته تكون طوال العام، وفي كل الشهور، وهي في شهر رمضان أشد تأكيداً؛ وذلك لأن الأسرة في رمضان في هذه الأزمان -إلا من رحم الله- قد كثر في أوساطها وبين أفرادها ما يضيع عليها النفحات الرمضانية، وما يخالف المقاصد الربانية من هذا الشهر الكريم، فبدل أن يكون شهر رمضان شهر عبادة وتقوى، وشهر إحسان وصلاح، وشهر خشوع وخضوع، فإننا للأسف الشديد نرى العدد الكبير من الأسر المسلمة قد حولت هذا الشهر الكريم إلى شهر إسراف وتبذير! شهر سهر وضياع للأوقات! شهر نوم عن الصلوات وإهمال للواجبات! شهر تضييع للأولاد والبنات! شهر تبرج وسفور ومزاحمة للرجال في الأسواق والتجمعات! شهر تسكع وتفحيط وإطلاق للنظرات المحرمات! وغير ذلك من المنكرات التي غالباً ما تكثر في رمضان، فلو سألنا أنفسنا سؤالاً صريحاً: من المسؤول عن كل هذا؟ ومع من نتكلم في هذا الشأن؟ إن هذه المنكرات لا تصدر إلا عن رجل أو امرأة، أو شاب أو فتاة، أو طفل أو طفلة، وهؤلاء هم أفراد الأسرة.
إننا عندما نتكلم عن منكرات تقع فيها الأسرة في هذا الشهر الكريم لا يعني أنه لا توجد حسنات، ولا يوجد معروف، بل إن الخير بحمد الله كثير، فهناك الحرص على الصلوات، بل المحافظة على صلاة النوافل قبل الواجبات، وهناك الإحسان والصدقات، وغير ذلك من أوجه الخير، لكننا لسنا في هذا الشأن بل نريد أن نعلم خلال هذه الأسطر أن هناك من أفسد على نفسه لذة رمضان، بأعمال ومشاهد نراها مستمرة خلال هذا الشهر الكريم، فحتى لا تغرق السفينة لابد من إصلاح الخروق التي قد أصابت سفينة الأمة، والتي يفتعلها أفراد من الأسرة حيث لا رقيب ولا حسيب، والخطورة في الأمر أن تكون هذه المنكرات متعدية يتضرر بها الغير، فهيا إلى حساب أنفسنا، هيا إلى أن ينظر كل منا في أهله بيته؛ ليعيد لهذا الشهر رونقه، ويجدد له صفاءه، ويجعل أسرته مثالية فيه، تتلو كتاب الله، وتسارع في الخيرات، وتسعى إلى نشر الفضائل والمكرمات، هيا إلى طاولة نرصد فيها منكرات تفسد علينا رمضاننا، وتعكر علينا صفوه، لنطردها من أوساطنا، هيا نستوقف أنفسنا لنصحح المسار حتى لا يستمر الانحراف فتتعسر الاستقامة، ونرقع الخرق قبل أن يتسع فيصعب ترقيعه، وليست المنكرات التي ستذكر هي كل ما يحصل لكنها قد تكون أظهرها وأخطرها مما لابد أن يحتسب عليها رب الأسرة إذ هو المسؤول عن ذلك أمام ربه، وهو غالباً ما يكون من القادرين على التغيير باليد، ومن هذه المنكرات:
– إضاعة الصلوات، فمما اعتادته كثير من الأسر في شهر رمضان السهر في الليل حتى ساعات متأخرة، وقد يستمر إلى الصباح،وهذا يؤدي إلى الاستغراق في النوم مما تضيع بسببه صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، فقد سمعنا عمن لا يستيقظ إلى على أذان المغرب! يا الله! أهذا يكون بين جدران أسرة مسلمة تشهد ألا إله إلا الله، وقد نرى رب الأسرة ممن ابتلي بهذا فهذا مصيبة عظيمة نسأل من الله أن يرفعها، أو قد نرى رب الأسرة يخرج إلى الصلاة مع الجماعة، وأهل بيته في سبات عميق، بل قد يتسلل بهدوء ليخرج إلى الصلاة كي لا يزعجهم! وما علم المسكين أنه بهذا قد يكون سبباً في إزعاجهم بأكبر إزعاج وهي نار جهنم، ولا يعلم أنه قد يسبب لنفسه أيضاً إزعاجاً شديداً يوم يسأل عن ذلك أمام ربه، ألم يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهله بالصلاة، فقال: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا? [طـه:132]، وأثنى على نبيه إسماعيل بأنه كان يأمر أهل بالصلاة فقال: ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا? [مريم:54-55]، فمما ينبغي على رب الأسرة أن ينظر إلى الأسباب التي تؤدي إلى تضييع الصلاة بسبب النوم أو غيره فيقطع هذه الأسباب، ويرتب بجدولة معينة أوقات الصلاة والاستعداد لها.
– ومن المنكرات التي قد ضجرت منها البيوت مما يحصل في شهر رمضان الإسراف والتبذير، فلا يقترب هذا الشهر من البيوت إلا وقد أعدوا له من أنواع المأكولات والمشروبات ما يكفي عشر أسر، وليتهم أكلوا وتصدقوا بما يزيد عن حاجتهم، بل لم يزيدوا عن كونهم خلفوا أكواماً من القمامة والمخلفات -أعزكم الله- مما زادت معه معاناة عمال النظافة، وانتشرت الروائح الكريهة، وفي نفس الوقت يوجد من يتمنى هذا الطعام من الفقراء والمساكين ممن يرتادون الجمعيات الخيرية، أو من عرف بالعفاف وهو في أشد الحاجة فلا يبرح بيته، فلابد من مراجعة النفس فيما يحصل من إسراف، ويكون ذلك في التأمل قول الله تعالى: ?وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? [الأعراف:31]، وكم من أسر حُرمت محبة الله بسبب إسرافها، وكم من أسرٍ أصبح من أفرادها الشيطان لأنهم أصبحوا إخوة له بسبب تبذيرهم، ?إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ? [الإسراء:27].
– ومن المنكرات مشاهدة القنوات الفاسدة المفسدة، والمواقع الهدامة، وسماع للأغاني الماجنة، وقد لا يستطيع المسلم أن يعقل مثل هذا؛ فكيف نقابل شهر القرآن بكل هذه المنكرات التي ينهى عنها القرآن، والتي تشغل عن القرآن، والتي تمنع القلب من تدبر القرآن والانتفاع به، ومن العجيب والعجائب كثيرة ما يعده أصحاب القنوات من المسلسلات والبرامج بمناسبة رمضان مما لا يخلو من صورة محرمة، أو أغاني فاجرة، أو فكرة فاسدة، أو عقيدة كافرة، أو أخلاق منحطة، أو مبادئ دنيئة، وكل هذا في شهر رمضان، فمع تفتح أبواب الجنان لكي تسعى الأسرة جاهدة أن تحصل على أكبر قدر من الخير فإننا نسمع عن افتتاح برامج وفوازير وأنغام تقتحم بأصحابها أبواب النيران، وإن كانت مغلقة في هذا الشهر الكريم، والأدهى والأمر أن رب الأسرة هو الذي يأتي لأهله بكل هذه المنكرات بحجة التسلية، وما علم أنها تصلية بنار الشهوات، وتسعير لنار الشبهات، وتخريب للقيم والمبادئ والأخلاقيات!
بعضي على بعضي يجرد سيفه *** والهم مني نحو صدري يُرسل
النار توقد في خيام عشيرتي *** وأنا الذي يا للمصيبة أشعل
فيحتسب رب الأسرة بتوجيه أسرته إلى المبادرة بفعل الخير في هذا الشهر الكريم، وإشغالهم ببرامج مفيدة مما يعرض على القنوات الإسلامية التي تحترم عقول مشاهديها، فترفعت في أدائها، وارتقت في مخرجاتها، وليس كل الوقت مشاهدة وسماع؛ إذ لابد من القراءة والحوار، والتفكر والاعتبار.
– الأسواق، وما أدراك ما الأسواق؟ لعلها كلمة يتجنبها رب الأسرة لا لأجل ما يصرفه فيها، والخسارة المالية التي قد تلحقه بسببها -وإذا احتسب ما ينفقه على أهله فهو خير مال ينفقه- لكنه يتجنبها لأنه يشعر بالتقصير تجاهها، وفي هذا الشهر الكريم يكثر ارتياد الأسواق سواء قبل رمضان، أو وسطه، وبالأخص آخره، ومنكرات السوق المتعلقة بالأسرة كثيرة نذكرها بحسب ما يقع من كل فرد من أفراد الأسرة:
1- الرجال والشباب: فيذهب بعضهم إلى السوق بحاجة أو بدون حاجة، ومعلوم ما في السوق من الفتن، والنساء المتبرجات، فيقلب هذا المسكين نظره هنا وهناك في هذا الشهر الكريم الذي يربيه الله تعالى فيه على المراقبة؛ لأنه يصوم ولا يستطع أحد غير الله أن يكتشف إفطاره إذا أفطر خفية، فيمضي في السوق ينظر إلى هذه، ويزاحم الثانية، ويتبع الأخرى، فهل نسي أن الله يراه؟ وهل يرضى أن يفعل هذا بأهله؟ ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ? [النــور:30]، وإطلاق النظر يمرض القلب؛ فلا يأنس بذكر الله، ولا ينتفع في هذا الشهر من الآيات التي تترنم بها المآذن، فيشتكي ويقول: لا أخشع في صلاتي! ولا أتأثر عند سماع القرآن!.
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء مادام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها *** فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
2- النساء والفتيات: فتنسى كثير من النساء -إذا خرجت من بيتها- أمر الله عز وجل لها بالعفة والتستر، وأن الأصل قرارها في بيتها، فالأصل أن المرأة إذا خرجت لحاجة فإنها تحذر من أن تتصف بما اتصفت به الكثير الكثير من النساء للأسف الشديد، وهي من أوصاف أهل النار: «نساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا»(4)، وإذا كان الإسلام يأمرها أن تترك الزينة والتطيب وهي ذاهبة إلى المسجد للصلاة، وهي البقعة التي يحبها الله، فكيف بمرتع الشيطان، ومضمار العصيان؟! ومما تقع فيه المرأة من منكرات في الأسواق الخضوع بالقول والخلوة المحرمة مع غير المحارم من الباعة أو الخدم أو غيرهم، ومن ذلك شراء ما يحرم شراؤه من الأزياء المحرمة التي لا يصلح أن تلبسها المرأة أمام غيرها من النساء مما فيه تقليد للكافرات، أو تشبه بالفاجرات، أو خدش للحياء مما تعرضه القنوات، فليتق الله رب الأسرة وليحتسب على أهله في كل ذلك.
3- الأطفال: إذ يُترك الأطفال ساعات طويلة في الأسواق ولا يعلم أين ذهبوا، ولا أين هم، مما يدعو أصحاب النفوس المريضة إلى استغلال ذلك بإلحاق الأذى بهؤلاء الأطفال، فيقع ما لم يكن بالحسبان، ولا ينفع حينها الندم، أو أن تعطى الحرية الكاملة للطفل في شراء ما يريد من السوق، والسوق يجمع القبيح والحسن، وما دور رب الأسرة إذا لم يحتسب على أولاده في توجيههم إلى شراء الحسن أو المباح، وترك المحرم والقبيح، وقد ينتشر بعض الأطفال في السوق وقد غابت رقابة أهلهم عنهم فيؤذون الباعة، أو المتسوقين، أو غيرهم من الأطفال، وقد يكونون سبباً لمشكلة كبيرة بين رجلين، وقد تصبح بين أسرتين بسبب إهمال ساعة.
– ومن المنكرات التي قد تقع فيها الأسرة،-وقد يعلم بها رب الأسرة، ويسكت عنها- وهي ما يحصل من عادات سيئة يجتمع على فعلها الشباب في شهر رمضان، ويكون للآباء دور كبير فيها، وهي ما يقوم به الشباب من الاستعراضات البهلوانية بالسيارات بالتفحيط وغيره، مما لا يخفى ضرره على كل ذي لب؛ فبسببه هلكت أنفس وأموال، ودمرت أسر وعلاقات، وتقطعت أواصر وصداقات، وكم سبَّب من الرعب في الأحياء والحارات، ومنع كبار السن والنساء والأطفال من الخروج لحاجتهم، وغير ذلك من المفاسد والسيئات، ولا تخلو تلك التجمعات من الرفقة السيئة، والكلام الفاحش، والتصرفات الغير مشروعة، ورب الأسرة لابد من يقف موقفاً حازماً وهو يسمع عن مثل هذا العبث؛ قبل أن يفقد فلذة كبده، ويقع في حرج مع الناس بسبب ولده.
وأخيراً لابد أن يعلم رب الأسرة أن صلاحه هو صلاح للأسرة، وسبب لسعادة أهله، وهو باحتسابه يدخل في عداد أنصار الدين، الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيحصل على وسام الخيرية التي تلحق بالمحتسبين، ويقود أسرته إلى بر الأمان فيلحق بركب الأسر الناجية.
اللهم أصلح بيوت المسلمين، واجعل شهر رمضان شهر بداية للعودة إليك، وترك المنكرات، وفعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________________________
(1) رواه البخاري برقم (2278)، واللفظ له، ومسلم برقم (1829).
(2) رواه البخاري برقم (6731)، واللفظ له، ومسلم برقم (142).
(3) التفسير الواضح للدكتور حجازي (3/705).
(4) رواه مسلم برقم (2128).