احتساب الفضيل بن عياض رحمه الله
(105 – 187 هـ = 723 – 803 م)
اسمه:
هو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي، شيخ الحرم المكيّ، ولد في سمرقند، ونشأ بأبيورد، ودخل الكوفة، وهو كبير، وأصله منها، ثم سكن مكة، وتوفي بها([1]).
مناقبه وفضله:
الفضيل بن عياض، من أكابر العباد، الصلحاء، كان ثقة في الحديث، أخذ عنه خلق، منهم الإمام الشافعي.
قال عنه ابن المبارك: “ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض”([2]).
وقال عنه شريك: “لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه”([3]).
وقال عنه الذهبي: “الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، الإمام، القدوة، الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي التميمي، اليربوعي، الخراساني، المجاور بحرم الله”([4]).
وقال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين.
وعن ابن المبارك، قال: إذا نظرت إلى الفضيل جدَّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي، ثم بكى([5]).
وقال عنه أبي علي الرازي: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكًا، ولا متبسمًا، إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: “إن الله عز وجل أحب أمرًا، فأحببت ما أحب الله”([6]).
وعن عبد الله بن محمد الهباري قال: اعتل فضيل بن عياض، فاحتُبس عليه البول، فقال: “بحبي إياك لما أطلقته قال: فبال”([7]).
وعن الحارث قال: قال لي ابن المبارك: “قد جمعت العلماء، فليس فيما جمعت أحب إلي من علم الفضيل بن عياض”([8]).
أسند الفضيل عن أعلام التابعين وعلمائهم، منهم سليمان الأعمش، ومنصور بن المعتمر، أدركا أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهم، ومنهم عطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، ومسلم الأعور، وأبان بن أبي عياش، وكلهم أدركوا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
وروى عن الفضيل الأعلام والأئمة منهم: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وحسين بن علي الجعفي، ومؤمل بن إسماعيل، وعبد الله بن وهب المصري، وأسد بن موسى، وثابت بن محمد العابد، ومسدد، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد، وأشكالهم، ونظراؤهم([9]).
سيرته الاحتسابية
كان للفضيل بن عياض سيرة احتسابية عجيبة، نذكر جانبًا من مواقفه، ومنها:
1- إنكاره على نفر من أصحاب الحديث:
عن محمد بن الطفيل، قال: رأى فضيل بن عياض قومًا من أصحاب الحديث يمزحون، ويضحكون، فناداهم: “مهلًا يا ورثة الأنبياء، مهلًا ثلاثًا، إنكم أئمة يقتدى بكم”([10]).
2- إنكاره على رجل يشكو إلى آخر:
قال الأصمعي: نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل، فقال: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك!([11]).
3- إنكاره على هارون الرشيد:
عن يحيى بن يوسف الزمي، عن الفضيل بن عياض قال: “لما دخل على هارون أمير المؤمنين قال: أيكم هو؟ قال: فأشاروا إلى أمير المؤمنين، فقال: أنت هو يا حسن الوجه، لقد وليت أمرًا عظيمًا، إني ما رأيت أحدًا هو أحسن وجهًا منك، فإن قدرت أن لا تسود هذا الوجه بلفحة من النار فافعل، فقال لي: عظني، فقلت: ماذا أعظك؟ هذا كتاب الله تعالى بين الدفتين انظر ماذا عمل بمن أطاعه، وماذا عمل بمن عصاه.
وقال: إني رأيت الناس يغوصون على النار غوصًا شديدًا، ويطلبونها طلبًا حثيثًا، أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها، أو أيسر لنالوها، فقال: عد إليَّ، فقال: لو لم تبعث إلي لم آتك، وإن انتفعت بما سمعت مني عدت إليك”([12]).
4- إنكاره على رجلٍ يضحك:
عن إسحاق بن إبراهيم، قال: رأى فضيل بن عياض رجلًا يضحك، فقال: “ألا أحدثك حديثًا حسنًا؟ قال: بلى، قال: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]([13]).
5- إنكاره على رجل غافل:
عن الحسن بن علي العابد، قال: قال فضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ، فقال الرجل: يا أبا علي إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلم ما تقول، قال الرجل: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل تعلم ما تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: قولك إنا لله، تقول: أنا لله عبد، وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله، وأنه إليه راجع، فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف، فليعلم بأنه مسئول، ومن علم أنه مسئول، فليعدَّ للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى، وما بقي، فإنك إن أسأت فيما بقي أُخِذْتَ بما مضى وما بقي”([14]).
6- إنكاره على وكيع:
قدم وكيع مكة حاجًّا، فرآه الفضيل بن عياض، وكان وكيع سمينًا، فقال الفضيل: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟!
فقال له وكيع: هذا من فرحتي بالإسلام، فأفحمه([15]).
7- إنكاره على من يجالس أصحاب المعاصي:
جاء أبو محمد السمرقندي إلى الفضيل، ومعه أولاد البرامكة، وعليهم قمص، لها جربانات عراض، فسألوه أن يحدثهم، فامتنع، فقام مغضبًا، فقال الفضيل: ردّوه فردّوه، فقال: بلغنا أن عيسى صلوات الله عليه قال: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إليه بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاه بسخطهم، فقيل: يا روح الله فمن نجالس؟ فقال: من تذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، وترغبكم في الآخرة مجالسته، قم فقد حدثتك([16]).
8- إنكاره على سفيان بن عيينة:
قيل للفضيل رحمه الله: إن سفيان بن عيينة قبل جائزة السلطان، فقال الفضيل: ما أخذ منهم إلا دون حقه، ثم خلا به، وعاتبه برفق، فقال: يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين، فإنا نحب الصالحين([17]).
أقواله ومروياته الاحتسابية
كان للفضيل بن عياض مواقف ومرويات احتسابية كثيرة، نشير إلى بعضها:
1- عن إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: “ذكر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إذا أعظمت أمتي الدنيا، نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي”([18]).
2- وعن إبراهيم بن نصر، قال: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: “كيف بك إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناسًا لا يُفرِّقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا؟”([19]).
3- وقال الفضيل: “حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك، قيل: وكيف ذاك يا أبا علي؟ قال: إن صديقك إذا ذكرت بين يديه قال: عافاه الله، وعدوك إذا ذكرت بين يديه يغتابك الليل والنهار، وإنما يدفع المسكين حسناته إليك، فلا ترض إذا ذكر بين يديك أن تقول: اللهم أهلكه، لا بل ادع الله: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، ويكون الله يعطيك أجر ما دعوت به، فإنه من قال لرجل: اللهم أهلكه فقد أعطى الشيطان سؤاله؛ لأن الشيطان إنما يدور على هلاك الخلق”([20]).
4- وعن إبراهيم قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: “لأن يدنو الرجل من جيفة منتنة خير له من أن يدنو إلى هؤلاء يعني السلطان”.
وقال أيضًا: “رجل لا يخالط هؤلاء، ولا يزيد على المكتوبة أفضل عندنا من رجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ويحج ويعتمر ويجاهد في سبيل الله، ويخالطهم”([21]).
وعن عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: “ما لكم وللملوك ما أعظم منهم عليكم، قد تركوا لكم طريق الآخرة، فاركبوا طريق الآخرة، ولكن لا ترضون تبيعونهم بالدنيا، ثم تزاحمونهم على الدنيا، ما ينبغي لعالم أن يرضى هذا لنفسه”([22]).
5- وعن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: “يغفر الله للجاهل سبعين ذنبًا، ما لم يغفر للعالم ذنبًا واحدًا”([23]).
6- وعن عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل يقول: “من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه”([24]).
وعن عبد الصمد بن يزيد الصايغ مردويه قال: قال الفضيل: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة، أورثه الله العمى، يعني في قلبه”([25]).
7- وعن عبد الصمد، قال: سمعت الفضيل يقول: “إذا رأيت مبتدعًا في طريق، فخذ في طريق آخر”([26]).
8- وعن عبد الصمد بن يزيد، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: “من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام” قال: وسمعت رجلًا قال للفضيل: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها([27]).
9- وقال الفضيل: ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من شاء؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام (68)]([28]).
10- وعن عبد الصمد بن يزيد الصايغ، قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: “الزموا في آخر الزمان الصوامع، يعني البيوت، فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه” قال: وسمعت الفضيل يقول:
حتى متى لا نرى عدلًا نسر به *** ولا نرى لدعاة الحق أعوانا
قال: ثم بكى الفضيل، وقال: “اللهم أصلح الراعي والرعية”([29]).