شهر رمضان غنيمة المحتسبين
إن ما يغنمه المحتسب وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من الأجور العظيمة، والثواب الجزيل، والخير الكثير في الدنيا قبل الآخرة ليجعله كلما رأى منكراً أو علم بمعروف قد ُترك لا يقر له قرار، ولا تهدأ له نفس، بل يسارع ويبادر، ويبذل كل ما يملك من جهد لكي يغير ذلك المنكر، أو يأمر بذلك المعروف، وقد يجد ما يجد من الأمور التي تعسر عليه السير على هذا الطريق، ويلقى ما يلقى من الصعوبات التي قد تمنعه من تغيير المنكر، أو الأمر بالمعروف، فيعود وقد احتسب الأجر من الله، وإن لم ينجز المهمة التي كان يريد إنجازها، فقد يذهب وعينه تفيض من الدمع حزناً على استمرار بقاء المنكر، أو استمرار ترك المعروف، والله الكريم المنان يكتب له الأجر بالنية إن شاء الله، لكن المحتسب يحرص كل الحرص على أن يستغل كل فرصة تحقق له احتسابه، وتسهل له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هذا الباب ينظر المحتسب إلى الضيف الكريم شهر رمضان المبارك على أنه فرصة ذهبية للاحتساب، وغنيمة باردة للمحتسبين؛ لأن المحتسبين يعلمون علم اليقين ما جعل الله تعالى من أجور عظيمة للعمل الصالح في هذا الشهر الكريم، وأن من أجل الأعمال الصالحة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»(1)، يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه للحديث: “فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا نكَّره، والثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يتعين، ولا يتصور وقوعه نفلاً، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه»(2)“(3)، فقد ينشغل المحتسب عن بعض النوافل في هذا الشهر الكريم بهذا الفرض العظيم، وله بذلك الأجر والمثوبة، وقد يكون هذا هو الأولى كما أشار إلى ذلك النووي رحمه في كلامه السابق، وقد يجمع بين الخيرين فيسارع في الطاعات، ويسابق في القربات، من قراءة قرآن، وقيام وغير ذلك، ويشارك أيضاً بالاحتساب، وكل تعب أو نصب في سبيل الله فهو في ميزان الحسنات، والله لا يضيع أجر المحسنين، ?مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ? [التوبة:120].
وفي شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الطاعة والعبادة، والتوبة والرجوع إلى الله، والإقلاع عن المنكرات يوجد من يرتكب المنكرات، بل من يجاهر بها، ويوجد من يترك الواجبات التي قد تكون من أركان الدين، كالصلاة والزكاة، ومع تكرر هذه المنكرات كل عام في هذا الشهر المبارك لابد من محاربتها، والقضاء عليها، ولا يقال: إنها دائمة الحصول، وصعبة التغيير! فليس هذا القول بمبرر لترك الاحتساب، وتغيير المنكرات، بل من استغلال الفرص استغلال ما في شهر رمضان من الخيرات مما يعين على الاحتساب، ويسهل عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
بادر الفرصة واحذر فوتها *** فبلوغ العز في نيل الفرص
وابتدر مسعاك واعلم أن من *** بادر الصيد مع الفجر قنص
ومن خلال النظر في ما أكرمنا الله تعالى به في شهر رمضان نأتي على ما يعين المحتسب منها على احتسابه، ومن ذلك:
– ما تمنحه الطاعات في رمضان للمحتسب من قوة الإيمان مما يدفعه لتغيير المنكرات، والأمر بالمعروف أكثر مما كان عليه من قبل رمضان، فإنه من المعلوم أن القرب من الله تعالى -وهذا ما يكون في شهر رمضان- يزيد المؤمن شجاعة وهيبة بين الخلق، يقول ابن عباس رضي الله عنه: “إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق”(4)، فيروي المحتسب قلبه من الصيام والقيام، وقراءة القرآن بتدبر وخشوع، والصدقة والإحسان، وكل ذلك زاد عظيم للمحتسب ليس في رمضان فقط، بل طوال العام، بل طول عمره بإذن الله عز وجل.
– إن ما يحدث في رمضان من تغيرات عظيمة مما يجعله الله تبارك وتعالى رحمة وفضلاً لعباده وأوليائه من تفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وسلسلة الشياطين لمن أكبر الأسباب لتقليل المنكرات، وضعف أهلها، وقلة حيلتهم، وسبب لقوة المحتسبين، وتمكن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»(5)، يقول السيوطي رحمه الله: “فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذلك تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات”(6)، فالأصل في شهر رمضان أن المنكر يكون فيه أقل من غيره، وهذا كله مما يخفف حدة المنكر، ويضعف مرتكبه، ويقوي منكِرَه، والمغيرَ له.
– إن ما يحصل من المسلم في رمضان من إقبال على الله تعالى بالصلاة سواء صلاة الفرض أو النافلة هو من أكبر الأسباب لتقليل المنكر، وسهولة إزالته؛ فالصلاة تنهى صاحبها عن المنكرات، وتدعوه إلى فعل الطاعات، يقول المولى جل وعلا: ?إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ? [العنكبوت:45]، فلا يأتي المحتسب -في الغالب- إلا على نفس قد هذبتها الصلاة، وقومتها السجدات والركعات، فما أن تؤمر بالمعروف إلا وتأتيه، ولا تنهى عن منكر إلا وتقلع عنه، وهكذا تفعل الصلاة بصاحبها، يقول السعدي رحمه الله: “ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه (تنهى عن الفحشاء والمنكر)، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها”(7).
– إن ما يربي الصوم صاحبه عليه من مراقبة الله تعالى، وعدم الإفطار حتى تغرب الشمس لجدير بأن يكون رادعاً قوياً لترك الكثير من المنكرات الظاهرة، وإن فعلها فما أسهل أن يذكر بأن الله عز وجل الذي كان الصيام له، وترك المباحات من أجله يأمر بترك المنكرات جميعاً، إذ كيف نطيعه في جزء من حياتنا ونعصيه في الجزء الآخر؟! أليس الله تعالى هو ربنا في كل وقت وحين، وفي كل جزء من أجزاء حياتنا؟! ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? [الأنعام:162].
– إن حال الصائم في نهار رمضان لا يدعوه أبداً للمنكر، بل يهذبه ويربيه على ترك المنكرات، وعلى مفارقة المعاصي، فكم من الناس من كانت بداية توبته نهار رمضان، ثم استمر على ترك المنكر في ليله، ثم وفقه الله لترك المنكر طوال عمره، فالمحتسب عندما يجد ذلك الصائم على منكر معين في نهار رمضان فإن من السهولة بمكان أن ينكر عليه.
لأن الصيام قد أثمر ثمار عظيمة منها:
1- الصائم قد ضيق بصيامه على الشيطان؛ فيكثر من فعل الطاعات، ويترك بسبب ذلك المنكرات، وكلما كان الصوم كاملاً كان دفعه للشيطان قوياً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه بعد أن ذكر حديث: “إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم”(8)، يقول رحمه الله: “ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين…، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»(9)، فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم؛ فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل إنهم قتلوا، ولا ماتوا بل قال: (صفدت)، والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه؛ فمن كان صومه كاملاً دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه دفع الصوم الناقص”(10).
2- والصائم يمنعه صيامه من التلفظ بالألفاظ السيئة، بل يكون أثناء صيامه في حالة عجيبة من الأدب الرفيع الذي يمنعه من الاستمرار في المنكر، أو شتم وإيذاء من ينكر عليه، “إذا أصبح أحدكم يوما صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه، أو قاتله؛ فليقل: إني صائم، إني صائم”(11)، فلو كان هذا الخلق الحسن يعلمه الصيام أن يتخلق به مع من يسبه أو يشتمه أو يؤذيه، فكيف بمن ينصحه، أو يرشده إلى الخير، أو من يريد إنقاذه من النار، فيحتسب عليه بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن.
3- وإذا كان الصيام يمنع صاحبه من فعل كثير من المنكرات؛ لأن هذا لازم لصيامه، وإلا لصار صيامه أجوفاً بلا روح، فلا يقع في منكر إلا ويبرز أمامه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبين فيه معنىً عظيماً من معاني الصيام، يقول عليه الصلاة والسلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(12)، ومعنى قول الزور أي “قول الكفر وشهادة الزور، والافتراء والغيبة، والبهتان والقذف، والسب والشتم واللعن، وأمثالها مما يجب على الإنسان اجتنابها، ويحرم عليه ارتكابها، (والعمل) بالنصب (به) أي بالزور يعني الفواحش من الأعمال لأنها في الإثم كالزور، وقال الطيبي: هو العمل بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله عنه”(13)، فإذا وقع الصائم في منكر ما، وأراد المحتسب تغييره، فما أسهل ذلك؛ لأنه يغير منكراً وقع من صائم يعلم أن حقيقة الصوم هي ترك المنكرات، وليست لله حاجة في صوم من جعل صومه عرضة للكلام المحرم، أو الفواحش من الأفعال، وهذا الحديث عظيم في إغلاق أبواب كثيرة من أبواب الشر على الصائم.
وختاماً فهنيئاً للمحتسبين دخول هذا الشهر العظيم، ومبارك عليهم حلول شهر يغنمون فيه الأجور العظيمة، والثواب الجزيل، ويقدمون لأنفسهم من الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يكون لهم ذخراً عند الله تعالى، وما ينصرون به دينه.
اللهم اجعلنا في شهر رمضان من المسارعين في الخيرات، الناجين من النار، الفائزين بجنة الرضوان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
____________________________________
(1) رواه مسلم برقم (720).
(2) رواه البخاري برقم (6502).
(3) شرح النووي على مسلم (7/ 92).
(4) الداء والدواء لابن القيم ص (54).
(5) رواه البخاري برقم (3277)، واللفظ له، ومسلم برقم (1079).
(6) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطي (1/228).
(7) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي (1/632).
(8) رواه البخاري برقم (1933)، ومسلم برقم (2174).
(9) رواه البخاري برقم (3103)، ومسلم برقم (1079)، واللفظ له.
(10) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/246).
(11) رواه البخاري برقم (1795)، ومسلم برقم (1151).
(12) رواه البخاري برقم (1804).
(13) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري (6/479).