احتساب أسامة بن زيد رضي الله عنهما
(7 ق هـ – 54 هـ = 615 – 674 م)
اسمه ونسبه ونشأته:
هو أسامة بن زيد بن حارثة، من كنانة عوف، أبو محمد، ولد بمكة، ونشأ على الإسلام؛ لأن أباه كان من أول الناس إسلاماً، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه حباً جماً، وينظر إليه نظره إلى سبطيه الحسن والحسين.
وهاجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وأمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يبلغ العشرين من عمره، فكان مظفراً موفقاً، ولما تُوفي رسول الله، رحل أسامة إلى وادي القرى فسكنه، ثم انتقل إلى دمشق في أيام معاوية، فسكن المزة، وعاد بعد إلى المدينة، فأقام إلى أن مات بالجرف، في آخر خلافة معاوية، وقد ثبت إن رسول الله استعمل أسامة على جيش فيه أبو بكر وعمر([1]).
فضله ومكانته:
أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- صحابي جليل، ومولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحبه وابن حبه، “كان يقال له: الحب ابن الحب”([2]).
وكان نقش خاتمه حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([3]).
ومناقبه جمة، منها:
حبُّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- له:
– فقد جاء في البخاري عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه، والحسن، ويقول: ((اللهم إني أحبهما فأحبهما))([4]).
الأمر بحبه:
– ففي صحيح مسلم قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحبني، فليحب أسامة))([5]).
دفاع النبي عنه:
ففي الصحيحين: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعثاً، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده))([6]).
عناية النبي صلى الله عليه وسلم به منذ صغره:
فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينحي مُخاط أسامة، قالت عائشة: دعني حتى أكون أنا الذي أفعل، قال: ((يا عائشة أحبيه، فإني أحبه))([7]).
تأمُّيره على كبار الصحابة مع صغر سنه:
فمن مناقبه: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قدَّمه أميراً على جيشٍ فيهم الأكابر والسادات من المهاجرين والأنصار، كأبي بكر وغيره، وله ثمان عشرة سنة([8]).
وفي الطبراني: عن الزهري قال: كان أسامة بن زيد يُدعى بالإمرة، حتى مات، يقولون: بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لم ينزعه حتى مات([9]).
وعن عبد الله بن دينار، وغيره قال: لم يلقَ عمر أسامة قط، إلا قال: السلام عليك أيها الأمير، ورحمة الله وبركاته، أمير أمَّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومات وأنت عليَّ أمير([10]).
علمه الغزير:
أسامة بن زيد كان من علماء الصحابة، وله في كتب الحديث (128) حديثاً، أخرج له في الصحيحين تسعة عشر حديثاً، المتفق عليه منها خمسة عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين([11]).
وروى عنه: ابناه (حسن، ومحمد)، وابن عباس، وأبو وائل، وأبو عثمان النهدي، وأبو سعيد المقبري، وعروة، وأبو سلمة، وعطاء بن أبي رباح، وجماعة([12]).
وفي البداية والنهاية: وقد كان أسود كالليل، أفطس حلواً حسناً كبيراً فصيحاً، عالماً ربانياً -رضي الله عنه-، وكان أبوه كذلك، إلا أنه كان أبيض شديد البياض؛ ولهذا طعن بعض من لا يعلم في نسبه منه؛ ولما مرَّ مجزز المدلجي عليهما، وهما نائمان في قطيفة، وقد بدت أقدامهما، أسامة بسواده وأبوه زيد ببياضه، قال: سبحان الله إن بعض هذه الأقدام لمن بعض، أعجب بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودخل على عائشة مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال ((ألم تر أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال: “إن بعض هذه الأقدام لمن بعض”([13]).
برِّه بأمه:
عن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة على عهد عثمان ألف درهم، قال: فعمد أسامة إلى نخلة فنقرها، وأخرج جمرها، وأطعمها أمه فقالوا: ما يحملك على هذا، وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، قال: إن أمي سألتني، ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها([14]).
سيرته الاحتسابية
كان أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- من المحتسبين الكبار، فإنَّ المتأمل في سيرته الاحتسابية يجد له كثيراً من المواقف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، منها:
1- إنكاره على النساء البكاء على الميت:
فعن يزيد بن أبي حبيب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل على ثابت بن الربيع، وهو بالموت، فناداه فلم يجبه، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((لو سمعني لأجاب، ما فيه عرق إلا وهو يجد ألم الموت على حدته)) وبكى النساء، فنهاهن أسامة بن زيد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((دعهن يبكين، ما دام بين أظهرهن، فإذا وجب، فلا أسمعن صوت باكية))([15]).
2- إنكاره على مروان:
عن سليم مولى ليث، قال: مرَّ مروان بن الحكم على أسامة بن زيد، وهو يصلي، فحكاه مروان، فقال أسامة: يا مروان، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن الله لا يحب كل فاحش متفحش))([16]).
3- إنكاره على زوجته:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كانت فاطمة بنت قيس (وهي زوجة أسامة بن زيد)، تُحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لها: ((اعتدي في بيت ابن أم مكتوم))، وكان محمد بن أسامة بن زيد يقول: كان أسامة إذا ذكرت فاطمة من ذلك شيئاً، رماها بما كان في يده، قال أبو جعفر: فهذا أسامة بن زيد قد أنكر من ذلك أيضاً ما أنكره عمر -رضي الله عنه-، وقد أنكرت ذلك أيضاً عائشة -رضي الله تعالى عنها-([17]).
4- إنكاره على معاوية:
عن أبي عبد الرحمن الطائي قال: قدم أسامة بن زيد على معاوية بالشام، فأجلسه معه، وألطفه، قال: فمد أسامة رجله، فقال معاوية: يرحم الله أم أيمن -أي أم أسامة- كأني أنظر ظنبوب ساقها بمكة، كأنه ظنبوب نعامة خرجاء، فقال أسامة: فعل الله بك يا معاوية، هي والله خير منك، قال: يقول معاوية: “اللهم غفراً” قال: الظنبوب: العظم الظاهر، وهو الساق، والخرجاء: التي فيها بياض وسواد([18]).
5- ومن ذلك مشاركته في الجهاد، وهو نوع من الحسبة:
فقد كان لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- سيرة جهادية حافلة بالدفاع عن دين الله، وقد مرَّ معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد له بأنه خليق بالإمارة، وأمَّره على جيش فيه كبار الصحابة، وثبت في صحيح البخاري، في كتاب المغازي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه في بعض السرايا.
ومع هذا فقد اعتزل القتال الذي حصل بين الصحابة، قال في أسد الغابة: “ولم يبايع علياً، ولا شهد معه شيئاً من حروبه، وقال له: لو أدخلتَ يدك في فم تنين لأدخلتُ يدي معها، ولكن قد سمعتَ ما قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قتلتُ ذلك الرجل الذي شهد أن إلا إله إلا الله([19]).
وقال وكيع: سلم من الفتنة من المعروفين، أربعة: سعد، وابن عمر، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، واختلط سائرهم([20]).
6- إنكاره على من يرغب في الخير الكثير:
فعن ابن زبالة عن إبراهيم، قال: وجدني أسامة بن زيد بن حارثة أصلي في ناحية المسجد، فأخذ بعنقي، فساقني، حتى جاء بي المنبر، فقال: “صل ههنا”([21]). يعني: في الروضة.
7- مشاركته في إنكار المنكر:
فعن عمير , مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: دخلتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة , فرأى في البيت صورة، فأمرني فأتيته بدلو من ماء, فجعل يضرب تلك الصورة، ويقول: ((قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون))([22]).
مروياته الاحتسابية
ومن مرويات أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- التي تتعلق بالحسبة، ما يلي:
1- عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة: لو أتيت فلاناً فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر دون أن أفتح باباً، لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل أن كان علي أميراً إنه خير الناس، بعد شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: وما سمعته يقول: قال: سمعته يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتُ آمركم بالمعروف، ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))([23]).
ومراد أسامة: أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه سراً، فذلك أجدر بالقبول([24]).
2- وعن سليمان التيمي، قال: سمعتُ أبا عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما تركتُ بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))([25]).
3- عن أبي ظبيان، قال: سمعتُ أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- يقول: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقتُ أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!)) قلتُ: كان متعوذاً، فما زال يكررها، حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم([26]).
4- وعن زياد بن علاقة، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من فرق بين أمتي وهم جميع، فاضربوا رأسه، كائناً من كان))([27]).
وفاته -رضي الله عنه-:
قال الزهري: مات أسامة بالجرف، وحمل إلى المدينة.
وعن سعيد المقبري قال: شهدتُ جنازة أسامة، فقال ابن عمر: عجلوا بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تطلع الشمس([28]).
وقال ابن سعد: مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة.
ومات وله قريب من سبعين سنة، وقيل: توفي سنة أربع وخمسين، فالله أعلم([29]).
([1]) انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 202) والاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 75) وأسد الغابة (1/ 194) وتاريخ الإسلام (4/ 90) والبداية والنهاية (5/ 332) ومرآة الجنان وعبرة اليقظان (1/ 102) والتاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل (2/ 20) والأعلام للزركلي (1/ 290-291) وغيرها.
([4]) أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب الحسن والحسين -رضي الله عنهما- (5/ 26-3747).
([6]) أخرجه البخاري في كتاب أصحاب، باب مناقب زيد بن حارثة مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- (5/ 23-3730) ومسلم في في فضائل الصحابة، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة ابن زيد -رضي الله عنهما- (4/ 1884-2426).
(([7] أخرجه الترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب أسامة بن زيد -رضي الله عنه- (5/ 677-3818) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (8/ 318-3818).
([17]) شرح معاني الآثار (3/ 68-4526) والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 705-15472) والمعجم الكبير للطبراني (23/ 410-987).
([23]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة النار، وأنها مخلوقة (4/ 121-3267) ومسلم في الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله (4/ 2290-2989) واللفظ للبخاري.