شهر رجب بين البدعة والسنة
فضل الأشهر الحرم:
شهر رجب من الأزمنة التي اختصها الله تعالى بكونها حُرُماً، واصطفاها من بين سائر الأشهر، قال تعالى: ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ? [التوبة:36].
روى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في شأن تعظيم الله لحرمة هذه الأشهر الحرم قوله: “جعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم”. [انظر: جامع البيان(14 /238) تحقيق أحمد شاكر].
فهو أحد الأشهر الحرم، وليس فيه فضل غير هذا؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: “لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضل رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب”. [انظر: اقتضاء الصراط المستقيم تحقيق ناصر العقل(2 /134)].
تخصيص العبادة في شهر رجب:
قال ابن حجر: “لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره” [انظر: تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب (ص:6)].
وقد أحدث الناس بعض العبادات، ورتبوا لها فضائل وأجور لم تثبت ولا تصح، ومن ذلك: ما اشتهر عند الناس عن صلاة الرغائب، ولنعرج عليها في بيان عدم صحتها، وبطلان الأحاديث الواردة فيها؛ وذلك لشهرتها، وترددها بين عوام المسلمين والصوفية، خصوصاً:
أولاً: صفتها:
جاء في صفتها حديث موضوع عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من أحد يصوم يوم الخميس -أول خميس من رجب- ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة -يعني: ليلة الجمعة- اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة و?إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ? ثلاث مرات، و?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليّ سبعين، فيقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت العزيز الأعظم. ثم يسجد الثانية فيقول مثل ما قال في السجدة الأولى، ثم يسأل الله تعالى حاجته، فإنها تقضى». قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده، ما من عبد ولا أَمَة صلى هذه الصلاة إلا غفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر، وعدد الرمل، ووزن الجبال، وورق الأشجار، ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار» [انظر: تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب (ص: 22 -24)].
ثانياً: كلام أهل العلم حولها:
قال ابن النحاس -رحمه الله-: “وهي بدعة، الحديث الوارد فيها موضوع باتفاق المحدثين” [تنبيه الغافلين(ص: 496)].
وقال ابن تيمية رحمه الله: “وأما صلاة الرغائب: فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب، لا جماعة ولا فرادى؛ فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً” [انظر الفتاوى لابن تيمية (23/132)].
وقد جزم بوضع حديثها ابن الجوزي في الموضوعات، والحافظ أبو الخطاب، وأبو شامة [انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 61- 67)]، كما جزم ببدعيتها: ابن الحاج [(المدخل 1 /211)]، وابن رجب، وذكر ذلك عن أبي إسماعيل الأنصاري، وأبي بكر السمعاني، وأبي الفضل بن ناصر. [انظر: لطائف المعارف].
ثالثاً: حكم صلاتها جلباً لقلوب العوام:
قال أبو شامة: “وكم من إمام قال لي: إنه لا يصليها إلا حفظاً لقلوب العوام عليه، وتمسكاً بمسجده خوفاً من انتزاعه منه! وفي هذا دخول منهم في الصلاة بغير نية صحيحة، وامتهان الوقوف بين يدي الله تعالى، ولو لم يكن في هذه البدعة سوى هذا لكفى، وكل من آمن بهذه الصلاة أو حسنها فهو متسبب في ذلك، مغرٍ للعوام بما اعتقدوه منها، كاذبين على الشرع بسببها، ولو بُصِّروا وعُرِّفوا هذا سَنَةً بعد سَنَةٍ لأقلعوا عن ذلك وألغوه، لكن تزول رئاسة محبي البدع ومحييها، والله الموفق.
وقد كان الرؤساء من أهل الكتاب يمنعهم الإسلام خوف زوال رئاستهم، وفيهم نزل: ?فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ? [البقرة: 79]” [انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 105)].
تخصيص الصوم في رجب:
فتخصيص أيام من رجب بالصيام لم يثبت فيه شيء، وقد ثبت أن عمر -رضي الله عنه- كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام، ويقول: وما رجب؟ إن رجبًا كان يعظِّمه أهل الجاهلية، فلما كان الإسلام ترك. [مصنف ابن أبي شيبة (2/345)].
قال ابن حجر رحمه الله: “وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة: فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة”. [انظر: تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب (ص:8)].
وقال ابن تيمية: “وأما صوم رجب بخصوصه: فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات”. [الفتاوى(25 /290)].
وكونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء لا يعني أنه لا صيام تطوع فيه مما وردت النصوص عامة فيه وفي غيره، كالاثنين، والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم وإفطار آخر.
تخصيص العمرة في رجب:
قال ابن العطار: “ومما بلغني عن أهل مكة -زادها الله تشريفاً- اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً”. [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (6 /131)].
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاويه (6 /131):
“أما تخصيص بعض أيام رجب بأي شيء من الأعمال الزيارة وغيرها فلا أصل له، لما قرره الإمام أبو شامة في كتاب “البدع والحوادث” أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لا ينبغي، إذ لا فضل لأي وقت على وقت آخر إلا ما فضله الشرع بنوع من العبادة، أو فضل جميع أعمال البر فيه دون غيره، ولهذا أنكر العلماء تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار فيه” انتهى.
وقد أنكرت عائشة -رضي الله عنها- على من ظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رجب، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: “إن رسول الله اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، فقالت (أي عائشة): يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهِدُه، وما اعتمر في رجب قط” [رواه البخاري برقم:(1776)].
تخصيص الزكاة والصدقة في رجب:
اعتاد بعض أهل البلدان تخصيص رجب بإخراج الزكاة والصدقة، والصدقة مشروعة في كل وقت، واعتقاد فضيلتها في رجب بذاته اعتقاد خاطئ.
وقد قال ابن رجب عن ذلك: “ولا أصل لذلك في السُنّة، ولا عُرِف عن أحد من السلف”.
وقال ابن العطار: “وما يفعله الناس في هذه الأزمان من إخراج زكاة أموالهم في رجب دون غيره من الأزمان لا أصل له، بل حكم الشرع أنه يجب إخراج زكاة الأموال عند حولان حولها بشرطه سواء كان رجباً أو غيره”. [لطائف المعارف (ص:233)].
تخصيص الذبح في رجب:
الذبيحة يسمونها (العتيرة)، وقد كان أهل الجاهلية يذبحونها فأبطل الإسلام ذلك، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا عتيرة في الإسلام» [أخرجه أحمد(2 /229)].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا فرع ولا عتيرة» [أخرجه البخاري برقم:(5473)، ومسلم رقم:(1976)].
قال أبو عبيدة: “العتيرة هي الرجبية، ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب يتقربون بها لأصنامهم”. [فتح الباري لابن حجر(9/512)].
وقال ابن رجب: “ويشبه الذبح في رجب اتخاذه موسمًا وعيدًا كأكل الحلوى ونحوها”. [لطائف المعارف(ص:27)].
الحوادث في رجب:
قال ابن رجب: “رُوِيَ أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك..”. [لطائف المعارف(ص:233)].
الاحتفال في رجب:
اعتقد بعض الناس أن ليلة السابع والعشرين من رجب هي ليلة الإسراء والمعراج؛ مما أدى إلى عمل احتفالات عظيمة بهذه المناسبة، وهذا باطل من وجهين:
أ- عدم ثبوت وقوع الإسراء والمعراج في تلك الليلة المزعومة، بل الخلاف بين المؤرخين كبير في السَّنَة والشهر الذي وقع فيه، فكيف بذات الليلة؟!
ب- أنه لو ثبت أن وقوع الإسراء والمعراج كان في تلك الليلة بعينها لما جاز إحداث أعمال فيها لم يشرعها الله ولا رسوله، ولا شك أن الاحتفال بها عبادة، والعبادة لا تثبت إلا بنص، ولا نص حينئذٍ، فالاحتفال بها من المحدثات في الدين، فكيف إذا انضم إلى ذلك أوراد وأذكار مبتدعة، وفي بعضها شركيات وتوسل واستغاثة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا كله مما لا يجوز صرفه إلا لله تعالى وحده.
فتوى لابن باز رحمه الله:
السؤال: يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة منه فهل ذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب، وهكذا الاحتفال بليلة اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتفل بها، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه -رضي الله عنهم- ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها.
والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? [التوبة:100]، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [متفق عليه]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». [أخرجه مسلم في صحيحه]، ومعنى فهو رد، أي مردود على صاحبه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبه: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». [أخرجه مسلم].
فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملا بقول الله عز وجل: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة:2]، وقوله سبحانه: ?وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? [العصر:1-3]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» [أخرجه مسلم في صحيحه].
أما العمرة فلا بأس بها في رجب بدون نية التخصيص، واعتقاد أن لها فضل عن غيرها، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رجب، وكان السلف يعتمرون في رجب، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه: (اللطائف) عن عمر وابنه وعائشة -رضي الله عنهم- ونقل عن ابن سيرين أن السلف كانوا يفعلون ذلك. والله ولي التوفيق. [انظر فتاوى ابن باز المجلد الحادي عشر].
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.