احتساب أبي الدرداء رضي الله عنه
(000 – 32 هـ = 000 – 652 م)
اسمه:
هو عويمر بن مالك بن قيس بن أمية الأنصاري الخزرجي، أبو الدرداء([1]).
وزوجته: هي أم الدرداء، تقول: “اللهم إن أبا الدرداء خطبني فتزوجني في الدنيا، اللهم فأنا أخطبه إليك، وأسألك أن تزوجنيه في الجنة”، فقال لها أبو الدرداء: فإن أردت ذلك فكنت أنا الأول فلا تتزوجي بعدي، قال: فمات أبو الدرداء -وكان لها جمال وحسن- فخطبها معاوية، فقالت: “لا والله لا أتزوج زوجًا في الدنيا، حتى أتزوج أبا الدرداء -إن شاء الله- في الجنة”([2]).
مناقبه وفضله:
أبو الدرداء هو صحابي جليل، من الحكماء، الفرسان، القضاة، كان قبل البعثة تاجرًا في المدينة، ثم انقطع للعبادة؛ ولما ظهر الإسلام اشتهر بالشجاعة والنسك.
وولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب، وهو أول قاضٍ بها، وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، مات بالشام، وروى عنه أهل الحديث (179) حديثًا([3]).
قال القاسم بن محمد: “كان أبو الدرداء من الذين أوتوا العلم”([4]).
وعن عون بن عبد الله، عن أم الدرداء أنه قيل لها: ما كان أكثر عمل أبي الدرداء؟ قالت: “التفكر” قالت: “نظر يومًا إلى ثورين يخدان في الأرض مستقلين بعملهما إذ عنت أحدهما، فقام الآخر، فقال أبو الدرداء: “في هنا تفكر، استقلا بعملهما واجتمعا، فلما عنت أحدهما قام الآخر، كذلك المتعاونان على ذكر الله عز وجل”([5]).
وأتى عمرُ أبا الدرداء، فقال: أدخل؟ قال: ادخل، فدفع الباب، فإذا ليس عليه غلق، في بيت مظلم، فجعل عمر رضي الله عنه يلمسه حتى وقع عليه، فجس وسادة، فإذا هي برذعة، وجس فراشه، فإذا بطحاء، وجس دثاره فإذا كساء رقيق، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من هذا؟ أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أما والله لقد استبطأتك منذ العام، فقال عمر رضي الله عنه: “رحمك الله ألم أوسع عليك؟ ألم أفعل بك؟” فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أي حديث؟ قال: “ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب” قال: نعم، قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أضحيا”([6]).
وعن خالد بن حدير الأسلمي أنه دخل على أبي الدرداء، وتحته فراش من جلد، أو صوف، وعليه كساء صوف، وسبتية صوف، وهو وجع، وقد عرق، فقال: لو شئت كسيت فراشك بورق، وكساء مرعزي مما يبعث به أمير المؤمنين، قال: “إن لنا دارًا، وإنا لنظعن إليها ولها نعمل”([7]).
سيرته الاحتسابية
كان لأبي الدرداء رضي الله عنه سيرة احتسابية عظيمة، حافلة بالمواقف العظيمة، نذكر طرفًا منها:
1- إنكاره على شيء من المعاملات:
عن عطاء بن يسار، أن معاوية باع سقاية من ذهب، أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، إلا مثلًا بمثل.
فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر ذلك له، فكتب عمر إلى معاوية: لا تبع ذلك إلا مثلًا بمثل، أو وزنًا بوزن([8]).
2- إنكاره على رجل:
عن سالم، قال: رأى أبو الدرداء يومًا رجلًا، فتعجب من جلده، فقال أبو الدرداء: “هل حممت قط؟ هل صدعت قط؟” فقال الرجل: لا، فقال أبو الدرداء: “بؤس لهذا يموت بخطيئاته”([9]).
وعن الرباب القشيري، قال: دخلنا على أبي الدرداء نعوده، فدخل عليه أعرابي فقال: ما لأميركم -وأبو الدرداء يومئذٍ أمير- قال: قلنا: هو شاك، قال: والله ما اشتكيت قط -أو قال: والله ما صدعت قط-، قال: فقال أبو الدرداء: “أخرجوه عني ليمت بخطاياه، ما أحب أن لي بكل وصب وصبته حمر النعم، إن وصب المؤمن يكفر خطاياه”([10]).
3- إنكاره على من يحلف:
عن عبد الله بن يسار، قال: رأيت أبا الدرداء ساوم رجلًا، فحلف أن لا يبيعه، ثم أعطاه بعد ذلك بذلك الثمن، فقال أبو الدرداء: “إني أخشى، وأكره أن أحملك على إثم”([11]).
4- إنكاره على مغتاب:
عن الحكم، عن ابن لأبي الدرداء، أن رجلًا، وقع في رجل فرد عنه آخر، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من ذب عن عرض أخيه كان له حجابًا من النار”([12]).
5- إنكاره على من صلى بغلس:
عن جبير بن نفير، قال: صلى بنا معاوية بغلس، فقال أبو الدرداء: “أسفروا بهذه الصلاة، فإنه أفقه لكم”([13]).
6- إنكاره على من سبّ مذنبًا:
عن أبي قلابة، أن أبا الدرداء، رضي الله تعالى عنه مر على رجل قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبونه، فقال: “أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟”
قالوا: نعم، قال: “فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم”.
قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: “إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي”([14]).
7- إنكاره على أهل دمشق:
عن سعيد بن أبي هلال، أن أبا الدرداء، كان يقول: “يا معشر أهل دمشق، ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تبلغون، قد كان القرون من قبلكم يجمعون فيوعون، ويأملون فيطيلون، ويبنون فيوثقون، فأصبح جمعهم بورًا، وأملهم غرورًا، وبيوتهم قبورًا، هذه عاد قد ملأت ما بين عدن إلى عمان أموالًا وأولادًا، فمن يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين؟([15]).
وعن حسان، قال: قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لأهل دمشق: “أرضيتم بأن شبعتم من خبز البر عامًا فعامًا، لا يذكر الله تعالى في ناديكم، ما بال علمائكم يذهبون، و جهالكم لا يتعلمون؟ لو شاء علماؤكم لازدادوا، ولو التمسه جهالكم لوجدوه، خذوا الذي لكم بالذي عليكم، فو الذي نفسي بيده ما هلكت أمة إلا باتباعها هواها، وتزكيتها أنفسها”([16]).
وعن الضحاك، قال: قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: يا أهل دمشق، أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي؟ وإنما مؤنتي على غيركم، مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به، وتركتم ما أمرتم به؟ ألا إن قومًا بنوا شديدًا، وجمعوا كثيرًا، وأملوا بعيدًا، فأصبح بنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا، ألا فتعلموا وعلموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما”([17]).
8- إنكاره على تغيُّر الناس بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم:
عن الأعمش، قال: سمعت سالمًا قال: سمعت أم الدرداء، تقول: دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: “والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أنهم يصلون جميعًا”([18]).
وعن حبان بن أبي جبلة عن أبي الدرداء قال: “لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم اليوم ما عرف شيئًا، مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة”.
قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟([19]).
وعن سالم بن أبي الجعد، قال: قال أبو الدرداء: لو أن رجلًا كان يعلم الإسلام وأهمه، ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئًا ([20]).
9- إنكاره على من لعن آخر:
عن حكيم بن جابر، قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه مضطجعًا بين أصحابه، وقد غطى وجهه، فمر عليه قس سمين، فقالوا: اللهم العنه، ما أغلظ رقبته، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: “من ذا الذي لعنتم آنفًا؟” فأخبروه، فقال: “لا تلعنوا أحدًا، فإنه ما ينبغي للعَّان أن يكون عند الله صديقًا يوم القيامة”([21]).
10- إنكاره على كلام الدنيا في المسجد:
عن سعيد بن عبد العزيز أن أبا الدرداء رأى رجلًا يقول لصاحبه في المسجد اشتريت وسق حطب بكذا وكذا، فقال أبو الدرداء إن المساجد لا تعمر بهذا”([22]).
11- إنكاره على التباهي بالبناء:
مر أبو الدرداء على قوم وهم يبنون، فقال أبو الدرداء: “تجددون الدنيا، والله يريد خرابها، والله غالب على ما أراد”([23]).
12- إنكاره على من يزوق ولده:
عن حسان بن عطية، قال: أبصر أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه رجلًا قد زوق([24]) ابنه، فقال: “زوقوهم بما شئتم، فذاك أغوى لهم”([25]).
أقواله واجتهاداته الاحتسابية
كان لأبي الدرداء رضي الله عنه أقوال واجتهادات احتسابية كثيرة، منها:
1- قال الفضيل: بلغني أن أبا الدرداء قال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى اتخذني الناس عدوًا ، وما لي إليهم من ذنب([26]).
2- وعن يزيد بن أبي حبيب، أن رجلين اختصما إلى أبي الدرداء في شبر من الأرض، فقال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا كنت في أرض، فسمعت رجلين يختصمان في شبر أرض فاخرج منها” فخرج أبو الدرداء، فأتى الشام([27]).
3- وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: اختصم رجلان إلى أبي الدرداء في فرس، فأقام كل واحد منهما البينة أنه فرسه أنتجه لم يبعه، ولم يهبه، فقال أبو الدرداء: “إن أحدكما لكاذب” ثم قسمه بينهما نصفين، ثم قال أبو الدرداء: “ما أحوجنا إلى سلسلة بني إسرائيل” فسئل: ما هي؟ قال: “كانت تنزل فتأخذ بعنق الظالم”([28]).
4- وعن أبي الهيثم، قال: قال أبو الدرداء: “لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا، ولا تحاسبوا الناس دون ربهم، ابن آدم عليك نفسك، فإنه من تتبع ما يرى في الناس يطل حزنه ولا يشف غيظه”([29]).
5- وعن أبي وائل، عن أبي الدرداء، قال: “إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكني أرجو أن أؤجر عليه”([30]).
6- وعن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء جالسًا وحده، يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: “ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى”([31]).
7- وقال أبو الدرداء: “إن خيركم الذي يقول لصاحبه: اذهب بنا نصوم قبل أن نموت، وإن شراركم الذي يقول لصاحبه: اذهب بنا نأكل ونشرب ونلهو قبل أن نموت”([32]).
8- وعن خلف بن حوشب، قال: قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: “إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم”([33]).
9- وعن أبي كبشة السلولي، قال: سمعت أبا الدرداء، رضي الله تعالى عنه يقول: “إن من شر الناس عند الله عز وجل منزلة يوم القيامة عالمًا لا ينتفع بعلمه”([34]).
([1]) انظر ترجمته في: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1227)، والطبقات الكبرى (7/ 274)، والتاريخ الكبير للبخاري بحواشي المطبوع (7/ 76)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 208)، والأعلام للزركلي (5/ 98).
([8]) أحمد (45/ 520-27531)، وموطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري (2/ 335-2541)، وذم الكلام وأهله (2/ 135-286).