فعل المحتسب وما يترتب عليه من الضمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
المحتسب مأمور بإزالة المنكر، فله أن يحتسب على كل من اقترف شيئاً من المعاصي، وأن يعاقبه عليها بما يراه مناسباً، يقول القاضي عياض: “حـق المغير أن يغيره بكـل وجـه أمكنه زواله به، قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوب، ويرده إلى أصحابه بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه”(1).
وقد جاء في حديث القرام الساتر الذي كان في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فيه صور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتلف القرام، وقسمها وسادتين توطآن، وهذا حديث عظيم رواه الإمام البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي، وجعله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من الأصول في هذا الباب.
وكما جاء في حديث أبي الهياج الأسدي -رضي الله عنه- قال: قال لي علي بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته»(2) وفي رواية: «ولا صورة إلا طمستها»(3).
إلا أنه قد يحدث أثناء ذلك تجاوز في العقوبة، فيتسبب عنه تلف في المال أو في البدن، فهل يضمن المحتسب شيئاً من ذلك؟
اختلف الفقهاء في حكم التجاوز في إتلاف المال على الوجه الآتي:
ذهب الحنفية وأحمد في إحدى الروايات عنه إلى عدم الضمان مطلقاً(4), وقال الحنابلة: لا ضمان في إتلاف خمر وخنزير، وكذا لو كسر صليباً أو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً(5)؛ للنهي عن بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام؛ ولحديث: «بعثت بمحق القينات والمعازف»(6) وقال صاحب المغني: وفي كسر آنية الخمر روايتان.
وذهب المالكية والشافعية، وهي الرواية الأخرى عند الحنابلة إلى الضمان إذا تجاوز المحتسب القدر المحتاج إليه، قال صاحب تحفة الناظر من المالكية: إذا لم يقع التمكن من إراقة الخمر إلا بكسر أنابيبها، وتحريق وعائها فلا ضمان على من فعل ذلك على الوجه المتقدم في هذا النوع، وإن أمكن زوال عينها مع بقاء الوعاء سليماً، ولم يخف الفاعل مضايقة في الزمان، ولا في المكان بتغلب فاعله مع انتفاء هذه الموانع ضمن قيمته، إن كان لأمثاله قيمة، وهو ينتفع به في غير الخمر(7).
وقال الغزالي: وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر، فكسرها لزمه الضمان(8).
وقال أيضاً: الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه، وله أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمر زجراً، وقد فعل ذلك في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأكيداً للزجر، ولم يثبت نسخه، ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة، فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك، وإذا كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية(9).
وقال في النصاب: “إذا كسر المحتسب الملاهي أو دنان الخمر أو شق زقها لا يضمن، وإذا فعل ذلك غير المحتسب ذكر في الكفاية لا يضمن أيضاً مطلقاً عند أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وعليه الفتوى؛ قطعاً لمادة المعصية، وشفاء لصدور الصلحاء، وعليه عمل التابعين، لعل فيه روايتين عن الإمام، وإلا فظاهره مخالف لما اشتهر عنه من ضمان ما لا يصلح للهو(10).
والراجح -والله أعلم- أن المنكِر لا يضمن ما أتلفه من المال، يقول ابن القيم -رحمه الله-: “لا ضمان في كسـر أواني الخمر، وشـق زقاقـه”(11).
ويقول الكاساني: “لا يجب الضمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم، سواء كان المتلف مسلماً أو ذمياً لسقوط تقوم الخمر والخنزير في حق المسلم، ولو أتلف مسلم أو ذمي خمراً أو خنزيراً لذمي يضمن عندنا خلافاً للشافعي”(12).
وقال ابن قدامة: “وإن كسر صليباً ِأو مزماراً أو طنبوراً أو صنماً لم يضمنه(13).
وقد ذكر في عيون المسائل من أراق خمور المسلمين، وكسر دنانهم، وشق زقاقهم، إذا ظهر فيما بين المسلمين بطريق الأمر بالمعروف فلا ضمان عليه(14).
وقال في النصاب: “وإذا اطلع المحتسب على خمر المسلم وأراقها لا ضمان عليه في إراقتها، أما الإراقة فلأنه نهي عن المنكر، وأما عدم الضمان فلأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل.
وإن أراق خمر ذمي فإن كان غير المحتسب فهو على وجهين: إن أراقها بعدما اشتراها أو قبل ما اشتراها, فإن أراق مسلم خمر ذمي بعدما اشتراها فلا ضمان عليه، وإن لم يكن المريق محتسباً؛ لأنه لما باعها منه فقد سلطه على إتلافها، ومن سلط غيره على إتلاف ماله فلا ضمان عليه في إتلاف, كمن قتل دابة غيره بأمره، أو قطع يد عبده بإذنه، ولا يجب عليه الثمن أيضاً؛ لأن المسلم لا يؤخذ بثمن الخمر، وإن أتلفها بغير الشراء ضمن؛ لأن الخمر لهم كالخل لنا، ومن أتلف خل المسلم ضمن، فكذا إذا أتلف خمر الذمي، وقال الشافعي: لا يضمن؛ لأن الخمر ليست بمال في دار الإسلام، وجوابه: لا يضمن لأنه مجتهد فيه، فله أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده، وتمامه في باب الاحتساب على أهل الذمة(15). إلا أنه يشترط لعدم الضمان شروط، منها:
– ألا يتجاوز الحد المشروع، فإن كان المنكر من المنكرات التي يمكن إتلاف بعضها، وترك البعض الآخر، فمثلاً: إذا كان فيه كتاب فيه فصول جيدة، ولكن فيه فصل خبيث، فتمزق أوراق هذا الفصل، ويترك الباقي، وكذلك الحال لو كان فيه مجلة فيها مقالات طيبة، ولكن فيها صورة خليعة، فتمزق هذه الصورة، ويترك الباقي، ولكن ينبغي أن يعلم إذا كانت المصلحة تقتضي إتلاف الذي جمع بين المنكر والمعروف فإنه يتلف ولا ضمان(16).
يقول الشافعي -رحمه الله-: “إن كان ذلك إذا فصل يصل لنفع مباح، وإذا كسر لم يصلح لنفع مباح لزمه ما بين قيمته منفصلاً ومكسوراً؛ لأنه أتلف بالكسر ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه ضمانه”(17).
– ألا يكون من الأمور التي يجوز تغيير المنكر فيها مع بقاء عينها: وذلك مثل: القرام الساتر -الذي سبق ذكره- الذي كان في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فيه صور، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قسمها وسادتين توطآن، وينتفع بهما.
ومع تطور الحياة والحضارة في الأمة الإسلامية، تفرعت قضايا أخرى، وتكلم الفقهاء فيها، فمثلاً: قالوا: ما حكم اللبن المغشوش هل يدخل فيما يتلف؟ فقال بعض العلماء: يتلف، واستدلوا على ذلك بأن عمر -رضي الله عنه- أراق اللبن المغشوش، فمن عمل المحتسب أن يمر بالأسواق، فإذا رأى لبناً مغشوشاً يتلفه، وقال بعض الفقهاء: لا يتلف، وإنما يتصدق به، وليس هناك كبير خلاف -إن شاء الله- لو نظرنا من جهتين:
من جهة أن هذا اللبن المغشوش لا يباع، ويجب أن يعاقب صاحبه بإتلافه، وهذا ما نظر إليه من قال: يراق، وقال: هذا من التعزيرات المالية، وهي حق، ولها أصل شرعي في عدة أحاديث ليس هذا مقام التفصيل فيها، وقال: هذا من إتلاف عين المنكر، وهذا منكر يتلف بعينه، عقوبة لصاحبه حتى لا يعود إلى الغش.
والذي قال لا يراق نظر إلى أنه لبن قد يشرب، وبعض الناس قبل أن يشرب اللبن يضع عليه ماء، فقال: إذن لا يراق وإنما يتصدق به تحت نظر ولاية الحسبة.
ولو أن ثوباً نسج من الحرير هل يتلف أم يتصدق به؟ الأرجح أن مثل هذا يتلف، والخمور تتلف مع أوعيتها، وآلات اللهو هل يقول قائل: إنه يمكن أن تغير ويستفاد منها أعواد خشب آخر؟ فنقول: هذا قد قيل في بعض المذاهب، والأولى والأرجح أن تتلف، إلا أن تؤخذ وقوداً، أو توضع في نار للتدفئة.
والخلاصة: أن أدوات المنكرات الأصل إتلافها، إلا أن ذلك يتوقف على وجود المصلحة الراجحة، وعدم وجود مفسدة أكبر من المصلحة.
أما كون الأصل إتلاف الأشياء العينية المحرمة, فكما جاء في حديث أبي الهياج الأسدي -رضي الله عنه- قال: قال لي علي بن أبي طالب: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته»(18) وفي رواية: «ولا صورة إلا طمستها»(19).
أما كون الإتلاف متعلقًا بالمصلحة والمفسدة فكما قال في النصاب: “مسألة: بعض السؤال يجلسون على القوارع ويعرضون ثياباً مصورة قبور بعض المتبركين وبلادهم ويضربون المزمار عند ذلك, ويجتمع عليهم بعض الجهلة والسفهاء فماذا يصنع بهم؟
الجواب: ينهون عن ذلك, وإن رأى المحتسب المصلحة في تمزيق ذلك الثوب”(20).
– أما الشق الآخر: وهو الضمان في تلف النفوس بسبب ما يقوم به المحتسب, فإن للفقهاء أقوالاً في ذلك:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن من مات من التعزير لم يجب ضمانه؛ لأنها عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن من تلف بها كالحد؛ ولأنه فعل ما فعل بأمر الشرع، وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة؛ ولأنه استوفى حق الله تعالى بأمره، فصار كأن الله أماته من غير واسطة، فلا يجب الضمان(21).
أما المالكية فقد قال صاحب التبصرة: فإن عزر الحاكم أحداً فمات أو سرى ذلك إلى النفس فعلى العاقلة، وكذلك تحمل العاقلة الثلث فأكثر، وفي عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: إذا عزر الإمام إنساناً فمات في التعزير لم يضمن الإمام شيئاً لا دية ولا كفارة(22).
وذهب المحققون من فقهائهم إلى أن عدم الضمان مبني على ظن السلامة، فإن شك فيها ضمن ما سرى على نفس أو عضو، وإن ظن عدم السلامة فالقصاص(23).
والشافعي يرى التضمين في التعزير إذا حصل به هلاك؛ لأنه مشروط بسلامة العاقبة(24) ولا يعفى من التعزير إلا أن يكون الهلاك بنحو توبيخ بكلام، وصفع فلا شيء فيه، ولا ضمان على من عزر غيره بإذنه، ولا على من عزره ممتنعاً من أداء حق عليه، وإن أدى إلى قتله(25) قال الرملي: للحاكم تعزير الممتنع من أداء دين عليه بعد طلب مستحقه بحبس أو ضرب، وإن زاد على التعزير, بل وإن أدى إلى موته؛ لأنه بحق ولا ضمان عليه فيه(26).
ولا يكون التعزير بما يقتل غالباً، فإن ضربه ضرباً يقتل غالباً، أو بما يقتل غالباً، أو قصد قتله وجب القصاص، أو دية مغلظة في ماله(27) (28). والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
1- شرح صحيح مسلم (1- 51).
2- أخرجه مسلم (2/ 666- 93) (969).
3- أخرجه مسلم (2/ 667- 969).
4- نصاب الاحتساب (ص194).
5- المصدر السابق (ص194، 195) والآداب الشرعية (1/ 220) وغذاء الألباب شرح منظومة الآداب (1/ 208-211) والمغني (5/ 248 – 250).
6- أخرجه أحمد (5/ 257 – ط الميمنية، من حديث أبي أمامة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 69 – ط القدسي): رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد وهو ضعيف.
7- تحفة الناظر وغنية الذاكر (12، 13) والمغني (5/ 250).
8- الإحياء (2/ 422، 423).
9- الإحياء (2/ 424).
10- نصاب الاحتساب (1/ 22).
11- الطرق الحكمية في السياسية الشرعية (ص256).
12- بدائع الصنائع (7-176).
13- المغني وشرح الكبير لأبن قدامة، تحقيق د: عبد الله التركي، نشر وزارة الشئون الإسلامية، طبع عالم الكتب، الطبعة الثالثة، 1417هـ.
14- البحر الرائق (8/ 223).
15- نصاب الاحتساب (ج:1ص:300).
16- انظر: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة – تأليف د. عبد العزيز المسعود، دار الحرمين للطباعة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1415هـ، (ن. ش).
17- المغني (ج 5/ ص445).
18- أخرجه مسلم (2/ 666- 93) (969).
19- أخرجه مسلم (2/ 667- 969).
20- نصاب الاحتساب (1/ 22).
21- شرح فتح القدير (5/2،3) وحاشية رد المحتار (4/ 78 -79) والمغني (9/ 160) والأشباه والنظائر لابن نجيم (ص289) كتاب الجنايات.
22- تبصرة الحكام لابن فرحون (2/ 301 – 302).
23- الشرح الصغير (4/ 505).
24- حاشية القليوبي على المنهاج (4/ 208).
25- حاشية القليوبي على المنهاج (4/ 286).
26- منهاج الطالبين (4/ 208) وانظر حاشية القليوبي عليه.
27- المغني (9/ 145، 146) والشرح الصغير (4/ 505) والخرشي على خليل (7/ 110).
28- الموسوعة الفقهية الكويتية (17/ 266) بتصرف.