على المحتسب التثبت والتأني قبل الإنكار
إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج؛ ليتم تنفيذه إلى دراسة، وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والأولويات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويل الخطط، والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في الأخذ بالأسباب وبذل الوسع في ذلك؛ لأن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، والأهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب الأسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم لأي فكرة أو مشروع إسلامي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط.
فعلى الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، التأكد من كل أمر والتثبت بشأنه، وعدم التسرع والعجلة، والحرص على الرفق والأناة بالناس وملاطفتهم حال أمرهم أو نهيهم؛ فإن في ذلك من الخير ما لا يحصى، وهو مما لا بد منه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي دعوة الناس إلى الخير.
قال تعالى: ?لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ? [القيامة:16] والتبين والتثبت صفة من صفات أهل اليقين من المؤمنين، يقول الإمام الطبري -رحمه الله-: عند قوله تعالى: ?قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ? [سورة البقرة:118].
“وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة، فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك، ليزول شكه، ويعلم حقيقة الأمر(1)“.
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، كما ذم الكسل والتباطؤ، ونهى عنه، ومدح الأناة والتثبت فيها.
إن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان، ولا يكفي مجرد علم الإنسان، بل لا بد له _مع العلم_ من هذه الأمور.
قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?. [الحجرات:6].
قرأ الجمهور ?فَتَبَيَّنُوا? من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: ?فَتَثَبَّتُوا?، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر”(2).
والدعاة إلى الله تعالى أولى بامتثال أمر الله عز وجل بالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق الجيد من مصدرها قبل الحكم عليها.
والداعية الحصيف إذا أبصر العاقبة أمن الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له ويواجهها، فإذا كانت حقا وصوابا مضى، وإذا كانت غيا، وضلالا وظنا خاطئًا وقف حتى يتضح له الحق والصواب.
والواقع المشاهد أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد في المجتمع، قال تعالى: ?وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا? [الإسراء:11].
وإليك هذه الكلمة الحكيمة الرائعة التي رقمتها يراعة العلامة الشيخ محمود شاكر -رحمه الله تعالى- قال: “رُبَّ رجلٍ واسعِ العلم، بحرٍ لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلَّل الغاية، وإنما يَعْرِض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل. وإن أحدنا لَيقْدِم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه؛ فينقضه نقض الغزل، ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرؤى فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغيره عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر، ثم يغالي، ثم يعنف، ثم يستكبر، ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه”(3).
فالعجلة وعدم التثبت والتأني والتبصر أو التباطؤ والتقاعس، كل ذلك يؤدي إلى كثير من الأضرار والمفاسد، والمحتسب أولى الناس بالابتعاد عن ذلك كله، فمقتضى التثبت والتأني هو أن يعطي كل شيء حقه، ولا يعجله عن وقته، ولا يؤخره عنه، فالأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر.
ولعظم أمر التثبت أمر الله به حتى في جهاد الكفار في سبيل الله. قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا? [النساء:94].
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ?وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا? قال:” كان رجل في غُنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غُنيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: ?عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? تلك الغُنيمة.”(4).
وعن أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، قال فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: «يا أبا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم»(5).
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تثبتا وأناة في الأمور، فكان صلى الله عليه وسلم لا يقاتل أحدا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- “أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم…”(6).
ومن فقه قصة الخضر مع موسى عليه السلام، وقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام وغيرهما من التوجيهات القرآنية والنبوية، استنبط العلماء أحكاماً في الإنكار، من التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار، فها هو القاضي أبو يعلى يذكر في الأحكام السلطانية، ما يتعلق بالمحتسب فيقول: “.. وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار، وإن كان الوقوف في مكان خال فخلوُّ المكان ريبة، فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم، وليقل: “إذا كانت محرم فصنها عن موقف الريب، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل” وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار”(7).
وقال ابن حبان -رحمه الله-: “الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُّم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.
والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلةَ أمَّ الندامات”.(8)
وذكر ابن حبان بسنده عن عمر بن حبيب قال: “كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان(9)“.
وقال ابن الجوزي-رحمه الله تعالى-: “ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أمر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر؛ فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور.
وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.
وأشد الناس تفريطاً من عمل بما ورده في واقعة من غير تثبت واستشارة؛ خصوصاً فيما يوجب الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم”(10).
وقال: “فألله ألله! التثبت التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها؛ خصوصاً الغضب المثير للخصومة”.
فإن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان.
_______________________
(1) تفسير الطبري (1/ 515). وانظر: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة. د/ حمود بن أحمد الرحيلي ص (56).
(2) انظر: فتح القدير للعلامة الشوكاني (5/ 60)، وانظر: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص (57).
(3) انظر: جمهرة مقالات محمود شاكر 1/258 إعداد د. عادل سليمان جمال، وانظر: الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل. من إعداد موقع “الإسلام اليوم”.
(4) صحيح البخاري رقم (4591)، كتاب التفسير، سورة النساء، باب: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا.
(5)صحيح البخاري رقم 4269، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة إلى الحرقات، وصحيح مسلم رقم 159. كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.
(6) صحيح البخاري كتاب الأذان رقم (610) باب ما يحقن بالآذان من الدماء، وصحيح مسلم رقم (382) كتاب الصلاة باب الإمساك عن الإغارة إلى قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان.
(7) انظر: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة. د/ حمود بن أحمد الرحيلي ص (61).
(8) روضة العقلاء ص(216).
(9) انظر: المرجع السابق.
(10) صيد الخاطر ص(605).