احتساب مالك بن دينار
رحمه الله
(000 – 131 هـ = 000 – 748 م)
اسمه:
هو مالك بن دينار البصري، أبو يحيى، من التابعين([1]).
فضله ومناقبه:
قال عنه في مرآة الزمان: “كان مالك زاهدًا، عابدًا، ورعًا، خائفًا، باكيًا، وله الكلام الحسن، والنوادر العجيبة”([2]).
وقال عنه الذهبي: “مالك بن دينار، الزاهد، أبو يحيى، البصري، أحد الأعلام”([3]).
زهده:
كان مالك بن دينار رحمه الله من كبار الزهاد، ومن أخبار زهده:
عن معلى الوراق قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “خلطت دقيقي بالرماد، فضعفت عن الصلاة، ولو قويت على الصلاة ما أكلت غيره”([4]).
وعن مالك بن دينار أنه كان يقول: إن الله تعالى إذا أحب عبداً انتقصه من دنياه، فكف عليه ضيعته، ويقول: لا تبرح من بين يدي، قال: فهو متفرغ لخدمة ربه تعالى، وإذا أبغض عبداً دفع في نحره شيئاً من الدنيا، ويقول: اغرب من يدي، فلا أراك بين يدي فتراه معلق القلب بأرض كذا وبتجارة كذا([5]).
وعن جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: “حلوا أنفسكم من الدنيا وثاقاً وثاقاً”([6]).
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدَّثني محمد بنُ كُليب، عن يوسف بن عطيَّة قال: قال مالك بن دينار: مَنْ دخلَ بيتي فأخَذَ شيئًا فهو حلالٌ له، أمَّا أنا فلا أحتاجُ إلى قُفل ومفتاح([7]).
وقال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة([8]).
وعن عبد الملك بن قريب، قال: حدثني رجل، صالح من أهل البصرة قال: وقع حريق في بيت مالك فأخذ المصحف، وأخذ القطيفة فأخرجهما، فقيل له: يا أبا يحيى البيت، قال: “ما لنا فيه إلا السدانة، ما أبالي أن يحترق”([9]).
وذكر عبد الله بن المبارك قال: وقع حريق بالبصرة، فأخذ مالك بطرف كسائه يجره، وقال: “هلك أصحاب الأثقال، ونجا المُخِفُّون”([10]).
وروى عَوْنُ بن الحكم عن أبيه عن مالك قال: قدمتُ من سفر، فلما صِرْتُ إلى الجسر قام العشَّار، فقال: لا يخرجنَّ أحدٌ من السفينة حتَّى نُفتِّشَه، قال: فأخذتُ ثوبي فوضعتُه على عنقي، ثم وثبتُ فصرتُ على الأرض، فقال: ما الذي أخرجك؟ قلت: ما معي شيء، قال: فاذهب، قلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة([11]).
وعن جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: قال بعض أهل العلم: “نظرت في أصل كل إثم فلم أجده إلا حب المال، فمن ألقى عنه حب المال فقد استراح”([12]).
وعن المغيرة بن حبيب قال: اشتكى بطن مالك بن دينار فقيل له: لو عمل لك قلية فإنها تحبس البطن فقال: دعوني من طبكم، اللهم إنك تعلم أني لا أريد البقاء في الدنيا لبطني ولا لفرجي فلا تبقني في الدنيا([13]).
وعن يوسف بن عطية عن مالك بن دينار قال: رأيت جبلاً عليه راهب، فناديت، فقلت: يا راهب أفدني شيئاً مما تزهدني به في الدنيا، قال: أولست صاحب قرآن وفرقان؟ قلت: بلى، ولكني أحب أن تفيدني من عندك شيئاً أزهد به في الدنيا، قال: إن استطعت أن تجعل بينك وبين الشهوات حائطاً من حديد فافعل([14]).
سيرته الاحتسابية
كان لمالك بن دينار -رحمه الله- سيرة احتسابية عظيمة، نذكر منها:
1- إنكاره على العشارين:
عن الحسين بن زياد، قال: سمعت منيعا، يقول: مر تاجر بعشارين فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى مالك بن دينار فذكر ذلك له فقام مالك فمشى معه إلى العشارين فلما رأوه قالوا: يا أبا يحيى ألا بعثت إلينا ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تخلوا سفينة هذا الرجل، قالوا: قد فعلنا، قال: وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم، فقال: ادعُ الله لنا يا أبا يحيى، قال: قولوا للكوز يدعو لكم، كيف أدعو لكم وألف يدعون عليكم؟! أترى يستجاب لواحد، ولا يستجاب لألف؟!([15]).
2- إنكاره على رجل:
عن مسلم بن أبي عبد الله قال: دخل مالك دار الخراج يوماً ينظر، فإذا هو برجل مع هؤلاء الكبار، قد وضع الكبل في رجليه، فبينا هو ينظر إذ أتي بطعامه، فوضع بين يديه، فجعل مالك ينظره، ويتعجب من أكله، ومما هو فيه، فقال له الرجل: تعال كل يا أبا يحيى، قال: أخاف إن أكلت مثل هذا أن يوضع في رجلي مثل هذا، قال: فتقدم إليه ابن عم الرجل، فقال: يا أبا يحيى إن هذا ابن عم لي وهو ينفق علي وعلى عيالي، فادعُ الله أن ينجيه، قال: فقال مالك: أتدري ما مثل ابن عمك؟ مثل شاة أكلت عجين قوم، فانتفخ بطنها، فماتت، وصاحب العجين يدعو الله على من أكل عجينه، وصاحب الشاة يدعو الله على من قتل شاته، فلأيهم ترى الله أسرع إجابة؟!([16]).
3- إنكاره على من يسيء في صلاته:
عن فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما ارحمني بعياله! فقيل له: يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته، وترحم عياله! قال: إنه كبيرهم، ومنه يتعلمون([17]).
4- إنكاره على والي البصرة:
روى عن جعفر بن سليمان الضُّبَعِيّ قال: مرَّ والي البصرة بمالك، وهو يتبختر في مشيته، فصاح به مالك: أقْلِلْ من مِشْيَتِك، فهذه مِشيَةٌ يُبغِضُها اللهُ ورسولُه، فهمَّ به أعوانُه، فقال: دعوه، ثم قال: يا مالك، ما أُراك تعرفُني، فقال مالك بن دينار: ومَنْ أَعْرَفُ بك منِّي؟ أمَّا أوَّلُك فنُطفةٌ مَذِرَة، وأمَّا آخِرُك فجيفةٌ قَذِرة، وأنت فيما بين ذلك تحملُ العَذِرَة، فنكس الوالي رأسه، ومضى([18]).
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 384)
وعن بكر بن محمد العابد قال: دخل مالك بن دينار على والي البصرة، فقال له الوالي: ادع لي فقال: كم من مظلوم بالباب يدعو عليك([19]).
5- إنكاره على لصوص:
قال ابن باكويه الشيرازي: دخل اللصوص بيت مالك بن دينار، فلم يجدوا شيئًا، فصاح بهم: ما ضرَّكُم لو صلَّيتُم ركعتين([20]).
6- إنكاره على بعض القراء:
قال مالك بن دينار: القراء ثلاثة: فقارئ للرحمن، وقارئ للدنيا، وقارئ للملوك إذا لقوا الملوك دخلوا معهم فيما هم فيه، ومحمد بن واسع من قراء الرحمن([21]).
وعن حزم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “أنا للقارئ الفاخر أخوف مني للفاجر المبرز بفجوره إن هذه أبعدهما غوراً”([22])
وعن مالك بن دينار قال: “إن من الناس ناساً إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم، وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم، فكونوا من قراء الرحمن، بارك الله فيكم”([23]).
وقال: “من تباعد من زهرة الحياة الدنيا، فذلك الغالب لهواه، ومن فرح بمدح الباطل، فقد أمكن الشيطان من دخول قلبه، يا قارئ أنت قارئ ينبغي للقارئ أن يكون عليه دارعة صوف، وعصا راع يفر من الله إلى الله عز وجل، ويحوش العباد على الله تعالى”([24]).
وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز”([25]).
وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالكاً يقول: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، فإن الله ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ أين أصحاب سورة؟ أين أصحاب سورتين؟ ماذا عملتم فيهما؟([26]).
وعن الحسن بن أبي جعفر، عن مالك بن دينار قال: تجوز شهادة القراء في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسداً من التيوس في الزرب([27]).
7- حرصه على إنقاذ الناس من النار:
عن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “لو استطعت ألا أنام لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم ولو وجدت أعواناً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس النار النار”([28]).
وعن جعفر بن سليمان، قال: ثنا مالك بن دينار قال: “لو وجدت أعواناً لناديت في منار البصرة بالليل النار النار”([29]).
وقال: “لولا أن يقول الناس جن مالك للبست المسوح، ووضعت الرماد على رأسي أنادي في الناس من رآني فلا يعصي ربه عز وجل”([30]).
8- إنكاره على رجل:
وعن مالك أنَّه كان له صديق يخدم السلطانَ، فاعتقلَه وقيَّده، فدخلَ عليه مالك فرآه مقيَّدًا، فشقَّ عليه فقال: من قيَّدك؟ قال: السلطان، فرفع مالك رأسه، فإذا زِنْبيل معلَّق، فقال: ما هذا؟ فقال: فيه شيء للأكل، فحطَّه فإذا دجاجٌ، وحلوى، وخبزُ حُوَّارَى، فقال له مالك بن دينار: واللهِ ما قيَّدك غيرُ هذا([31]).
9- تحذيره من جلساء السوء:
عن مالك بن دينار قال: “كل جليس لا تستفيد منه خيراً فاجتنبه”([32]).
وعن جعفر بن سليمان قال: رأيت مع مالك بن دينار كلباً يتبعه، فقلت: يا أبا يحيى ما هذا معك؟ قال: هذا خير من جليس السوء([33]).
وعن حماد بن واقد الصفار، قال: جئت يوماً مالك بن دينار، وهو جالس وحده وإلى جانبه كلب، وقد وضع خرطومه بين يديه، فذهبت أطرده، فقال: دعه هذا خير من جليس السوء، هذا لا يؤذيني([34]).
10- إنكاره على شاب:
عن سعيد بن شبل قال: نظر مالك بن دينار إلى شاب ملازم للمسجد، فجلس إليه، فقال له: هل لك أن أكلم بعض العشارين يجرون عليك شيئاً وتكون معهم؟ قال: افعل ما شئت يا أبا يحيى، قال: فأخذ كفاً من تراب، فجعله على رأسه([35]).
11- إنكاره على العالم غير العامل بعلمه:
عن حزم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: يا عالم أنت عالم تأكل بعلمك، وتفخر بعلمك، ولو كان هذا العلم طلبته لله تعالى لرئي فيك، وفي عملك([36]).
وعن عبيس بن مرحوم قال: ثنا أبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: ما من خطيب يخطب إلا عرضت خطبته على عمله، فإن كان صادقاً صدق، وإن كان كاذباً قرضت شفتاه بمقراض من نار، كلما قرضتا نبتتا([37]).
أقواله المأثورة
كان لمالك بن دينار رحمه الله أقوال مأثورة مشهورة نذكر جملة منها:
1- عن جعفر بن سليمان قال: قال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يذرنا الله على هذا، فليت شعري أي عذاب ينزل([38]).
2- وعن مالك بن دينار قال: إن الأبرار تغلي قلوبهم بأعمال البر، وإن الفجار تغلي قلوبهم بأعمال الفجور، والله يرى همومهم، فانظروا همومكم يرحمكم الله([39]).
3- عن جويرية بن أسماء، وجعفر، قالا: سمعنا مالك بن دينار يقول: “إني آمركم بأشياء لا يبلغها عمل، ولكن إذا نهيتكم عن شيء، ثم خالفتكم إليه، فأنا يومئذٍ كذاب” زاد جعفر في حديثه: وقال مالك: “بلغني أنه يدعى يوم القيامة بالمذكر الصادق، فيوضع على رأسه تاج الملك، ثم يؤمر به إلى الجنة، فيقول: إلهي إن في مقام القيامة أقواماً قد كانوا يعينوني في الدنيا على ما كنت عليه” قال: “فيفعل بهم مثل ما فعل به، ثم ينطلق يقودهم إلى الجنة لكرامته على الله تعالى”([40]).
4- وعن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا إذا وقع عليه القطر زلق عنها([41]).
5- وعن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: إنما العالم أو القاص الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته قص عليك بيته فترى حصيرا للصلاة ترى مصحفا ترى إجانة للوضوء ترى أثر الآخرة([42]).
6- وقال مالك بن دينار: مكتوب في التوراة: من كان له جار يعمل بالمعاصي فلم ينهه فهو شريكه([43]).
7- وقال مالك بن دينار: أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، قال: يا رب: إن فيهم عبدك فلانًا، ولم يعصك طرفة عين، فقال: اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر ساعة في قط([44]).
8- وعن جعفر قال: قلنا لمالك بن دينار: ألا ندعو لك قارئاً يقرأ؟ قال: “إن الثكلى لا تحتاج إلى نائحة» فقلنا له: ألا تستسقي؟ قال: “أنتم تستبطئون المطر لكني أستبطئ الحجارة”[45].
9- وعن حزم قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “إنكم في زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير إنكم في زمان كثير تفاخرهم قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم وطلبوا الدنيا بعمل الآخرة فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعونكم في شباكهم”([46]).
10- وعن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “إن البدن إذا سقم لم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة وكذلك القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة”([47]).
11- وعن جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: “إن لله تعالى عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلب والأبدان: ضنكاً في المعيشة، ووهناً في العبادة، وسخطة في الرزق”([48]).
12- وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: “اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء” يعني الدنيا([49]).
13- وعن مرحوم بن عبد العزيز قال: قال مالك بن دينار: “زمرنا لكم فلم ترقصوا” أي وعظناكم فلم تتعظوا([50]).
14- وقال: الحسن، وسعيد بن جبير، وأشباههم، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام من الناس([51]).
15- وقال: الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه([52]).
16- وعن جعفر عن مالك قال: إن في بعض الكتب إن الله تعالى يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه([53]).
17- وقال: “من لم يكن صادقاً فلا يتعن”([54]).
18- وقال: “إذا لم يكن في القلب حزن خرب كما إذا لم يكن في البيت ساكن يخرب”([55]).
19- وعن جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك بن دينار يقول: من غلب شهوة الحياة الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله([56]).
20- وعن جعفر قال قلت لمالك بن دينار حين ماتت لو تزوجت، قال: لو استطعت لطلقت نفسي([57]).
21- وقال: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف([58]).
22- وعن ابن شوذب قال: سمعت مالك بن دينار يقول: يقولون: الجهاد! أنا من نفسي في جهاد([59]).
23- وعن الحسين بن أبي جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: لا يصطلح المؤمن والمنافق حتى يصطلح الذئب والحمل([60]).
24- وعن جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: أقسم لكم لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضاً يمشون عليها([61]).
25- وعن سعيد بن عصام قال: سمعت مالك بن دينار يقول: كان الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة([62]).
26- وعن سعيد بن عصام وسهيل بن حميد الهجيمي قالا: قال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل([63]).
27- وعن عبد الرحمن بن بحر قال: بلغني أن مالك بن دينار، كان يقول: العاقل الكامل من صلح مع الفاجر الجاهل([64]).
28- وقال: من صفا صفي له، ومن خلط خلط له([65]).
29- وعن إبراهيم بن أدهم، عن مالك بن دينار، قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً، وعمله لحن كله([66]).
30- وعن جعفر قال: سرق مصحف لمالك بن دينار، فوعظ أصحابه، فجعلوا يبكون، فقال: كلنا نبكي، فمن سرق المصحف؟([67]).
31- وقال: السوق مكثرة للمال، مذهبة للدين([68]).
32- وعن كنانة بن جبلة قال: قال مالك بن دينار: لو أن الملكين اللذين ينسخان أعمالكم غدوا عليكم يتقاضونكم أثمان الصحف التي ينسخون فيها أعمالكم لأمسكتم عن كثير، من فضول كلامكم فإذا كانت الصحف من عند ربكم أفلا تربعون على أنفسكم([69]).
33- وقال مالك بن دينار: حدثني فلان أن عامراً مر في الرحبة، وإذا ذمي يُظلم، فألقى رداءه، ثم قال: لا أرى ذمة الله تخفر، وأنا حي، فاستنقذه([70]).
34- وعن مالك بن دينار أنه مر بقصر يعمر، فسأل الأجراء عن أجرتهم، فأجابه كل واحد منهم بما كانت أجرته، ولم يجبه واحد، فقال: ما أجرتك؟ فقال: لا أجر لي، فقال: ولم ذلك؟ قال: لأني عبد صاحب القصر، فقال مالك: إلهي ما أسخاك، الخلق كلهم عبيدك، كلفتهم العمل، ووعدتهم الأجر([71]).
35- وقال مالك بن دينار: يا هؤلاء فجاركم كثير صغاركم وكباركم فرحم الله من لزم القول الطيب، والعمل الصالح، والمداومة([72]).
36- وقال: كان يقال: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة([73]).
ونختم بقصة عجيبة:
روى أبو عبد الله بن باكويه الشيرازي قال جعفر بن سليمان: مررتُ أنا ومالكُ بنُ دينار بالبصرة، وإذا بشابٍّ من أحسنِ الشَّباب جالسٍ يَعْمُرُ قصرًا ويقول: افعلوا كذا وكذا، فتقدَّم إليه مالك، فسلَّم عليه، وقال: كم في عزمك أن تنفق على هذا القصر؟ فقال: مائة ألف درهم، فقال: ألا تُعطيني هذا المال أتصدَّقُ به، وأضمنُ لك على الله قصرًا في الجنّة بولْدانِه وقِبابِه وحُورِه وقُصورِه؟ فقال: أجِّلْني الليلة، فقال: نعم.
وبات مالك يدعو ليلتَه، ويبكي، فلما كان عند السَّحَر إذا بالشَّابِّ قد أقبلَ ومعه البَدْر، فدَعَا مالك بدواة وقرطاس، وكتب: هذا ما ضَمِنَ مالكُ بنُ دينار لفلان ابن فلان على الله قصرًا في الجنَّة، فيه كذا وكذا، ووصَفَه، وأخَذَ الشابُّ الكتاب، ودفعَ المال إلى مالك، ففرَّقَه في الفقراء والمساكين، وأرباب البيوت، ومضى على ذلك أربعون يومًا.
فبينا مالكٌ في محرابه قد صلَّى الفجر، وإذا بالكتاب مُلْقًى بين يديه، وفي ظهره مكتوب بالنور: هذه براءةٌ من العزيز الغفَّار لمالك بن دينار أنَّا وَفَّينا للشابِّ بالقصر الَّذي ضَمِنْتَه له، وزِدْناه سبعين قصرًا.
قال: ففزع مالك، وأخَذَ الكتاب، وقصدَ منزل الشّابّ، وإذا بالبابِ مسوَّد والصُّراخ في الدار، والنعي على الباب، فقال: ما هذا؟ قالوا: مات الشّابُّ البارحة، قال: مَنْ غَسَّلَه؟ قالوا: فلان، قال: عليَّ به، فجاء، فقال: أنتَ غسَّلْتَه؟ قال: نعم، قال: فما الَّذي أوصاك به قبل موته؟ قال: دفعَ إليَّ كتابًا، وقال: اجْعَلْه بين يديَّ وكَفَني، فجعلتُه، فأخرجَ مالكٌ الكتاب، وقال: أهذا هو؟ قال: إي والله، وصاحَ الغاسلُ وبكى، وارتفع الصياح في الدار والمحلَّة، فقال شابٌّ من جيرانه: يا مالك، خُذْ منِّي مئتي ألف درهم، واضْمَنْ لي على الله مثلَ هذا، فقال: هيهات هيهات! كان ما كان([74]).