احتساب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(661 – 728 هـ = 1263 – 1328 م)
اسمه:
هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقيّ الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية، الإمام، شيخ الإسلام.
نشأته:
ولد في حران، وتحول به أبوه إلى دمشق، فنبغ واشتهر، وطُلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها، فسُجن مدة، ونُقل إلى الإسكندرية، ثم أُطلق، فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ، واعتُقل بها سنة 720ه، وأُطلق، ثم أُعيد، ومات معتقلاً بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته، وكانت وفاته عن سبع وستين سنة، تغمده الله برحمته.
علمه ومكانته وما قيل عنه:
كان -رحمه الله- كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان، ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرّس وهو دون العشرين، وله تصانيف تزيد على أربعة آلاف كراسة، منها (السياسة الشرعية) و(الفتاوى) و(الإيمان) و(الجمع بين النقل والعقل) و(منهاج السنة) و(الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(مجموع رسائل) و(الرد على الأخنائي) و(رفع الملام عن الأئمة الأعلام) و(شرح العقيدة الأصفهانية) و(التوسل والوسيلة) و(نقض المنطق) وغيرها كثير([1]).
قال الإمام أبو المظفر السرمري، في المجلس السابع والستين من أماليه، في الذكر والحفظ:
“ومن عجائب ما وقع في الحفظ في أهل زماننا شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، فإنه كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة، فينتقش في ذهنه، فيذاكر به، وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه، ومن أعجب ما سمعته عنه ما حدثني به بعض أصحابه أنه لما كان صبياً في بداية أمره أراد والده أن يخرج بأولاده يوماً إلى البستان على سبيل التنزه، فقال له: يا أحمد تخرج مع إخوتك تستريح؟! فاعتل عليه، فألح عليه والده، فامتنع أشد الامتناع، فقال: اشتهي أن تعفيني من الخروج، فتركه، وخرج بإخوته، فظلوا يومهم في البستان، ورجعوا آخر النهار، فقال: يا أحمد أوحشت إخوتك اليوم، وتكدر عليهم بسبب غيبتك عنهم، فما هذا؟! فقال: يا سيدي إنني اليوم حفظتُ هذا الكتاب -لكتاب معه-، فقال: حفظته؟! كالمنكر المتعجب من قوله، فقال له: استعرضه عليّ، فاستعرضه، فإذا به قد حفظه جميعه، فأخذه وقبَّله بين عينيه، وقال: يا بني لا تخبر أحداً بما قد فعلتَ، خوفاً عليه من العين، أو كما قال([2]).
وقال عنه ابن ناصر الدين (ت: 842هـ): “بحر زاخر في النقليات، وحبر ماهر في حفظ عقائل العقليات، وإمام في معرفة الكتاب والسنة، وهمام لا يميل الى حلاوة من المنة، كان ذا ورع زائد، وزهد فرعه في روض الرضا مائد، وسخاء وشجاعة وعزلة وقناعة، وتصانيف مشهورة، وفتاوى أعلامها منشورة، يصدع بالحق، ويتكلم فيما جل ودق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويثابر على إقامة الحدود إن شكر، وإن لم يشكر، كتب قاضي القضاة أبو المعالي محمد بن الزملكاني على بعض مصنفاته:
ماذا يقول الواصفون له *** وصفاته جلت عن الحصرِ؟!
هو حجة لله قاهرة *** هو بيننا أعجوبة العصرِ
هو آية للخلق ظاهرة *** أنوارها أربت على الفجر([3]).
وجاء في ترجمة (أبو بكر بن بهادر بن سنقر) -الشاعر أسد الدين، أنه كان شيعياً، وكان يلقب أسد الدين، وسيف الدين، ويقال: كان صحيح العقيدة إلا أنه يحب أهل البيت، وكان يدعى أنه يجتمع بالجن-: إنه اجتمع بابن تيمية، فقال له: بلغني أنك تفضل بلالاً على علي، فقال ابن تيمية: أنا ما فضلته، ولكن الله فضله، قال: في أين؟ قال: في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد (10)] فقال له: في الاستدلال بهذه الآية على المدعي نظر، قال: اجلس أقرره لك، فأبى وقال: بلغني أنك ما ناظرت أحداً فقطعك([4]).
وقال عنه الذهبي: “شيخنا الإمام، تقي الدين، أبو العباس الحراني، فريد العصر علماً، ومعرفة، وذكاء، وحفظاً، وكرماً، وزهداً، وفرط شجاعة، وكثرة تآليف، والله يصلحه، ويسدده، فلسنا -بحمد الله- ممن نغلو فيه، ولا نجفو عنه، ما رئي كاملاً مثل أئمة التابعين وتابعيهم، فما رأيته إلا ببطن كتاب…، ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يقاربه([5]).
وقال ابن الوردي: “قال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيتُ رجلاً كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد، ويدع ما يريد، وحضر عنده شيخ النحاة أبو حيان وقال: ما رأتُ عيناي مثله، وقال فيه على البديهة أبياتا منها:
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا *** مقام سيد تيم إذ عصت مضرُ
فأظهر الحق إذ آثاره درست *** وأخمد الشر إذ طارت له الشررُ
كنا نحدث عن حبر يجيء فها *** أنت الإمام الذي قد كان ينتظرُ
انتهى ملخصاً.
وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفتُ بين الركن والمقام لحلفتُ إني ما رأيتُ بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العالم، وكان فيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، ولم يكن من رجال الدول، ولا يسلك معهم تلك النواميس، وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أبناء زماننا، ولا علومهم، كمسألة التكفير في الحلف بالطلاق، ومسألة أن الطلاق بالثلاث لا يقع إلا بواحدة، وأن الطلاق في الحيض لا يقع.
وساس نفسه سياسة عجيبة، فحبس مرات بمصر، ودمشق، والإسكندرية، وارتفع وانخفض…، وعسى أن يكون ذلك كفارة له، وكم وقع في صعب بقوة نفسه وخلصه الله، وله نظم وسط، ولم يتزوج، ولا تسرى…، وكان أخوه يقوم بمصالحة، وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالباً وما كانت الدنيا منه على بال، وكان يقول في كثير من أحوال المشايخ: إنها شيطانية، أو نفسانية، فينظر في متابعة الشيخ الكتاب والسنة، فإن كان كذلك فحاله صحيح، وكشفه رحماني غالباً…، وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات، ومن أعجب العجب، وكم عوفي من الصراع الجني إنسان بمجرد تهديده للجني، وجرت له في ذلك فصول، ولم يفعل أكثر من أن يتلو آيات، ويقول: إن لم تنقطع عن هذا المصروع، وإلا علمنا معك حكم الشرع، وإلا عملنا معك ما يرضي الله ورسوله([6]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان شيخ الإسلام مدرسة عظيمة في الحسبة، فقد كان محتسباً عظيماً، قلّ أن تجد من العلماء مثله في هذا الشأن، ومن مواقفه الاحتسابية:
1- إنكاره على الفرق المخالفة:
قال ابن كثير (ت: 774هـ) في البداية والنهاية:
“وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة، بالقصر الأبلق، وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية، فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكن، ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولاً وفعلاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه، فأرادوا أن يفعلوا شيئاً من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولاً إلى الحمام، وليغسل جسده غسلاً جيداً، ويدلكه بالخل والأشنان، ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقاً، ولو فرض أن أحداً من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل، فإن ذلك لا يدل على صلاحه، ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة، إذا كان صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك، فابتدر شيخ المنيبع الشيخ الصالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر، ليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضُربت عنقه، وصنف الشيخ جزءاً في طريقة الأحمدية، وبيّن فيه أحوالهم، ومسالكهم، وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم، ولله الحمد والمنة”([7]).
2- إنكاره على المتنبي بعض شعره:
قال ابن كثير (ت: 774هـ):
ومنها -أي من أشعار المتنبي- قوله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله **** ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره *** ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة، في مخلوق، ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله -سبحانه وتعالى-، وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم -رحمه الله- أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلتُ هذين البيتين في السجود، أدعو لله بما تضمناه من الذل والخضوع([8]).
3- إنكاره على من ينكر على قوم يشربون الخمر كون مفسدة شربهم أقل من صحوهم:
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (ت: 751هـ):
“سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول:
مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التتار، بقوم منهم، يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم”([9]).
4- إنكاره على السلطان:
قال ابن عبد الهادي الحنبلي (ت: 744هـ) في العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: “أمر عجيبٌ وقع من السلطان، في حق الشيخ تقي الدين؛ وذلك حين توجه السلطان إلى الديار المصرية، ومعه القضاة والأعيان ونائب الشام الأفرم، فلما دخل الديار المصرية، وعاد إلى مملكته، وهرب (سلار)([10]) الشنكير، واستقر أمر السلطان، جلس يوماً على دست السلطنة، وأبهة الملك، وأعيان الأمراء من الشاميين والمصريين حضور عنده، وقضاة مصر عن يمينه، وقضاة الشام عن يساره، وذكر لي كيفية جلوسهم منه كحسب منازلهم، قال: وكان من جملة من هناك ابن صصرى عن يسار السلطان، وتحته الصدر علي قاضي الحنفية، ثم بعده الخطيب جلال الدين، ثم بعده ابن الزملكاني، قال: وأنا إلى جانب ابن الزملكاني، والناس جلوس خلفه، والسلطان على مقعد مرتفع، فبينما الناس على ذلك جلوس؛ إذ نهض السلطان قائماً، فقام الناس، ثم مشى السلطان، فنزل عن تلك المقعدة، ولا ندري ما به، وإذا بالشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله- مقبل من الباب، والسلطان قاصد إليه، فنزل السلطان عن الإيوان، والناس قيام، والقضاة والأمراء والدولة، فتسالم هو والسلطان، وتكارشا، وذهبا إلى صفة في ذلك المكان، فيها شباك إلى بستان، فجلسا فيها حيناً، ثم أقبلا، ويد الشيخ في يد السلطان، فقام الناس، وكان قد جاء -في غيبة السلطان تلك- الوزيرُ فخر الدين بن الخليل، فجلس عن يسار السلطان، فوق ابن صصرى، فلما جاء السلطان جلس على مقعدته، وجاء الشيخ تقي الدين، فجلس بين يدي السلطان على طرف مقعدته متربعاً، فشرع السلطان يثني على الشيخ عند الأمراء والقضاة بثناء ما سمعته من غيره قط، وقال كلاماً كثيراً، والناس تقول معه ومثله القضاة والأمراء، وكان وقتاً عجيباً؛ وذلك مما يسوء كثيراً من الحاضرين من أبناء جنسه، وقال في الشيخ من الثناء والمبالغة ما لا يقدر أحد من أخص أصحابه أن يقوله، ثم إن الوزير أنهى إلى السلطان أن أهل الذمة قد بذلوا للديوان في كل سنة سبعمائة ألف درهم، زيادة على الجالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة، وأن يعفوا من هذه العمائم المصبغة كلها بهذه الألوان، التي ألزمهم بها ركن الدين الشاشنكير، فقال السلطان للقضاة: ومن هناك ما تقولون؟ فسكت الناس، فلما رآهم الشيخ تقي الدين سكتوا جثا على ركبتيه، وشرع يتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، ويرد ما عرضه الوزير عنهم رداً عنيفاً، والسلطان يسكته بترفق وتؤدة وتوقير، فبالغ الشيخ في الكلام، وقال: ما لا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، حتى رجع السلطان عن ذلك، وألزمهم بما هم عليه، واستمروا على هذه الصفة([11]).
5- إنكاره على بعض البدع:
ذكر خادم الشيخ إبراهيم الغياني، قال: “فبلغ الشيخ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المخلق الذي داخل (الباب الصغير) الذي عند (درب النافدانيين) فشد عليه، وقام واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبد الله بن تيمية، قال: فخرجنا لكسره, فسمع الناس أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلق، فاجتمع معنا خلق كثير”([12]).
6- إنكاره على المفتين غير المؤهلين:
قال ابن القيم (ت: 751هـ) في إعلام الموقعين عن رب العالمين:
“وكان شيخنا -أي ابن تيمية- رضي الله عنه، شديد الإنكار على هؤلاء -أي المفتين بغير علم-، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجُعلتَ محتسباً على الفتوى؟ فقلتُ له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟”([13]).
وقد بيّن ابن تيمية -رحمه الله- خطر هذا النوع من المنكرات -المنكرات الفكرية-، وذكر العديد من الأمثلة عليها، فقال: “فأما الغش والتدليس في الديانات، فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال…، ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-…، ومثل إظهار الخزعبلات السحرية، والشعبذة… فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك، وعقوبته عليها، إذ لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل، أو جلد، أو غير ذلك، وأما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولًا أو فعلًا”([14]).
7- إنكاره على تخلي السلطان عن الدفاع عن أهل الشام:
قال ابن كثير -رحمه الله-: “وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله تعالى- في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج، فثبتهم، وقوى جأشهم، وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج (60)] وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البزيد إلى مصر، يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل، فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة، وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام، إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام”([15]).
8- إنكاره على محلات الخمور:
قال ابن كثير -رحمه الله-: “وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله- وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور، وشققوا الظروف، وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك”([16]).
9- إنكاره على من يحتج بسيبويه:
ذُكر أن أبا حيان تكلم مع الشيخ تقي الدين بن تيمية في مسألة في النحو، فقطعه ابن تيمية فيها، وألزمه الحجة، فذكر أبو حيان كلام سيبويه، فقال ابن تيمية: يفشر سيبويه، أسيبويه نبي النحو أرسله الله به، حتى يكون معصوماً؟! سيبويه أخطأ في القرآن في ثمانين موضعاً، لا تفهمها أنت ولا هو، فأعرض عنه ورماه في تفسيره (النهر) بكل سوء([17]).
10- إنكاره على السلطان نيته قتل بعض القضاة:
قال ابن كثير -رحمه الله-: “وسمعتُ الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام؛ لما انفردا في ذلك الشباك، الذي جالسا فيه، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأخرج له فتاوى بعضهم عزله من الملك، ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك، وآذوك أنت أيضاً، وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله، ومبايعة الجاشنكير، ففهم الشيخ مراد السلطان، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له: إذا قتلتَ هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له إنهم قد آذوك، وأرادوا قتلك مراراً، فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله، فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح، قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنا، وحاجج عنا”([18]).
11- ومن مواقفه الاحتسابية خروجه للجهاد بنفسه مراراً، وهو من أعظم الاحتساب:
قال ابن كثير: “وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق فسار إليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعاً فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً”([19]).
وقال ابن كثير: “وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضاً عن جمال الدين بن الباجريقي، وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية، ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم، وثبوا عليهم، ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيراً منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم، وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند، ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يديدون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله”([20]).
12- إنكاره على السلطان دعاءه غير الله:
قال ابن الوردي: “قال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: ولما جاء السلطان إلى شقحب والخليفة لأقاهما إلى قرن الحرة، وجعل يثبتهما، فلما رأى السلطان كثرة التتر، قال: يا خالد بن الوليد، قال -أي ابن تيمية-: قل: يا مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين، وقال للسلطان: اثبت، فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال، انتهى ملخصاً”([21]).
13- إنكاره على القاضي الحنفي الأشعري:
قام على ابن تيمة الحساد من أهل الطوائف، ومن جعل علم الكلام والفلسفة يفضل كلام الله ورسوله في الاستدلال، ورموه بما هو منه بريء، كبراءة الذئب من دم يوسف، ولكن الذي يلفت النظر أن أحداً منهم لم يستطع أن يرد عليه، أو يناظره إنما شكوه إلى القاضي جلال الدين الحنفي، وهو أشعري المذهب، أو ماتريدي، وأرسل القاضي في طلب الشيخ ابن تيمية، فلم يحضر، إنما رد عليه في رسالة قائلاً: “إن العقائد أمرها ليست إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي وحده([22]).
أقواله وآراؤه وتقريراته الاحتسابية
كان لشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس، وتقريرات فريدة، وأقوال عظيمة، في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى صارت هذه الأقوال والتقريرات بمثابة قواعد وضوابط يُستأنس بها في هذا الشأن، ومنها:
1- المظهر للمنكر يستحق الإنكار عليه علانية:
قال -رحمه الله-: “إذا أظهر الرجل المنكرات، وجب الإنكار عليه علانية، ولم يبقَ له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية، بما يردعه عن ذلك، من هجر وغيره، فلا يسلم عليه، ولا يرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة”([23]).
2- أقسام الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال -رحمه الله-: “فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام:
قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلباً لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة، وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة، وهذه الفتنة المذكورة في سورة براءة، دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية، وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله،
وتكون كلمة الله هي العليا؛ لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب، وترك المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعاً، أو تركهما جميعاً، مثل كثير ممن يحب الرئاسة، أو المال وشهوات الغي، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ذلك فلا بد أن يفعل شيئاً من المحظورات، فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظم أجراً من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجراً لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا، وتفصيل ذلك يطول”([24]).
3- الدين هو الأمر والنهي:
قال: “بل الدين هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه؛ إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العلم السيئ، أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظًا للعمل الصالح”([25]).
4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين:
قال: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله من الدين، فإن رسالة الله: إما إخبار، وإما إنشاء، فالإخبار عن نفسه وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد، والإنشاء الأمر والنهي والإباحة، وهذا كما ذكر في أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص (1)] تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد؛ إذ هو قصص وتوحيد وأمر، وقوله سبحانه في صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم-: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف (157)] هو بيان لكمال رسالته؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث”([26]).
5- الاهتداء لا يكون إلا بالقيام بالأمر والنهي:
قال: “الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة، فليس من المعروف، وما لم تنه عنه، فليس من المنكر، وإذا كانت آمرة بكل معروف، ناهية عن كل منكر، فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر، أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران (104)].
وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعها؛ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه، كان التفريط منهم لا منه، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن؛ ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته”([27]).
وقال: “فالصديق أنكر على من ظن أنها تسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ذلك واجب بحسب الاستطاعة، قال أبو عبيد: خاف الصديق -رضي الله عنه- أن يتأول الناس الآية على غير تأويلها، فتدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فأعلمهم أنها ليست كذلك، وابن مسعود وأولئك بينوا أن في زمانهم يمكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر باللسان لاجتماع القلوب، ووجود الأعوان على ذلك، وأنه عند التفرق والاختلاف وعجز الإنسان عن الإنكار باليد واللسان”([28]).
6- اعتبار المصلحة والمفسدة في الأمر والنهي:
قال: “وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل، ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة (105)] والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضُلَّال”([29]).
وقال: “لكن إذا كان الشخص أو الطائفة لا تفعل مأموراً إلا بمحظور أعظم منه، أو لا تترك مأموراً إلا لمحظور أعظم منه لم يأمر أمراً يستلزم وقوع محظور راجح، ولم ينه نهياً يستلزم وقوع مأمور راجح، فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي بعثت به الرسل، والمقصود تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزماً من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعاً وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من اهل الأهواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي اعظم فساداً مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدفع أدنى الفسادين باعلاهما، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما”([30]).
7- تفريط الأمراء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال: “وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم”([31]).
8- الأمر والنهي من أفضل وأجب الأعمال:
قال: “وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك (2)] وهو كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده، كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك))([32]) “([33]).
9- حاجة الآمر والناهي إلى الصبر:
قال: “ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة؛ فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بعد أن أنزلت عليه سورة اقرأ التي بها نبئ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر (1 – 7)]”([34]).
10- ترك الأمر والنهي بحجة السلامة من الفتنة:
قال -رحمه الله-: “ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة (49)] وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجهز لغزو الروم، وأظنه قال: هل لك في نساء بني الأصفر؟ فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فأذن لي ولا تفتني، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر، وجاء فيه الحديث: ((إن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر))([35])، فأنزل الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة (49)] يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور، ومجاهدة نفسه عنه، فيتعذب بذلك، أو يواقعه فيأثم…”([36]).
11- حاجة الناس للأمر والنهي:
قال: “وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف (53)] فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه، ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر، وتناه عن أمر…، وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويؤمر وينهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله، وإذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً، وهذا كما أن كل بشر، فإنه متحرك بإرادته همام حارث، فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملاً صالحاً لوجه الله وإلا كان عملاً فاسداً أو لغير وجه الله، وهو الباطل”([37]).
12- منزلة الإخلاص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال: “فصل: وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب، والعمل الصالح، في الأمور العلمية والأمور العبادية؛ ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم: رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس: هو عالم وقارئ، ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس: هو شجاع وجريء، ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس: جواد سخي))([38])، فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين، فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقاً، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وقتل كان شهيداً، ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحاً؛ ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت، كما قال ابن عباس: من أعطي مالاً فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت، وقرأ قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون (10)]…، ويحتاج أيضاً أن يؤمر بذلك لأمر الله، وينهى عنه لنهي الله، ويخبر بما أخبر الله به؛ لأنه حق وإيمان وهدى، كما أخبرت به الرسل، كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله، فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية، أو لإظهار العلم والفضيلة، أو لطلب السمعة والرياء، كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء”([39]).
13- الأمر والنهي بحسب الإمكان:
قال: “ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر بِحَسب إظهار السّنة والشريعة والنهي عن البدعة والضلالة، بِحَسب الإمكان، كما دلّ على وجوب ذلك الكتاب والسّنة، وإجماع الأمة”([40]).
14- حكم الأمر والنهي:
قال: “وكذلك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن؛ ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته”([41]).
15- الرفق أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال: “والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم الفساد والمفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم؛ إذ لمؤمن عليه أن يتقى الله في عباد الله، وليس عليه هداهم”([42]).
وقال: “فلا بد من هذه الثلاثة العلم والرفق والصبر العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لا بد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فما ينهي عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه” وليعلم أن اشتراط هذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبته على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه؛ وذلك قد يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال، أو أقل، فإن ترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهى عنه في الأمر معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار، والمنتقل من معصية إلى معصية، كالمتنقل من دين باطل إلى دين باطل، قد يكون الثاني شراً من الأول، وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي، والمعتدي فيه، قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب ذاك أعظم، وقد يكونان سواء…”([43]).
16- مراتب الأمر والنهي:
قال -رحمه الله-: “فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال؛ وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد”([44]).
17- العلاقة بين الدعوة والحسبة:
قال: “وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب مستدع مقتضٍ لما دعي إليه؛ وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب للفعل المأمور به، واستدعاء له، ودعاء إليه”([45]).
18- تميز هذه الأمة بهذه الشعيرة:
قال -رحمه الله-: “ففي أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ما لم يوجد مثله في الأمتين”([46]).
19- الحسبة والعقوبات الشرعية:
قال -رحمه الله-: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية، فإن الله ينزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”([47]).
20- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولاية شرعية:
قال -رحمه الله-: “وإذا كان جماع الدين، وجميع الولايات، هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله، هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة (71)] وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هي السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن (16)]”([48]).
21- الحسبة من أعمال أهل الجنة:
قال: “ومن أعمال أهل الجنة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين”([49]).
22- ولاة الأمر أحق بالقيام بهذه الشعيرة:
قال: “وولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما جاء به من الهدى، ودين الحق، وبإنكار ما نهى عنه، وما نسب إليه بالباطل من الكذب والبدع، إما جهلاً من ناقله، وإما عمداً، فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأس المعروف هو التوحيد، ورأس المنكر هو الشرك([50]).
23- قاعدة احتسابية:
قال: “لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه، بخلاف ما أمر الله به الأنبياء، وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها كدعوة موسى….”([51]).
24- قاعدة احتسابية:
قال -رحمه الله-: “لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل، فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله، ونحو ذلك، وهو قادر على دفعه، فله دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى وتاب منه؛ فإن هذا مقام الصبر والحلم والكمال في هذا الباب حال نبينا -صلى الله عليه وسلم-“([52]).
25- مقصود جميع الولايات القيام بهذه الشعيرة:
قال: “وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى: مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة: وولاية الحكم؛ أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية؛ وولاية الحسبة، لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن؛ والمطلوب منه الصدق؛ مثل الشهود عند الحاكم؛ ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف؛ والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال. ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع؛ والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال: تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام (115)]…”([53]).
26- من كمال رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتمالها على الأمر والنهي:
قال: “وقوله سبحانه في صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم-: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف (157)] هو بيان لكمال رسالته؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر؛ وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث”([54]).
27- منزلة الصبر عند الأمر والنهي:
قال: “الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي، أو مثلها، أو قريب منها، وكلاهما معصية وفساد، قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان (17)] فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة، وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر”([55]).
28- موقف الفِرَق من هذه الشعيرة:
قال: “فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم -أي الولاة-، والخروج عليهم، إذا فعلوا ما هو ظلم، أو ما ظنوه هم ظلمة، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك؛ ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان، وقد صنف القاضي أبو يعلى كتاباً مفرداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صنف الخلال والدارقطني ذلك…”([56]).
29- ليس للمحتسب حمل الناس على مذهبه:
قال: “وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر، فلا إنكار عليه، ونظائر هذه المسائل كثيرة: مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشرته، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة، والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه، إذا لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين، والقهقهة، وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً، وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة…”([57]).
30- بيانه لمعنى حديث: ((ليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان))([58]):
قال: “فإن مراده أنه لم يبقَ بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان، حتى يفعله المؤمن؛ بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من الإيمان حبة خردل؛ ولهذا قال: ((ليس وراء ذلك)) فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم، بحسب استطاعتهم، مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم…”([59]).
31- المحتسب إن لم يكن إماماً ليس له التعزير بالقتل:
قال -رحمه الله-: “فإن المحتسب ليس له القتل والقطع”([60]).
32- صلاحية المحتسب:
قال: “وأما المحتسب فله الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مما ليس من خصائص الولاة والقضاة، وأهل الديوان، ونحوهم، وكثير من الأمور الدينية هو مشترك بين ولاة الأمور، فمن أدى فيه الواجب وجبت طاعته فيه، فعلى المحتسب أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصلِ بالضرب والحبس، وأما القتل فإلى غيره، ويتعهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة، أو خرج عن الأذان المشروع ألزمه بذلك، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والحكم، وكل مطاع يعين على ذلك؛ وذلك أن الصلاة هي أعرف المعروف من الأعمال، وهي عمود الإسلام، وأعظم شرائعه، وهي قرينة الشهادتين، وإنما فرضها الله ليلة المعراج، وخاطب بها الرسول بلا واسطة، لم يبعث بها رسولاً من الملائكة، وهي آخر ما وصّى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، وهي المخصوصة بالذكر في كتاب الله تخصيصاً بعد تعميم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الأعراف (170)] وقوله: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت (45)]”([61]).
33- الاحتساب من الطاعة المحبوبة إلى الله:
قال: “ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، رافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه”([62]).
34- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضله ووجوبه:
قال: “والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية، باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات، ومن الناس من يكون ذلك لهواه، لا لله، وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه: مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد؛ لأن كل واحد يضرب غيره، ويدعي أنه استحق ذلك؛ فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه، وكذلك دقيق العلم الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وجماع الأمر في ذلك بحسب قدرته، وإنما الخلاف فيما إذا غلب على ظن الرجل أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يطاع فيه هل يجب عليه حينئذٍ؟ على قولين: أصحهما أنه يجب وإن لم يقبل منه إذا لم يكن مفسدة الأمر راجحة على مفسدة الترك، كما بقي نوح -عليه السلام- ألف سنة إلا خمسين عاماً ينذر قومه؛ ولما قالت الأمة من أهل القرية الحاضرة البحر لواعظي الذين يعدون في السبت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف (164)] أي: نقيم عذرنا عند ربنا، وليس هداهم علينا، بل الهداية إلى الله”([63]).
35- الأمر بالمعروف يدخل في مفهوم العبادة الشامل:
قال: “العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، الوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار…، وأمثال ذلك من العبادة”([64]).
36- إجماع الأمة هو الميزان في إدراك المعروف والمنكر:
قال: “ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم، أو إسقاط واجب؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى؛ أو خلقه بباطل لكانوا متصفين بالأمر بمنكر، والنهي عن معروف، من الكلم الطيب، والعمل الصالح؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف، وما لم تنه عنه فليس من المنكر، وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر، فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر، أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقد أوجب ذلك على الكفاية منها، بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران (104)] وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر، ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة، فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم، ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه”([65]).
فهذه نبذة يسيرة في الحسبة عند شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وهو بحر لا ساحر له في هذا الشأن، ولكنها إشارة سريعة، تفيد من أراد التوسع والتخصص في هذا الأمر.
ومن إسهامات شيخ الإسلام في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنه ألف مؤلفات متخصصة فيها، منها:
– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد طبع عدة طبعات.
– الحسبة، وقد طبعت أيضاً عدة طبعات.
كما كان له أعوان وأتباع في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال ابن كثير في ترجمة السيد الشريف عماد الدين الخشاب: “وكان رجلاً شهماً، كثير العبادة، والمحبة للسنة وأهلها، ممن واظب الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- وانتفع به، وكان من جملة أنصاره وأعوانه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو الذي بعثه إلى صيدنايا مع بعض القسيسين، فلوث يده بالعذرة، وضرب اللحمة التي يعظمونها هناك، وأهانها غاية الإهانة؛ لقوة إيمانه وشجاعته، رحمه الله وإيانا”([66]).
كما ظهرت شخصية الإمام ابن تيمية الجهادية والاحتسابية والسياسية في الحروب المختلفة التي شارك فيها بنفسه، ومنها الحرب الغازانية سنة (699ه) بعد هزيمة الجيوش المِصْرِية والشامية، أمام غزو غازان سلطان المغول في موقعة الخزندار، فقد قابل ابن تيمية غازان، وكلمه كلاماً شديداً، وعمل على ثبات البلاد، حينما خلت من الجيوش القادرة على رد الغزو المدمر، فكان يدور على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط، وأقام معسكرات التدريب في كل مكان، ومنها المدارس، فكان المحدثون والفقهاء يتعلمون الرمي، ويستعدون لقتال العدو، كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره([67]).
فرحمه الله رحمة واسعة.
([1]) انظر ترجمته في: العبر في خبر من غبر (3/349) والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية (ص: 23) والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/168) والأعلام للزركلي (1/144) وغيرها.
([17]) بغية الوعاة (1/282) وطبقات المفسرين للداوودي (2/289) والشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية (ص: 32) والرد الوافر (ص: 65).