من آداب الحسبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا جدال بين أهل الإيمان، ونفوس أهل التقوى، والقلوب الغيورة على دين الله حول أهمية الحسبة في المجتمع المسلم؛ فخيرية هذه الأمة لا تكتسب إلا من خلال تعزيز هذه الشعيرة ورعايتها، وأداء حقوقها, فقد قال تعالى: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ? [آل عمران:110].
وبطبيعة الحال أن أي عمل بحاجة إلى مبادئ وقواعد وأخلاقيات حتى تتحقق له الأهداف, ويعم الخير, ويستفيد الناس من نفحات العمل المبارك، ولذلك فقد أحببت أن أشير إلى أن الحسبة لها أخلاقياتها التي يجب على المحتسبين التنبه لها، والالتزام بآدابها، وسأسرد هنا بعضاً من هذه الأخلاقيات والآداب، وأسأل الله أن ينفعنا بها جميعاً.
أولاً: الرحمة:
تأتي في طليعة هذه الأخلاقيات الرحمة بالناس، ولين الجانب، وخفض الجناح، فقد قال تعالى: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ? [آل عمران:159]، فهذه الآية تضع لنا قاعدة هامة لمن أراد كسب قلوب المدعوين, وبينت عنصراً هاماً لنجاح الاحتساب، وهو لين الجانب، ومشاعر الرحمة التي ينبغي أن تسكن في قلوب الداعاة والمحتسبين.
وعلى العكس من ذلك؛ فإن القلب إذا خلا من الرحمة، وامتلأ بالقسوة، فإن الناس سينفرون منه، وينفضون من حوله، وبذلك يخسر المحتسب الجمهور، ولا يكن لنشاطه تأثير في من حوله, ولا تمتد كلمة الخير لتصل إلى الجميع.
ثانياً: إخلاص النصيحة لله تعالى:
لأن النصيحة حق للمؤمن على المؤمن, فيجب على الناصح أن يتجرد من الهوى، والأغراض الشخصية، والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل, وتورث الشحناء، وفساد ذات البين.
ثالثاً: البلاغة والحكمة، واختيار الألفاظ المناسبة:
إن من يتأمل القرآن الكريم سيجد النص القرآني يشير إلى أهمية اللغة، والبلاغة، واختيار الألفاظ المناسبة لدى الدعاة والمحتسبين, وقد قال تعالى عن نبيه داوود: ?وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ? [ص:20]، ويقول تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?. [النحل:125].
رابعاً: أن يركز الناصح على سلوك المنصوح لا على ذاته:
وقدوتنا في ذلك حبيبنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يصرح باسم المنصوح البتة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك: «ما بال رجال يؤذونني في أهلي..»، وكان يقول وهو على المنبر: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا, أو يفعلون كذا وكذا» فلم يكن صلى الله عليه وسلم يسميهم، ولا يشهر بهم.
وهذا المنهج النبوي ما هو إلا تصحيح للخطأ لا تجريح بالمخطئ وتشهير به، وهل هناك من فائدة تذكر في التركيز على المنصوح؟ لا. بل إن كفة السلبيات في ذلك سترجح على كفة الإيجابيات إن وجدت.
لعلنا إخواني اليوم نفتقد لهذه المنهجية، وأعتقد أن السبب الرئيس في ذلك هو نية الناصح في نصحه! فلو كانت النية معالجة الخطأ ليس إلا، لكان الأحرى به أن يقتدي بمنهج رسول الله في ذلك، أما أن تكون النية إبراز العضلات أو المكابرة على حساب التجريح بالمخطئ والإساءة له، فهذا محض أنانية، بل هو الخطأ بعينه الذي لا بد من تصحيحه.
خامساً: مراعاة الفروق الفردية بين الناس:
وذلك بأن يقدر الناصح لكل إنسان قدره؛ بأن يراعى سنَّ المنصوح ومستواه الاجتماعي والثقافي والنفسي؛ فاختلاف طبائع الناس ومداركهم يترتب عليه ألا نسوّى بين العالم والجاهل أثناء إسداء النصيحة، فالجاهل يحتاج إلى تعليم، وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان، والغافل يحتاج إلى تذكير، والمصرّ يحتاج إلى وعظ.
بل إن الشدة على المنصوح كثيراً ما تكون نتائجها سلبية؛ فتحمل المنصوح على التمرد والإصرار على المعصية، بل والتعصب لها، والنفور من الخير وأهله, وهذا بحد ذاته هدم لا بناء، وما أكثر الهادمين في المجتمع, ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وعلى النقيض من ذلك صورة مشرقة لمن ترفق بالمنصوح، واستطاع أن يحدثه باللغة التي يفهمها، والتي تتناسب مع سنه ومستواه الاجتماعي والثقافي؛ فهنا تنقلب المعادلة من الهدم إلى البناء؛ فالجاهل عند نفسه لا يرى أنه مخطئ، ولسان حاله يقول لمن يُنكر عليه: أفلا علمتني قبل أن تهاجمني؟
وقصة الأعرابي الذي بال في المسجد معروفة، وقد أمر النبي أصحابه أن يتركوه وقال: «لا تقطعوا عليه بوله» [أصله في الصحيحين].
وأورد هنا موقفاً رائعاً روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما عندما مرَّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن الوضوء؛ فاتفقا على أن ينصحا الرجل ويعلماه كيف يتوضأ، ووقفا بجواره، وقالا له: “يا عم! انظر أَيُّنا أحسن وضوءًا، ثم توضأ كل منهما، فإذا بالرجل يرى أنهما يحسنان الوضوء؛ فعلم أنه هو الذي لا يحسنه؛ فشكرهما على ما قدماه له من نُصح دون تجريح” انظروا هنا مراعاة سن الرجل واحترام شيخوخته.
سادساً: اختيار الوقت المناسب:
وذلك لأن المنصوح قد لا يكون مهيأ للنصيحة في كل وقت, يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “كان رسول الله يتخوّلنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا” [متفقٌ عليه]، ولا شك أن للقلوب إقبالاً وإدبارًا.
سابعاً: تجنب النصيحة في العلن:
من المسلَّم به أن النصيحة في العلن يمقتها الناس؛ لأن الناس يكرهون أن تبرز عيوبهم أمام الغير.. يستوي في ذلك برهم وفاجرهم, مسلمهم وكافرهم، ولكن أخذ الفرد ونصحه على انفراد مع ابتسامة صادقة ترتسم على وجه الناصح يغلفها رفق واحترام للمنصوح, وكلمات صادقة تخرج من القلب إلى القلب, كل ذلك كفيل بتقبل المنصوح للنصيحة، ويعبر الإمام الشافعي رحمه الله عن ذلك بقوله:
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي *** وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي *** فَلاَ تَــجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طـــــاعة
ثامناً: ألا ينصح الناصح من برج عاجي عجباً بنفسه واحتقاراً لغيره:
وذلك عندما يتعامل الناصح مع الناس بتكبر وتعالي, وأن يجعل في نصحه نغمة استعلاء واحتقار لغيره، يقول الإمام الخطابي: “قدم عبد الله بن المبارك على خراسان فقصد رجلاً مشهوراً بالزهد والورع؛ فانطلق إليه ليزوره؛ فلما دخل عليه عبد الله لم يلتفت إليه الرجل، ونظر ولم يأبه به، فخرج عبد الله بن المبارك فانطلق إليه بعض الناس، وقالوا له: ألا تعرفه؟ فقال: لا. من هذا؟ فقالوا: هذا أمير المؤمنين في الحديث.. هذا عبد الله بن المبارك، فخرج الرجل وراءه مسرعاً وأمسكه بيده، وقال له: يا أبا عبد الرحمن اعذرني وعظني، فقال له ابن المبارك: يا أخي! إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد إلا ورأيت في نفسك أنه أفضل منك”. ثم سأل عنه ابن المبارك فإذا هو حائك.
لقد وجد ابن المبارك في هذا المتزهد تكبراً وتعالياً؛ فأعطاه هذه النصيحة العظيمة لتكون الدواء الشافي لما يشعر به من استعلاء وعجب بالنفس.
وكم نجد من بعض المصلحين الناصحين في مجتمعاتنا المسلمة من يتعاملون مع الناس تعامل الحائك الزاهد مع ابن المبارك، فينظرون إلى أنفسهم نظرة ملائكية تغلفها ثقة كبيرة في النفس، وكأنهم قد منحوا عصمة الأنبياء, وفي المقابل ينظرون لسائر خلق الله على أنهم خطيئة تمشي على الأرض؛ فيا ليتهم قرءوا هذه الآية وتدبروا ما فيها من معان عظيمة: ?وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ? [لقمان:18].
عافانا الله وإياكم من فتنة العجب بالنفس، وأعاننا على بذل النصح للمسلمين بالطريقة التي ترضيه عنا، وتحقق صلاح الإسلام وأهله وجعلنا من الهداة المهتدين غير الضالين ولا المضلين.
هذا وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.