الرقية الشرعية شأنها عظيم ونفعها كبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عنها -كما في الصحيح-: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) فهنيئاً لمن آنس من نفسه نفعا في رقية إخوانه فاحتسب الأجر، واستشعر الفضل، وتجرد من حظوظ الدنيا، وتجاوزات الشريعة، فكانت رقيته سببا في شفاء مريض، أو رفعا لمعاناة مبتلى، وهم بحمد الله موجودون.
إن المتصدر للرقية الشرعية اليوم عدد كثير، لكن قلَّ فيهم المتجرد من حظوظ الدنيا، السالم من التجاوزات الشرعية!!
وتتمثل هذه التجاوزات في عدة أمور، منها:
-المبالغة العظيمة في استنزاف أموال المرضى باشتراط مبالغ كبيرة، وجلسات متعددة محددة السعر، وقد وقفت على حالة أحد المرضى بلغت تكلفة جلساته عند الراقي ما يزيد على سبعين ألف ريال!!!.
وصرح أحد الرقاة أن دخله اليومي من الرقية الشرعية ربما زاد على ثلاثين ألف ريال!!!.
وهو ما جعل البعض منهم يتفرغ للرقية ويتخذها حرفة وتجارة!!.
نعم لا بأس أن يأخذ على رقيته أجرا، وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) لكن الشأن كل الشأن أن يبالغ في ذلك بحيل متعددة، وأساليب متنوعة، فهذه رقية مركزة، وتلك مطولة، وأخرى انفرادية، ورابعة معها شيء من وصفة علاجية، تُشترى من غيره بعشر ثمنها عنده!!!.
-التساهل في رقية النساء، كرقية المرأة بخلوة، أو مس شيء من جسدها، وربما بالغ بعضهم فتجاوزت يده إلى أماكن مغلظة من جسدها، وقد ينتج عن ذلك تحرش وفتنة ووقوع في الرذيلة، وعند مراكز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخبر اليقين.
-الرقية الجماعية، وهذه مع أنه لا أصل لها ولا دليل عليها، فإنه قد ينتج عنها مفاسد كبيرة، فتجعل الصحيح سقيما، فكم من مريض تلبس به الجان وهو سليم منهم، بسبب ما انتابه من الخوف والهلع عندما سمع صرخات المصابين، ورأى سقوط المصروعين أمامه، وربما أصيب بمرض أعظم من مرضه الذي جاء لعلاجه، فقد يصاب أحدهم بالاكتئاب، والوساوس، ونحوها.
-التطبيقات والممارسات المحرمة، فبعض الرقاة رغبة منه في تطوير الرقية!!! أدخل فيها علوما أخرى -تلقفها عبر دورات وبرامج مختلفه- قد تكون أصولها مستمدة من ديانات وثنية، وفلسفات شرقية، لا تمت إلى شرع نبينا بصلة، بل لا يخلو بعضها من الشرك واستخدام الشياطين، شعروا بذلك أم لم يشعروا، وربما حاول البعض أسلمة بعض ما تعلمه واستمده من تلك الفلسفات الشرقية، كما فعلوا مع ما يُسمى بـ(فلسفة الطاقة الكونية)، والتي يزعم أصحابها أن لها قدرة خفية شافية، ولذا كان من أسمائها: (قوة الشفاء)، وحقيقة أمرها لا تنفك عن التصور الشرقي للوجود ونشأته، القائم على إنكار الخالق، والقول بالفيض والصدور، ووحدة الوجود، كل ذلك وغيره يروج تحت مسمى (الطب البديل) أو (العلم التجريبي).
-وقد يستخدم أحدهم وسائل مضرة ربما تسببت في وفاة المريض، والصحف اليومية تطالعنا بين الفينة والأخرى بشيء من ذلك.
-حِرْصُ بعض الرقاة هداهم الله على الشهرة والظهور، يظهر ذلك في إعلانهم عن أنفسهم، والدعاية لرقيتهم، عبر وسائل متعددة، وقد يصاحب ذلك تِعداد منجزاتهم!!! والحالات المستعصية التي تم علاجها على أيديهم!!!…
-إيهام الناس والتلبيس عليهم وزرع الوساوس والأوهام في نفوسهم، كالجزم بأنهم مصابون بالعين، أو السحر، أو نحو ذلك.
ومن طريف ما يذكر في هذا السياق -وهو مثال للعبث- ما نشرته إحدى الصحف الالكترونية بتاريخ 16/7/1434هـ. قول أحد الرقاة عن بعض اللاعبين مشيرا إلى إصابتهم بالعين: “لاحظت في الآونة الأخيرة انخفاض مستويات اللاعبين في الأندية والمنتخبات، وأن بعض اللاعبين عند بدايته يكون مستواه لافتاً، وفجأة يختفي بقوة، فهؤلاء اللاعبون مصابون بالعين، ومن أمثلة هؤلاء اللاعبين …، وأسماء كثيرة” وأضاف: “من المؤكد أن هؤلاء يحتاجون وغيرهم من اللاعبين إلى تحصين خاص وبرنامج متكامل، قمت بإعداده لهم، وهو عبارة عن برنامج تحصيني متكامل للاعبين في معيشتهم وحياتهم اليومية قبل المباراة وبعد المباراة، من أذكار وأدعية وشراب خاص أعددته خصيصاً لهم من منطلق الآية الكريمة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}، فبعض الناس يفهم الآية على أنها قاصرة فقط على الجهاد، ولكنها شاملة للقوة، وتدعو إلى استنباط القوة الحسية والمعنوية والجهادية والرياضية”.
وقال: “أنا مستعد للقراءة على أي لاعب في الأندية والمنتخبات، وأن أتعاون مع أي نادٍ، وأجلس مع اللاعبين والإداريين، وأقدم لهم هذا البرنامج الذي يمكن أن يطبقوه قبل المباراة بيوم كامل، كما أنني على استعداد لمقابلة الأمير …. ليتبنى هذا المشروع رغبة مني في أن أصل بالرياضة السعودية للعالمية، من منطلق حبي لوطني وأندية وطني”.
والمقصود من هذا المقال التأكيد على أهمية أن يرقي الإنسان نفسه، فذلك أجدى وأنفع من وسيط قد يرقيه وهو شارد الذهن، منشغل البال، فضلا عن كون بعضهم لا يخلو من التجاوزات الشرعية.
جاء رجُلٌ إلى مالك بن دينار فقال: أنا أسألك با لله أن تدعو لي فأنا مُضْطَرٌّ، فقال: إذا فاسأله فإنَّه يُجيبُ المضطَّر إذا دعاه، {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء…}
وسئل أحدهم: هل تعرف رجلا مستجاب الدعوة؟ فقال: لا، لكني أعرف من يجيب الدعوة.
وإن أبى إلا الذهاب إلى الرقاة، فليعلق قلبه بربه، وليعلم أن الراقي والرقية مجرد سبب إن لم يأذن الله في نفعها فإنها لن تنفع، فآل الأمر إليه جلَّ وعلا، وليتحر الأمانة والصدق والصلاح فيمن يذهب إليهم، فإن أغلب المتفرغين -وأنا أعي ما أقول- ليسوا على الجادة، وعندهم من التجاوزات الشيء الكثير، وهم متفاوتون في هذا فمستقل ومستكثر.
وأخيراً لا بد من التأكيد على ما ابتدأت به من أن الصالحين الصادقين الأمناء من الرقاة موجودون غير معدومين، لكنهم قليل، والله المستعان
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أ.د.سليمان بن محمد الدبيخي.