إيهاب إبراهيم
إنَّ مِن أُسسِ الإسلام العظيم -بل غايته في الدُّنيا-: إقامةَ العبودية لله على الأرض، بفعلِ ما أَمَرَ الله به، واجتنابِ ما نهى عنه، وقد جعل الله طاعتَه سببًا لرحمته، ونزولِ رزقه في الدُّنيا، ودخولِ الجنة في الآخرة؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
كما جعل الله معصيتَه سببَ نزولِ العذاب والبلاء في الدنيا، وفي الآخرة سببًا لدخول النار -والعياذ بالله-, قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30].
وقد أمر اللهُ العبادَ بطاعته، وحَثَّ عليها، ورغَّب فيها، وأمر بتعلُّم شرعه، وحذَّر من معصيته ومن التفريط في شرعه، ولكن قد يَجهل البعضُ بعضَ أجزاء الشريعة، أو يتعمَّد مخالفتها، وفي الحالتين يقع في المعصية؛ لذا فقد أمر الله عباده المؤمنين بالأمر بالمعروف لمن تركه جهلاً أو عمدًا، والنهيِ عن المنكر لمن وقع فيه جهلاً أو عمدًا، وقد سمى الفقهاء الآمرَ الناهيَ بالمحتسِب، وسموا عمله احتسابًا؛ لأنه يحتسب ذلك العمل -أي: يعدُّه- عند الله.
والحسبة عند الفقهاء: أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله.
وقد مدح الله الأمةَ بخير مهامِّها، وهي الحسبة؛ قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
وهي من صفات المؤمنين؛ قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
وقد أمر الله بالحسبة في كتابه؛ قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
والآية تنص على فرضية الحسبة، على أنَّها فرض كفائي، هذا في حالة تعيين ولي الأمر لطائفة من أهل العلم للاحتساب، ولكن قد يتعيَّن على المسلم إذا ظهر المنكرُ أمامه وكان أهلاً للاحتساب فيه؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].
والأمر عام لكل مسلم، ولكن بشروط سنذكرها:
1- يجب على مَن يقوم بالاحتساب أن يكون مكلفًا، وهذا شرط للوجوب، ولكن تصحُّ أيضًا من المميز، وهو ما توافر فيه العقل دون البلوغ؛ إذ إنَّها من القُرُبات، وهو من أهلها، كما تصح منه الصلاة.
2- أنْ يكون مسلمًا؛ إذ لا تصح من كافر أتى بأصل المنكر، وهو الشرك، وترك أصلَ المعروف، وهو الإسلام.
3- العلم بما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يأمر بمعروف وهو ليس كذلك، ولا ينهى عن منكر وهو ليس كذلك، كما أنه يجب أن يراعي الاختلاف عند الاحتساب، فربَّما كان المحتسَب عليه يعمل بما يعتقد أنَّه حلال وهو على العكس في مذهب المحتسِب.
4- القدرة على الإنكار باللسان أو اليد، فإن لم يستطع أنكر بقلبه، وهذا في حق من تطوع بالاحتساب؛ قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإنْ لَم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].
أما من عُيِّن من قِبَل ولي الأمر للاحتساب، فمعه القدرة وقوة السلطان.
وقد زاد بعضُ الفقهاء: إِذْنَ السلطان، ولكن عند التحقيق يتبين أن الدليل والعقل على خلاف ذلك، فإن كان المحتسب مُعينًا من قِبل السلطان، فلا داعي للإذن، أمَّا إن كان متطوعًا، فقد سبق أمرُ النبي –صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكلِّ مسلم, بقوله –صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم»، ولم يشترط إذن السلطان، والحسبة تجري على السلطان نفسِه، فكيف يُستَأْذَن فيها؟!
ولكن قد يستأذن الإمام أو السُّلطان في بعض أنواع الاحتساب؛ مثل التي يَجري فيها التعزير واستعمال القوة، ويرجع ذلك إلى المصالح والمفاسد.
كما اشترط بعضهم أيضًا: العدالة، وهي أيضًا ليست بشرط، فإن المعتبر هو ما ذكرنا من العلم والقُدرة، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور المشروعة، والحق يَجب اتباعه من أي أحد جاء به، وإن كانت العدالة مطلوبة، فإنَّ لها تأثيرَها في الوعظ والتذكير، ومصداقية الداعي أو المحتسب عند الناس؛ قال تعالى حِكاية عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].
ويَجب على المحتسب: أنْ يَبتغي بعمله وجهَ الله والدار الآخرة، ويحذر من التسميع والرِّياء، وفي الوقت نفسه لا يتعلل بهما على ترك الحسبة؛ بل يتَّقي الله عزَّ وجلَّ ويجاهد نفسه على الإخلاص.
كما ينبغي: أن يكون صبورًا حليمًا، فإنَّ المحتسب كثيرًا ما يتعرَّض للأذى، فإن لم يكن صبورًا حليمًا ربَّما أضرَّ أكثر مما ينفع؛ بل يتعامل مع المحتسَب عليه على أنَّه مريض يحتاج إلى مَن يترفق به ويُخلِّصه من دائه، ولكن من غير تَهاون في دين الله أو تفريط في حدوده.
وينبغي أيضًا: أن يكون عفيفًا مع الناس، بعيدًا عن المداهنة، ويحترز من قبول الهدايا؛ حتى لا يساء به الظن، ويحمل أتباعه على ذلك؛ لأنَّهم محسوبون عليه.
والمقصود من الحسبة -كما قررنا-: إيجاد المعروف، والحيلولة دون وقوع المنكر من أيِّ أحد، حتى وإن لم يكن مكلفًا ومُؤاخذًا على هذا المنكر دينًا، فيجب الإنكار على الصبي الصغير إذا هَمَّ بشرب الخمر، أو المجنون إذا همَّ بالزنا، فيجب على المحتسب الإنكارُ على كل أحد مهما كانت صفته ومكانته، ولكن مع مراعاةِ أنَّ لكل طائفة أسلوبًا في الإنكار قد يختلف عن الأخرى؛ وذلك لتحصيل المصلحة المرجوة من الاحتساب.
فإنكار المحتسب على والديه يكون ببيان الحكم الشرعي والوعظ والتذكير بالحسنى، ولا يتعدى إلى التعنيف أو الإنكار باليد؛ إذ هو منكرٌ أشدُّ مما ينهى عنه، وهذا لا يَجوز.
ويَجب الاحتساب على غير المسلمين، فليس معنى ترْك الإسلام لهم حريةَ المعتقد أنْ يُجاهروا بالمعاصي في المجتمع المسلم، فلو كان يَحِلُّ لهم شربُ الخمر في دينهم، فلا يحق لهم أن يجاهروا بذلك.
ويجب الاحتساب على القضاة، فلو غضب عند القضاء، وجب نصحه وتذكيره بأن هذا لا ينبغي له؛ بل يَجب الاحتساب على الحكام والأمراء، ولكن مع مُراعاة هيبتهم ووقارهم والتلطُّف بهم؛ فذلك أدعى لاستجابتهم وانصياعهم للحق.
ويجب الاحتساب على أصحاب المهن والصناعات، إذا قام أحدُهم بالغش أو الغبن أو التدليس، ولتحقيق ذلك ينبغي للمحتسب أن يكون عالِمًا بدقائق المهن والصناعات خبيرًا بها، فإن لم يكن كذلك، وجب عليه الاستعانة بأهل الخبرة من كل مهنة.
ولكن ما المنكر الذي يجب أن ينكره المحتسب؟
لقد سبَّبتْ هذه القضيةُ -معرفة المحتسب لفقه المنكر- الكثيرَ من التخبُّط في أوساط المجتمع المختلفة؛ إذ أدى جهلُ كثير من أبناء الصَّحْوة بحقيقة المنكر وشروط الاحتساب على صاحبه، إلى كثيرٍ من المشاكل والحرج، وإعطاء صورة سلبية عن المحتسب؛ بل عن أهل الدين عامَّة، ورميهم بالتعصب، والتجسس على الناس، والتدخُّل في خصوصيتهم، ولعلَّ الخطأ مشترك؛ لجهل بعض العامة بأشكال المنكر -كما سَبَق أنْ قَرَّرنا- أو جهل بعض المحتسبين بحقيقةِ المنكر ووقت الإنكار الصحيح، فأدى ذلك إلى صدامات بين المحتسِبين والمُحتَسَب عليهم.
فالغَيْرة على الحرمات أمرٌ مطلوب، ولكن يَجب أن يضبط بضوابط الشرع، وقد وضع الفقهاء شروطًا يجب توافرها في المنكر؛ ليجوز الاحتساب على صاحبه، منها:
1- أن يكون ظاهرًا، بحيث يكون الفاعل مجاهرًا به، ولا يَجوز للمحتسب التجسسُ على بيوت الناس أو التفتيش فيها.
2- أن يكون قائمًا في الحال، أمَّا إذا قُضِيَ الأمر، فلا يوجد ما يحتسب فيه، ولكن يرفع الأمر إلى القاضي إن كان مما يَجب فيه الحدود والتعزيرات، غَيْر أنَّ مقدماته يَجب الاحتساب فيها؛ إذ إنَّ مقدمات المنكر تعدُّ منه، ولا ينتظر المحتسب حتى يقع لينكر على صاحبه.
3- أن يكون المنكر متفقًا عليه، أو الخلاف فيه غير سائغ، أمَّا إذا كان مما وقع فيه الاجتهاد بين الفقهاء، فقال بعضهم بالحل والبعض الآخر بالحرمة، فلا إنكارَ فيه؛ إذ ربما يكون الفاعل يدين بخلاف اعتقاد المحتسِب.
وعلى الجانب الآخر، فربما يعتقد البعض أنَّ الاحتساب قائم على ارتكاب المعصية بمفهومها الضيق؛ أي: من سرقة وزنا.. وغيرهما من المعاصي المشتهرة عند الناس، ولكن مفهوم المعصية في الشريعة الإسلامية أشمل بشمولها لجميع نواحي الحياة، فهي كل ما يغضب الله عزَّ وجلَّ ونهى عنه؛ لذا فإنَّ الحسبةَ تَجري في أمورِ الاعتقاد، فمن أظهر اعتقادًا باطلاً، أو أظهر بدعة أو ما يناقض العقيدة الإسلامية، وَجَبَ الاحتساب عليه، فالتقوُّل على الله بغير علم من أشدِّ المنكرات، ولو يعلم ذلك كثيرٌ من الكتَّاب، لخنسوا وما سطرتْ أيديهم ما سيكون سببًا لهلاكهم إن لم يتوبوا.
كما تجري الحسبة في أمور العبادات، كمَن ترك الصلاة، أو الصيام، وقد يغتر البعض بدعوى الجهال والذين في قلوبِهم مرض أنَّ هذا من الحرية الشخصية، وعلاقة بين العبد وربِّه، وهذا من أضل خلق الله، فإنَّ تَرْكَ الصلاة من أعظم الذنوب في الإسلام، وحدُّ تاركها مثل القاتل والزاني، هو القتل حدًّا إن لم يتب.
وتجري الحسبة أيضًا في أمور المعاملات، فمن غشَّ أو دلَّس أو رابَى، وجب الاحتساب عليه، فقد «مر -صلَّى الله عليه وسلَّم- برجلٍ يبيع طعامًا، فقال: كيف تبيع؟، فأخبره، فأوحى الله إليه أنْ أدخل يَدَك فيه، فأدخل يده، فإذا هو مبلول، فقال له رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ليس منا من غش» [رواه البيهقي وصححه الألباني].
وتجري الحسبة على جانب الأخلاق، فيجب مراعاة الأخلاق الإسلامية، فلا يجوز الخلوة بالأجنبية، أو التجسُّس على بيوت الناس من النوافذ والأسطح، ولا يتعرض الرِّجال للنساء في الطرقات، كما لا يَجوز الخضوع بالقول من النساء للرجال، كالباعة وأصحاب المتاجر.
والاحتساب له فقهٌ يَجب أن يفقهه كلُّ محتسب، وهو نابع من غاية الاحتساب، فإنَّ الاحتساب قائمٌ على منع المنكر وتقليله في الأرض، فإذا تبيَّن للمحتسب أن احتسابه سيؤدي إلى منكرٍ آخرَ أو منكرٍ أكبرَ مما احتسب فيه، فلا يجوز له الاحتساب من باب دفع أعلى المفسدتين؛ ولكن ينكر بقلبه، ويتمنى زوال هذا المنكر.
قال المناوي: “«فإنْ لم يستطع» الإنكار بيده، بأنْ ظن لحوق ضَرَر به «فبلسانه»؛ أي: بالقول؛ كاستغاثة، أو توبيخ، أو إغلاظ بشرطه، «فإن لم يستطع» ذلك لوجود مانعٍ؛ كخوفِ فتنة، أو خوف على نفس أو عضو، «فبقلبه»“.
إنَّ ذلك التشريعَ العظيم -الحسبة- الذي تتميز به الأُمَّة الإسلامية، والذي لم نَجده في أمة سواها بهذه الدِّقة والشمولية والرحمة، لهو من أكبر العوامل التي تُحافظ على المجتمع من رجس المعصية وشؤمها، وتَجعل المجتمع نظيفًا طاهرًا عفيفًا، ويقمع كل من تسول له نفسُه المعصيةَ ويضيق مجالها في المجتمع.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.