احتساب المسور بن مخرمة رضي الله عنه
(2 – 64 هـ = 624 – 683 م)
اسمه:
هو المسور -بكسر الميم، وسكون السين- بن مخرمة بن نوفل بن أهيب القرشي الزهري، أبو عبد الرحمن، من الفضلاء الفقهاء، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صغير، وقيل: إنه سمع منه، وكان مع خاله عبد الرحمن بن عوف، ليالي الشورى، وحفظ عنه أشياء.
وروى عن الخلفاء الأربعة، وغيرهم من أكابر الصحابة، وشهد فتح إفريقيا، مع عبد الله بن سعد، وهو الذي حرض عثمان على غزوها.
ثم كان مع ابن الزبير، فأصابه حجر من حجارة المنجنيق في الحصار بمكة، فقتل([1]).
أمة عاتكة بنت عوف، أخت عبد الرحمن بن عوف، من المهاجرات، المبايعات، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسور ابن ثمان سنين، وكان يلازم عمر بن الخطاب، ويحفظ عنه، وكان من أهل الفضل والدين([2]).
وأخرج له في الصحيحين سبعة أحاديث، المتفق عليه منها، حديثان، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد([3]).
ومن مناقبه:
ما روي عن عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور: أن المسور كان لا يشرب من الماء الذي يوضع في المسجد، ويكرهه، ويرى أنه صدقة.
وأنه احتكر طعاماً، فرأى سحاباً من سحاب الخريف فكرهه، فلما أصبح أتى السوق، فقال: من جاءني وليته، فبلغ ذلك عمر الخطاب، فأتاه بالسوق، فقال: أجننت يا مسور؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني رأيتُ سحاباً من سحاب الخريف، فكرهته، فكرهتُ ما ينفع المسلمين، فكرهتُ أن أربح فيه، وأردتُ ألا أربح فيه، فقال عمر: جزاك الله خيراً([4]).
وعن إبراهيم بن حمزة، قال: أتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ببرود من اليمن، فقسمها بين المهاجرين والأنصار، وكان فيها برد فائق، فقال: إن أعطيته أحداً منهم غضب أصحابه، ورأوا أنه فضلته عليهم، فدلوني على فتى من قريش، نشأ نشأة حسنة أعطيه إياه، فأسموا المسور بن مخرمة، فدفعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص على المسور، فقال: ما هذا؟ قال: كسانيه أمير المؤمنين، فجاء سعد إلى عمر، فقال: تكسوني هذا البرد وتكسو ابن أخي أفضل منه؟ فقال: يا أبا إسحاق، إني كرهت أن أعطيه أحداً منكم فيغضب أصحابه، فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة، حتى لا يتوهم فيه أني أفضله عليكم، فقال سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالبرد الذي أعطيتني رأسك، فخضع له عمر رأسه، وقال: عندك يا أبا إسحاق، فارفق الشيخ بالشيخ، فضرب رأسه بالبرد([5]).
سيرته الاحتسابية
كان للمسور بن مخرمة رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالمواقف، منها:
1- إنكاره على مسيء في صلاته:
فعن علي بن زيد، عن المسور بن مخرمة، أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه، ولا سجوده، فقال له: أعد، فأبى، فلم يدعه حتى أعاد([6]).
وفي رواية: عن عمرو بن راشد الليثي، قال: والله إني لأصلي أمام المسور بن مخرمة، فصليت صلاة الشاب، كنقر الديك، فزحف إلي، فقال: قم فصل، فقلت: قد صليت عافاك الله، قال: كذبت، والله ما صليت، والله لا تريم حتى تصلي، فقمت فصليت، وأتممت، فقال المسور: والله لا تعصون الله، ونحن ننظر ما استطعنا([7]).
2- إنكاره على إمام لا يحسن القراءة:
فعن عبيد بن عمير رضي الله عنه، قال: اجتمعت جماعة في بعض ما حول مكة، وفي الحج، فحانت الصلاة، فتقدَّم رجل من آل أبي السائب المخزومي رضي الله عنه، أعجمي اللسان، فأخِّره المِسْوَر بن مَخْرمة رضي الله عنه، وقدَّم غيره، فبلغ عمر بن الخطاب، فلم يعرِّفه بشيء حتى جاء المدينة، فلما جاء المدينة عرّفه بذلك، فقال المِسْوَر: انظرْني يا أمير المؤمنين، إن الرجل كان أعجمي اللسان، وكان في الحج، فخشيت أن يسمع بعض الحجاج قراءته، فيأخذ بعجمته، فقال: أوَ هنالك ذهبت؟ قال: نعم، قال: أصبت([8]).
3- إنكاره على معاوية رضي الله عنه:
عن عروة بن الزبير: أن المسور بن مخرمة أخبره أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان، فقضى حاجته، ثم دعاه، فأخلاه، فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟
فقال المسور: دعنا من هذا، وأحسن فيما قدمنا له.
قال معاوية: والله لتكلمن بذات نفسك، والذي تعيب علي.
قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له.
قال معاوية: لا برئ من الذنب، فهل تعد يا مسور ما لي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب، وتترك الحسنات؟!
قال المسور: لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب.
قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك، تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله؟
قال مسور: نعم، قال معاوية: فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟
فو الله لما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين، بين الله وبين غيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه، وإنا على دين يقبل الله فيه العمل، ويجزي فيه بالحسنات، ويجزي فيه بالذنوب، إلا أن يعفو عمن يشاء، فأنا أحتسب كل حسنة عملتها بأضعافها، وأوازي أموراً عظاماً، لا أحصيها، ولا تحصيها، من عمل الله في إقامة صلوات المسلمين، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والحكم بما أنزل الله تعالى، والأمور التي لست تحصيها، وإن عددتها لك، فتفكر في ذلك.
قال المسور: فعرفت أن معاوية قد خصمني، حين ذكر لي ما ذكر.
قال عروة: فلم يسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا استغفر له([9]).
4- إنكاره على عثمان رضي الله عنه:
عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور، أن مروان دعا المسور، يشهده حين تصدق بداره على عبد الملك بن مروان، فقال المسور: وترث فيها القيسية؟
قال: لا.
قال: فلا أشهد.
قال: ولم؟
قال: إنما أخذت من إحدى يديك، فجعلته في الأخرى.
قال: وما أنت وذاك؟! أحكم أنت، إنما أنت شاهد.
قال المسور: وكلما فجرتم فجرة، شهدت عليها.
قال عبد الله: وكانت القيسية امرأة مروان([10]).
5- إنكاره على أمير المدينة:
وفي المعارف: وكان المسور قال: إن يزيد بن معاوية يشرب الخمر، فبلغه ذلك، فكتب إلى أمير المدينة، فجلده الحد، فقال المسور:
أيشربها صرفاً يفك ختامها *** أبو خالد ويجلد الحد مسورُ([11]).
6- إنكاره على مروان بن الحكم:
عن محمد بن الضحاك قال: قال مالك: كان المسور بن مخرمة، مع مروان بن الحكم على سريره في الدار، والناس عنده، وهو أمير المدينة، فقضى مروان بقضاء خالفه فيه المسور، فركضه مروان برجله حتى نحاه عن السرير، فأمر به حتى أخرج من الدار، قال مالك: فأتي مروان في النوم، فقيل له: ما لك وللمسور؟ {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84] فلما أصبح مروان قال: والله لقد نهيتُ عن هذا الرجل، فأرسل إليه، فجاء، فأخبره بذلك، فقال: والله لقد نهيتَ عني في النوم واليقظة، وما أراك منتهياً([12]).
مروياته وآراؤه واجتهاداته الاحتسابية
كان للمسور رحمه الله كثير من المرويات والآراء والاجتهادات الاحتسابية، منها:
1- عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف قال:
حرست مع عمر ذات ليلة، فشب لنا سراج، فأتيناه، فإذا باب مجاف، وأصوات ولغط، قال: فقال لي: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب، فما ترى؟
قال: أرى أن قد أتينا الذي نهينا عنه: التجسس.
قال: فانصرف، وانصرفت معه([13]).
2- وفي تاريخ دمشق: قال أبو عون: فخرجت حتى قمت في مشربة لنا في دار مخرمة بن نوفل، فصحت بأعلى صوتي: يا أهل الشام، يا أهل النفاق، يا أهل الشؤم، قد والله الذي لا إله إلا هو مات يزيد، فصاح أهل الشام، وسبوا، وانكسروا، فلما أصبحنا جاءنا فتى شاب، فاستأمن فأمناه، فجاء إلى ابن الزبير، وعبد الله بن صفوان في أشياخ من قريش جلوس في الحجر، والمسور بن مخرمة في البيت يموت، فخطب، فقال: إنكم يا معشر قريش إنما هذا الأمر أمركم، والسلطان سلطانكم، وإنما خرجنا في طاعة رجل منكم، وقد هلك ذلك الرجل، فإن رأيتم أن تأذنوا لنا فنطوف بالبيت، وننصرف إلى بلادنا، حتى يجتمع رأيكم على رجل منكم، فندخل في طاعتكم، فقال ابن الزبير: لا، ولا كرامة، فقال عبد الله بن صفوان: لم؟ بلى نفعل ذلك، ثم قال ابن الزبير: انطلق بنا إلى المسور، فإنا لا نقطع أمراً دونه، فقاما حتى دخلا على المسور فقال ابن الزبير: ما ترى يا أبا عبد الرحمن في أهل الشام، فإنهم استأذنوا أن يطوفوا بالبيت، وينصرفوا إلى بلادهم.
فقال المسور، أجلسوني، فأجلس، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة: 114]… الآية، وقد خربوا بيت الله، وأخافوا عواذه، فأخفهم كما أخافوا عواذ الله، فتراجعوا شيئاً من مراجعة، وغلب المسور، فاضطجع ومات ذلك اليوم رحمه الله تعالى([14]).
3- عن المسور بن مخرمة، قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعلي إزار خفيف، قال: فانحل إزاري، ومعي الحجر لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة”([15]).