ومن احتساب المؤمنين أنهم: إذا مروا باللغو مروا كراما (1 /2)
الحمد لله الكبير المتعال والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى أتباعه والصحب والآل، وبعد.
فإن الانتشار الواسع لوسائل الاتصال والنمو الكبير في تعاطي الناس مع الشبكة العنكبوتية -لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي- أفرزت كثيراً من السلبيات والمنكرات، إلى جانب ما فيها من حسنات وإيجابيات، وهذا ما يجعل هذه الوسائل والمواقع سلاحاً ذا حدين؛ إن أُحسن استخدامها عادت بالخير الوفير على الفرد والمجتمع، وإن أسيء كانت وبالاً عليه وعلى من يقع في سلبياتها.
بعض هذه السلبيات والمنكرات لا يخفى على عامة المؤمنين، كاستخدامها في نشر الشبهات المضلة والأفكار الهدامة والشهوات المزلة عن الصراط المستقيم، لكنهم يقعون فيها ضعفاً وذنباً، وبعضها الآخر قد يخفى على كثير من الطيبين الخَيِّرين فيقعون فيها سهواً وغفلةً، فكان لزاماً أن يتواصى المؤمنون فيما بينهم لبيان هذه الأمور والتحذير منها، فـ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وإن من هذه السلبيات والمنكرات كثرة ما نجده على المواقع الإلكترونية المختلفة من اللغو؛ واللغو هو الباطل والفاسد والفاحش والقبيح، وهو أيضاً الزائد الذي لا فائدة منه، قال الطبري رحمه الله: “اللغو من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، يقال منه: “لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا”، إذا قال قبيحًا من الكلام”.
وقال ابن فارس رحمه الله: “لَغَوَ اللَّامُ وَالْغَيْنُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الشَّيْءِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ”.
وجولة سريعة في المواقع المختلفة كفيلة بمعرفة حقيقة هذه الظاهرة وحجمها، حيث انتشرت بصورة كبيرة بين الناس، فلا يسلم منها إلا من رحم الله -وقليل ما هم- جعلنا الله والقارئين الكرام منهم.
وقد وصف الله عز وجل عباد الرحمن بأوصاف جعلتهم أهلاً لقوله: ?أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا? [الفرقان:75-76].
وكان من هذه الصفات قوله تعالى: ?وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا? [الفرقان:72].
فلا بد إذاً لمن أراد أن يدخل في زمرة عباد الرحمن المتقين، أن يتصف بصفاتهم وأن يمر باللغو كما مروا، فكيف يكون ذلك؟
قال الطبري: “اللغو في كلام العرب هو كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح؛ فسبُّ الإنسانِ الإنسانَ بالباطل الذي لا حقيقة له من اللغو، وذكر النكاح بصريح اسمه مما يُستقبح في بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيم المشركين آلهتهم من الباطل الذي لا حقيقة لما عظموه على نحو ما عظموه، وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين، فكل ذلك يدخل في معنى اللغو… فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: وإذا مرّوا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراما؛ مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء، وفي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبيح من القول، وفي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك، وذلك بأن يروا من المنكر ما يُغيَّر بالقول فيغيروه بالقول. وفي بعضه بأن يضاربوا عليه بالسيوف، وذلك بأن يروا قوما يقطعون الطريق على قوم، فيستصرخهم المراد ذلك منهم، فيُصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراما”.
فإذا كان الأمر كذلك علمنا ما ينبغي على كل من يشارك في المواقع المختلفة مفيداً ومستفيداً، فليس الأمر قاصراً على إعراضه عن اللغو فحسب، بل قد يكون في موقف لا يحل له فيه أن يسكت على ما يقرأ من الباطل، ويتعين عليه أن ينكر بعلم وحلم وأن يصبر على ما قد يجد من الأذى؛ وقد يسعه في موقف آخر أن يصمت ويمضي؛ ولكنه في كل الأحوال لا يُقبل منه أن يكون مشاركاً في اللغو.
هذا وللحديث بقية إن شاء الله.
___________________
(1) انظر تهذيب اللغة (8/ 172).
(2) تفسير الطبري (4/ 446).
(3) مقاييس اللغة (5/ 255).
(4) تفسير الطبري (19/ 315).