احتساب عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(40 ق هـ – 23 هـ = 584 – 644 م)
نسبه رضي الله عنه:
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر, العدوي القرشي, ويجتمع نسبه مع الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- في كعب بن لؤي بن غالب(1).
مولده رضي الله عنه:
ولد بعد عام الفيل بمكة، وبعد مولد الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بثلاث عشرة سنة(2).
إسلامه رضي اللّه عنه:
كان عمر يخفي وراء تلك القسوة والشدة رقة نادرة, كما في قصته مع زوجة عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي، وذلك حينما رآها عمر وهي تعد نفسها للهجرة إلى الحبشة، فقال: “صحبكم الله, فأخبرت زوجة عامر بن ربيعة زوجها بما قال لها عمر، فقال زوجها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم, فقال: فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب”(3).
فلما علم عمر بن الخطاب بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو انطلق مسرعاً غاضباً إليهما، فضرب سعيدًا، ثم ضرب فاطمة ضربة قوية شقت وجهها، فسقطت منها صحيفة كانت تحملها، وحين أراد عمر قراءة ما فيها أبت أخته أن يحملها إلا أن يتوضأ، فتوضأ عمر وقرأ الصحيفة وإذ فيها: ?طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى? [طـه:1-6], فاهتز عمر وقال: ما هذا بكلام البشر, وأسلم من ساعته.
وخرج بعد ذلك إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان يجتمع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه وأعلن إسلامه هناك(4).
كان إسلام عمر حدثًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، فقد قوّى وجوده في صف المسلمين شوكتهم، وأصبح لهم من يُدافع عنهم ويحميهم من أذى المشركين.
الثناء على عمر رضي الله عنه:
قال صهيب -رضي الله عنه-: “لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به”.
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمةً، واللَّه ما استطعنا أن نُصلّي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي”
وقال أيضًا -رضي الله عنه-: “ما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر”(5).
وغير ذلك من الآثار الدالة على احتساب عمر -رضي الله عنه-, وجهاده وشجاعته.
مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاحتسابية:
لعمر -رضي الله عنه- مواقف احتسابية مشرفة حكيمة كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
الموقف الأول: موقفه في إظهار الإسلام وهجرته:
عندما أسلم عمر -رضي الله عنه- على يد النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يَعلم قريش بإسلامه، فلما علموا ثاروا عليه حول الكعبة، وقاتلهم وقاتلوه، واستمر القتال بينهم وبينه في هذا الموقف حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة، وقميص مُوشّح، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال: فمه!! رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل! قال عبد اللَّه بن عمر: فواللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه، قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟- قال: يا بُنيَّ ذلك العاص بن وائل”(6).
وعندما اشتد أذى المشركين على المسلمين، وأذن لهم رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة من مكة إلى المدينة، وابتدأت وفود المسلمين متجهة إلى المدينة وكلها مختفية في هجرتها وانتقالها، إلا هجرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد رُوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: “ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب”(7).
وهذا فيه إظهار لعزة الإسلام وأهله, وإذلال للكفر وأهله, فهل بعد هذا الاحتساب من احتساب؟! وهل بعد إنكار هذا المنكر من إنكار؟!!!
الموقف الثاني: احتسابه رضي الله عنه على النسوة اللاتي كن يرفعن أصواتهن عند النبي صلى الله عليه وسلم:
عَنْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «اسْتَأْذَنَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الحِجَابَ, قَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي وَلاَ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»(8).
هذا الحديث فيه بيان فضل عمر -رضي الله عنه- وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه.
الموقف الثالث: موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبي بكر رضي الله عنه:
“عَقِبَ وَفَاْةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَهً عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلاَمًا قَدْ أَعْجَبَنِي، خَشِيتُ أَلاَ يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ فِي كَلاَمِهِ: نَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ، فَقَالَ حُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ: لاَ وَاللَّهِ لاَ نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لاَ، وَلَكِنَّا الأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ، هُمْ أَوْسَطُ العَرَبِ دَارًا، وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ، أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَخَيْرُنَا، وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ”(9).
فهذا الموقف الذي وقفه عمر -رضي الله عنه- حين جمعهم على إمامة أبي بكر موقف عظيم من أعظم مواقف الحسبة؛ لأن فيه إنقاذ للناس من الاختلاف والفرقة والفتنة.
الموقف الرابع: موقفه في احتسابه على أهله قبل الناس:
كان عمر -رضي الله عنه- مع أهله قوياً، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: “كَانَ عُمَرُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَنَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ جَمَعَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُ النَّاسَ عَنْ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكُمْ نَظَرَ الطَّيْرِ -يَعْنِي: إِلَى اللَّحْمِ-, وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَعَلَهُ إِلا أَضْعَفْتُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ”(10).
ومن ذلك احتسابه على أحد أبنائه في شربه المسكر وأمره بجلده.
وهذا من أعظم مواقف الحسبة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده.
الموقف الخامس: موقفه من الشاب الذي كان مسبلًا إزاره حين دخل عليه وهو مصاب:
روى البخاري عن عمرو بن ميمون قصة اغتيال عمر -رضي الله عنه- وفيها: “وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ، فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهِ لَكَ، مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ، قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي، فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ، قَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ الغُلاَمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! ارْفَعْ ثَوْبَكَ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ”(11).
الموقف السادس: موقفه من أم المؤمنين حفصة وصهيب رضي الله عنهما حين عولا عليه لما طعن:
من ذلك احتسابه على أم المؤمنين حفصة وصهيب -رضي الله عنهما- حين عولا عليه لما طعن, فَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- لَمَّا طُعِنَ عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ! أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ؟ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ؟»(12).
وهناك مواقف احتسابية كثيرة للفاروق -رضي الله عنه-, فحياته في الإسلام مليئة بالاحتساب.
وفاته رضي الله عنه:
“خرج عمر إلى صلاة الفجر يوم الأربعاء (26) ذي الحجة سنة (23هـ) يؤمّ الناس، فتربص به غلام مجوسي اسمه فيروز, وهو عبد للمغيرة بن شعبة ويكنى أبا لؤلؤة، وهو في الصلاة وانتظر حتى سجد، ثم طعنه ثلاث طعنات بخنجر مسموم كان معه، فقال عمر: قتلني -أو أكلني- الكلب، ثم جعل يطعن كل من دنا إليه من الرجال حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فألقى عليه أحدهم ثوباً، ولما رأى أن قد تقيّد وتعثر فيه قتل أبو لؤلؤة نفسه بخنجره, ثم تناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه حتى يكمل الصلاة بالناس، وبعد الصلاة حمل المسلمون عمر إلى داره, وعندما سأل عمر عمن طعنه؟ قيل له: إنه أبو لؤلؤة, فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدعي الإسلام، ثم قال: اذهب إلى أم المؤمنين عائشة، فقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه-, فذهب إليها، فأذنت, فدفن بجانبهما كما أراد”(13).
____________________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (10/ 180).
(2) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (3/ 1145).
(3) البداية والنهاية لابن كثير (4/ 196).
(3) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر، 7/ 41، رقم (3684)، ومناقب الأنصار، 7/ 177، (رقم 3836).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 344).
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 203).
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 349).
(7) أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (4/ 137).
(8) البخاري (4/ 126) رقم: (3294), ومسلم (4/ 1863) (2396).
(9) البخاري (5/ 6) رقم: (3667).
(10) تاريخ الطبري (4/ 207).
(11) البخاري (5/ 15) رقم: (3700).
(12) مسلم (2/ 640) رقم: (927).
(13) أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (4/ 156).