الحمد لله الذي جعل مقام دُعاتِه عليَّا، ورفع من شأنهم فأشرق نورهم سنيَّا، ووفَّقهم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلم يزل غيث النَّدى بهم وليَّا، وسبيل الرَّشاد والحكمة جنيَّا.
ونُصلي ونُسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه صلاةً ننال بها يوم العطش ريَّا، ونحوز بها في جنَّة المأوى حللاً حليَّا، أما بعد:
فإنَّ الحِسْبَةَ وظيفةٌ جليلةٌ، وولايةٌ شريفةٌ، فهي المنصب الذي به صلاح أحوال الرَّعيَّة، وقوام إقامة الحدود الشَّرعيَّة.
ففي إقامتها أكبرُ المصالحِ وأهمِّها، وأجمعها لنفع الناس وأعمِّها، وتحصينُ أموالهم، وحفظُ أعراضهم، وانتظامُ أحوالهم؛ وحسم موادّ الفساد، وكفّ يده عن الامتداد.
وأهلُ الحِسْبَة هم ملحُ هذه الأمة، وربانُها، وهم حفظة الأموال، وحملة الأثقال، والنَّقلة الأثبات، والسَّفرة الثَّقات، وأعلام الإنصاف والانتصاف، والشهود في الاختلاف؛ ولهذا لا بد أن يكونوا بأمرها مضطلعين، وللسنة النبوية في إقامة حدودها متّبعين، وبالخَلْقِ مشفقين.
وهم من عناهم الله بقوله: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
فهم المفلحون بنص هذه الآية؛ بسبب هذين الوصفين، وهما في حقيقتهما شيء واحد.
ولنا في هذا المقال وقفاتٌ جليلات، وتنبيهاتٌ نافعات, في هذه الشعيرة العظيمة، والمهمة الشريفة.
أولها: تعريف شَعِيرَة الحِسْبَة:
تعريف الشَعِيرَة:
يُطلق على ما ينبغي أن يكون ظاهراً من أمور الدين، وما يتميَّز به الإسلام (شعيرة).
فشعائر الله متعبداته، واحدتها شِعَارة أو شَعِيرة، وهي أعلام لطاعته، وقيل في قول الله تعالى: ?لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ? [المائدة:2]: “إنها الهدايا المـُشْعَرَة، أي: المـُعَلَّمة بتقليدٍ، أو تدميةٍ.. وغيرها”(1).
قال الجوهري: “والشَعيرَةُ: البَدَنَةُ تُهْدى، والشَعائِرُ: أعمالُ الحجِّ، وكلُّ ما جُعِلَ عَلَماً لطاعة الله تعالى، قال الأصمعي: الواحدة شَعيرةٌ، وقال بعضهم: شِعارَةٌ، والمشاعِرُ: مواضع المناسك، والمِشْعَرُ الحرام: أحد المشاعِرِ، وكسر الميم لغةً”(2).
والمتأمل في هذا المعنى اللغوي للشعيرة يجد:
– أنَّها إنما تُطلَقُ على أعلام العبادات القولية: كالأذان.. وغيره.
وأعلام العبادات الفعلية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. وغيرها.
وأعلام العبادات المكانية: كمواضع المناسك، والمشاعر.
– أنه لا يُطلَقُ على أي عبادة (شعيرة) حتى تكون ظاهرة بارزة، قال في المغرب: “الشِّعَارُ: خِلَافُ الدِّثَارِ، وَالشِّعَارُ وَالشَّعِيرَةُ الْعَلَامَةُ”(3).
ومن شأن العلامة أن تكون ظاهرة؛ ولهذا قيل: للبَدنَة المهداة (شعِيرة)؛ سُمِّيت بذلك لأنه يُؤثر فيها بالعلامات”(4).
– أنَّ الشعيرة ما سُمِّيت شعيرة إلا لأنها تُشْعِر بشيء ما، فالبَدنَة المـُشْعَرَة، تُشْعِرُ بأنها هدي لله، وشعيرة الأذان تُشْعِرُ بإسلام الدار، وشعيرة الحسبة تُشْعِرُ بخصوصية هذه الأمة على من سواها.. وهكذا!
إذًا: فالشعيرة: ما ندب الشرع إليه، وأمر بالقيام به، وفي التَّنزيل العزيز: ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ? [الحج:32].
قال في معجم لغة الفقهاء: “الشعيرة: والجمع: شعائر، هي: العبادات الحركية، وما جُعِلَ علماً لطاعة الله، ومنه شعائر الإسلام، وشعائر الحج: مناسكه، وأعماله التي تتمه”(5).
تعريف الحِسْبَة:
“الحِسْبَة: بكسر الحاء، وتسكين السين، مصدر حَسَبَ، ومنه: الحساب، ومنه: فعل الشيء حِسْبَةً، أي: لم يأخذ عليه أجراً، مبتغياً الثواب من الله، والحِسْبَة: الأمر بالمعروف إذا ظهر تركُه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعلُه”(6).
قال التهانوي الحنفي: “ثم الحِسْبَة في الشريعة عامّ، يتناول كلَّ مشروع يُفعل لله تعالى: كالأذان، والإمامة، وأداء الشهادة إلى كثرة تعداده؛ ولهذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة.
وفي العُرْفِ: اُختُصّ بأمورٍ:
أحدها: إراقة الخمور.
وثانيها: كسر المعارف.
وثالثها: إصلاح الشوارع، كذا في نصاب الاحتساب”(7).
ثانيها: نظام الحِسْبَة:
“الحِسْبَةُ مبدأٌ ونظامٌ إسلاميٌ يقوم بالإشراف على الأخلاق العامة، والمرافق العامة، ومنع أي انحراف، وعقاب المذنبين، وهي وظيفة دِينيِّة شبه قضائية، عَرَفَها التاريخ الإسلامي منذ بداياته الأولى، تقوم على فكرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ امتثالاً لقوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:104].
والأصل في هذا النظام الإسلامي هو قيام الناس جميعاً بهذا الواجب الذي هو من فروض الكفاية، لكن الدولة الإسلامية لم تدع ذلك الأمر للأفراد؛ خوفاً من حدوث فتن ومشاحنات، وإنما نظَّمته ورتَّبته”(8).
إذًا: فنظام الحسبة في الإسلام كان موجوداً قديماً، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، أو لم يكن بالشكل الذي هو عليه الآن، ثم نما وتطور حتى صار ذا شقين:
1- حِسْبَةٌ عبادية، يقوم بها الأفراد من تلقاء أنفسهم، أساسها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ أمثالاً لأمر الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- بذلك.
2- وظيفةٌ دينيةٌ، تقوم بها الدولة الإسلامية، فقد كانت الدولة الإسلامية قديماً يوجد فيها منصب يُسمَّى: (الحِسْبَة), ويُسمَّى صاحبه: (المحتسب), وعمله تطبيق قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مع المحتسب أعوانٌ يراقبون أمور العباد، والأخلاق العامة، والأسواق والتجارة، وأرباب الحرف والأسعار والموازين.. إلى غير ذلك.
إذًا: فهذه الشعيرة، وهذا النظام، وهذا المبدأ، في الحقيقة لم يكن نظاماً من ابتكار أحد، ولا بأمر أحد، وإنما هو مبدأ إلهي، ونظام إسلامي أصيل، نزل بنزول القرآن، وورود السنة، وطبَّقه الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه –رضي الله عنهم-.
ثم قامتْ به الدولة الإسلامية، حتى صار من وظائفها الأساسية التي يجب أن تقوم بها، وإن كان في بدايته الأولى يهتم أكثر بمراقبة الأخلاق العامة، والأسواق والتجارة، وأرباب الحرف، والأسعار، والموازين.. إلى غير ذلك، كما قلنا.
لكنه بعد ذلك شمل الدعوة إلى الاهتمام بأمور العبادات، والأخلاق، ومحاربة المنكرات بأنواعها، والشرك والبدع بأنواعها، والأمر بجميع الطاعات، ومحاربة المعاصي بشكل عام.
وامتد عمل المحتسب إلى كل مجالات الحياة تقريباً، وقد لخَّص ابن خلدون اختصاصات المحتسب، فقال: “ويبحث -المحتسب- عن المنكرات، ويعزِّر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة، مثل: المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين، وأهل السفن من الإكثار في الحمل؛ لئلا تغرق السفينة بمن فيها، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقَّع من ضررها على السابلة -أي: المارة في الطريق-, والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب.. وغيرها في الإبلاغ –أي: المبالغة- في ضربهم للصبيان المتعلمين، ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه، وليس له الحكم في الدعاوى مطلقاً، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش.. وغيرها، وفى المكاييل”(9).
ثالثها: عِلْم الاحتساب:
عِلْمُ الاحتسابِ علمٌ دينيٌ، فقواعده ومبادئه مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهدي السلف الصالح، ومن المصالح المرسلة، والاستحسان.
يقول العلامة مصطفى الحنفي الشهير (بحاجي خليفة) في (كشف الظنون): “علم الاحتساب: هو علم باحثٌ عن الأمور الجارية بين أهل البلد، من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها، من حيث إجرائها على قانون العدل، بحيث يتم التراضي بين المتعاملين، وعن سياسة العباد بنهيٍ عن المنكر، وأمرٍ بالمعروف، بحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد، بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع، ومبادئه بعضها فقهيٌ، وبعضها أمورٌ استحسانية ناشئة من رأي الخليفة، والغرض منه تحصيل الملكة في تلك الأمور، وفائدته إجراء أمور المدن على الوجه الأتم، وهذا العلم من أدق العلوم، ولا يُدركه إلا من له فهمٌ ثاقبٌ، وحدسٌ صائبٌ؛ إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة، فلا بد لكل واحد من الزمان والأحوال سياسة خاصة؛ وذلك من أصعب الأمور؛ فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلا من له قوةٌ قدسيةٌ، مجرَّدة عن الهوى، كعمر بن الخطاب -رضي الله تبارك وتعالى عنه-؛ ولذلك كان عَلَمَاً في هذا الشأن، عرَّفه المولى النظر في أمور أهل المـدينة، بإجراء ما رسم في الرئاسة، وما تقرَّر في الشرع، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ثم قال: وعِلْمُ الرئاسة –السياسة- المدنية مشتملٌ على بعض لوازم هذا المنصب، ولم نرَ كتاباً صُنِفَ فيه خاصة، وذكر في (الأحكام السلطانية) ما يكفى”(10).
رابعها: فضل هذه الشَّعِيرَة:
هذه العبادة قد شرَّفها الله تعالى، وعظَّمها، ورفع شأنها، وكرَّمها، وجاء بها خير خلقه، وجعلها وظيفة خلفائه وأتباعه من بعده، وأراد بقاءها ودوامها، حتى تكون هذه الأمة قائدة شاهدة، خيِّرة مختارة، وجعل القائمين بها من خير عباده، وأورثهم جنانه ودار ثوابه، وجعلهم من خيار الناس، وأعيان الفضل، وأَنْجُم الأرض، تركوا في سبيلها الشهوات، وجابوا الفلوات.
وبيَّن أنَّ من الصفات التي جَعَلَتْ هذه الأمة تُوصف بأنها خير أمةٍ أخرجت للناس، هي قيامها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110], فدلت الآية الكريمة على أنّ هذه الخيرية منُوطة بهذه الصفات التي ذكرتها الآية.
ولهذا اهتم العلماء بهذه الفريضة، وبيَّنوا مكانتها، وأهميتها، ومتطلبات القيام بها، ومن بين من تكلم عنها بالتفصيل ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه القيم: “الحسبة في الإسلام”.
وممن بيَّن آدابه وأحكامه الغزالي، ومما قاله في بيان أهمية هذه الشعيرة: “فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الْقُطْبُ الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله؛ لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد”(11).
فقوله: “هو الْقُطْبُ الأعظم” بيان لأهميته, وعظم مكانته في الدين، تشبيهاً له بالقطب، والقطب: القائم الذي تدور عليه الرحى، فكأنه القطب، والكل في فلكه يدور، قال ابن فارس: “قطب الرحى؛ لأنه يجمع أمرها؛ إذ كان دوره عليها، ومنه قطب السماء، ويقال: إنه نجم يدور عليه الفلك، ويستعار هذا فيقال: فلان قطب بني فلان، أي: سيدهم الذي يلوذون به”(12).
والمقصود: أنَّ الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة، من الكتاب والسنة، وليس المقام مقام سردها وتفصيلها, يقول الغزالي: “وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة، وعظم الخطر في السكوت عنها، فلا يقابله إلا ما عظم في الدين خطره، والمال، والنفس، والمروءة”(13).
وبيَّن أنَّ هناك من الحسبة ما هو أهم ومهم، فقال: “وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات، ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه، كيلا يتقابل الأمر، ولا ينجر إلى تحريك الفتنة”(14).
خامسها: المُحْتَسِب:
هو القائم بهذه الوظيفة العظيمة، ولَّاه الله تعالى بها، فكيف يجب أن يكون؟ قال في صبح الأعشى: “المحتسب: من وجوه العدول وأعيانهم، يده مطلقة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، على قاعدة الحسبة، ويتحدث في أمر المكاييل، والموازين، ولا يُحال بينه وبين مصلحةٍ إذا رآها”(15).
إذًا: فهو من وجوه القوم، وأعيانهم، وأعدلهم، وخيارهم، وبيَّن الحكيم الترمذي: “أنَّ الحسبة تكون من المحتسب بثلاثة أشياء:
أحدهما: بتذكرة حاجته إلى ذلك المعروف والبِرّ.
والثاني: بتذكرة حاجته إلى ثواب ذلك البرّ والمعروف.
والثالث: بتذكرة حاجته إلى رضا الرَّب بذلك البرّ والمعروف”(16).
وقد ذكر العلماء شروطاً للمحتسب، وصفاتٍ يجب أن تتوفَّر فيه، من أهمها في نظري:
1- أن يعلم ما هو المعروف وما هو المنكر، وأن يعلم حال المأمور والمنهي.
2- أن يكون رفيقاً في طريقته.
3- أن يكون صبوراً على ما قد يترتب على القيام به من أذى.
وفي هذا يقول الغزالي: “من آداب الحسبة: توطين النفس على الصبر؛ ولذلك قرن الله تعالى الصبر بالأمر بالمعروف، فقال حاكياً عن لقمان: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان:17](17).
وقد قيل في المحتسب:
من ولي الحسبة يصبر على *** تعرض الواقف والسائرِ
فليس يحظى بالمنى والغنى *** فيهم سوى المحتسبِ الصابرِ(18).
4- ومن الآداب: تقليل العلائق؛ حتى لا يكثر خوفه، وقطع الطمع عن الخلائق، حتى تزول عنه المداهنة، فقد روي عن بعض المشايخ: “أنه كان له سنور، وكان يأخذ من قصاب في جواره، كل يوم شيئاً من الغُدَد لسنوره، فرأى على القصاب مَنْكَراً، فدخل الدار أولاً، وأخرج السنور، ثم جاء واحتسب على القصاب، فقال له القصاب: لا أعطينَّك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما احتسبتُ عليك إلا بعد إخراج السنور، وقطع الطمع منك”.
وهو كما قال، فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة، ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة، وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة، لم تتيسر له الحسبة، قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: “كيف منزلتُك بين قومك؟ قال: حسنة، قال: إنَّ التوراة تقول: إنَّ الرجل إذا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه، فقال أبو مسلم: صدقتِ التوراة، وكذب أبو مسلم”(19).
والمقصودُ: أنَّ هذا فصلٌ -آداب المحتسب- يطول شرحُهُ، وفيما تقدَّم منها كفاية، فلا نطوِّل بسردها، وفقنا الله جميعاً لصالح العمل، وجنّبنا موارد الخطأ ومصادر الزلل؛ وأعان كلّ والٍ على ما ولّاه، وكلّ راعٍ على ما استرعاه، بمنّه وكرمه ولطفه.
____________________
(1) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري الهروي، ت: مسعد السعدني، دار الطلائع (ص:121).
(2) الصحاح، للجوهري، ت: أحمد عطار، دار العلم للملايين بيروت، ط(4)، (1407هـ), (2/ 698).
(3) المغرب في ترتيب المعرب، للخوارزمي، دار الكتاب العربي بدون طبعة وبدون تاريخ (ص:251).
(4) المحكم والمحيط الأعظم، لابن سيدة، ت: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية بيروت، ط(1)، (1421هـ), (1/ 367) بتصرف.
(5) معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي، حامد قنيبي، دار النفائس، ط(2)، (1408هـ) (ص:263).
(6) معجم لغة الفقهاء، محمد قلعجي، حامد قنيبي، دار النفائس، ط(2)، (1408هـ) (ص:179).
(7) كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانوي، ت: د. علي دحروج، مكتبة لبنان، ط(1)، (1996م), (1/ 108).
(8) الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي (2/ 41).
(9) تاريخ ابن خلدون، ت: خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط(2)، (1408هـ), (1/ 281), والموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي (16/ 75).
(10) كشف الظنون، حاجي خليفة، مكتبة المثنى، (1941م), (1/ 77-78).
(11) إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت (2/ 306).
(12) مقاييس اللغة، لابن فارس، ت: عبد السلام هارون، دار الفكر، (1399هـ) (5/ 105).
(13) إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت (2/ 323).
(14) إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت (2/ 327).
(15) صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، للقلقشندي، دار الكتب العلمية، بيروت (3/ 558) بتصرف يسير.
(16) العقل والهوى، لأبي عبد الله، الحكيم الترمذي (ص:5)، بترقيم الشاملة آلياً.
(17) إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت (2/ 334).
(18) البيتان منسوبان لزين الدين بن الوردي في خزانة الأدب، للحموي، ت: عصام شقيو، مكتبة الهلال ودار البحار بيروت، طبعة الأخيرة (2004م), (2/ 174).
(19) إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت (2/ 334).