احتساب العز بن عبد السلام رحمه الله
(577 – 660 هـ = 1181 – 1262 م)
اسمه:
هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقيّ، عز الدين، الملقب بسلطان العلماء، فقيه شافعيّ، بلغ رتبة الاجتهاد.
نشأته:
ولد ونشأ في دمشق، وزار بغداد سنة (599هـ) فأقام شهراً، وعاد إلى دمشق، فتولى الخطابة والتدريس، بزاوية الغزالي، ثم الخطابة بالجامع الأموي، فخرج إلى مصر، فولاه صاحبها الصالح نجم الدين أيوب القضاء والخطابة، ومكّنه من الأمر والنهي، ثم اعتزل ولزم بيته، وتوفي بالقاهرة.
علمه ومكانته:
العز بن عبد السلام من كبار العلماء، ومن كبار المحتسبين، قال عنه السبكي:
“عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي، شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم يرَ مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله، علماً وورعاً وقياماً في الحق وشجاعة، وقوة جنان، وسلاطة لسان”([1]).
وعن الشيخ جمال الدين ابن الحاجب أنه قال: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي([2]).
وقال العلامة الفقيه الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي: (772هـ) في ترجمة العز:
“الشيخ عز الدين… كان -رحمه الله- شيخ الإسلام علماً وعملاً، وورعاً، وزهداً وتصانيف، وتلاميذ، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول، وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار”([3]).
وقال عنه ابن كثير: “وفاق فيه الأقران والأضراب، وجمع من فنون العلوم العجب العجاب، من التفسير والحديث والفقه والعربية والأصول، واختلاف المذاهب والعلماء، وأقوال الناس ومآخذهم، حتى قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف المصنفات المفيدة، واختار وأفتى بالأقوال السديدة، وقد سمع الحديث من ابن طبرزد، والقاسم ابن عساكر، وحنبل، وأبي القاسم ابن الحرستاني، وغيرهم، وعنه الشيخ شرف الدين الدمياطي، وخرج له أربعين حديثاً عوالي، والقاضي تقي الدين بن دقيق العيد”([4]).
ومن مصنفاته: (التفسير الكبير) و(الإلمام في أدلة الاحكام) و(قواعد الشريعة) و(الفوائد) و(قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) و(ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام) و(بداية السول في تفضيل الرسول) و(الفتاوي) و(الغاية في اختصار النهاية) و(الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز) و(الفرق بين الإيمان والإسلام) و(مقاصد الرعاية) وغير ذلك، وكان من أمثال مصر: “ما أنت إلا من العوام، ولو كنت ابن عبد السلام”([5]).
وكان للشيخ ابن عبد السلام عظمة عند العامة والخاصة، وهيبة عظيمة لدى الملوك وغيرهم.
ومما يدل على منزلته الرفيعة عندهم أن الملك الظاهر بيبرس لم يبايع واحداً من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم، إلا بعد أن تقدمه الشيخ عز الدين للمبايعة، ثم بعده السلطان، ثم القضاة؛ ولما مرت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك مني([6]).
سيرته الاحتسابية
اشتهر العز بن عبد السلام بحسبته العظيمة على الملوك وغيرهم، وقد قال عنه ابن كثير:
“كان العز بن عبد السلام آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وقد ولي الخطابة بدمشق بعد الذيلعي، فأزال أشياء كثيرة من بدع الخطباء، ولم يلبس سوداً، ولا سجع خطبة، بل كان يقولها مسترسلاً، واجتنب الثناء على الملوك، بل كان يدعو لهم، وأبطل صلاة الرغائب والنصف، فوقع بينه وبين شيخ دار الحديث الإمام أبي عمرو بن الصلاح بسبب ذلك، وبرز الشيخ عز الدين في إصابة الحق، ولم يكن يؤذن بين يديه يوم الجمعة إلا مؤذن واحد، وكان المؤذنون يقولون بعد المكتوبة الآية في الأمر بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الحديث في صحيح مسلم عن عبد الله بن الزبير، ولحديث المغيرة في الصحيح”([7]).
ولنشر إلى بعض مواقفه الاحتسابية التي منها:
1- إنكاره على السلطان انتشار بيع الخمور:
قال تاج الدين السبكي (ت: 771هـ) في طبقات الشافعية الكبرى:
“سمعتُ الشيخ الإمام -رحمه الله- يقول: سمعتُ شيخنا الباجي يقول: طلع شيخنا عز الدين -أي ابن عبد السلام- مرة إلى السلطان، في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العساكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، على عادة سلاطين الديار المصرية، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يدي السلطان، فالتفتَ الشيخ إلى السلطان وناداه: يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟
فقال: هل جرى هذا؟!
فقال: نعم، الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، يناديه كذلك بأعلى صوته، والعساكر واقفون.
فقال: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال: أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف (22)] فرسم السلطان بإبطال تلك الحانة، سمعتُ الشيخ الإمام يقول: سمعتُ الباجي يقول: سألتُ الشيخ لما جاء من عند السلطان، وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردتُ أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه، فتؤذيه، فقلتُ: يا سيدي أما خفته؟ فقال: والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى، فصار السلطان قدامي كالقط”([8]).
2- إنكاره السلطان أخذ الأموال من الناس:
قال الذهبي (ت: 748هـ) في تاريخ الإسلام:
“فجمع قطز الأمراء والأعيان، فحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والقاضي بدر الدين السنجاري، وجلس الملك المنصور في دست السلطنة، فاعتمدوا على ما يقوله الشيخ عز الدين، فكان خلاصته:
إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يُؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهادهم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، ويتساووا في ذلك هم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا”([9]).
3- إنكاره تصرفات ومعاملات الولاة وهم أرقاء:
ومن مواقف العز بن عبد السلام الاحتسابية: ما ذكره عنه محمد بن علي بن أحمد شمس الدين الداودي المالكي (ت: 945هـ) في طبقات المفسرين، حيث قال:
“وبالغ في القيام بالأمر بالمعروف، وشدّد في ذلك، حتى شجر بينه وبين الأمراء كلام في هذا المعنى، فقال لهم: أنتم الآن أرقاء، لا ينفذ لكم تصرف، وقد عزمتُ على بيعكم، فشق ذلك عليهم، واستشاطوا غضباً، وهمّوا بالإيقاع به، وقال بعضهم: كيف ينادي علينا ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنّه، وشهر سيفه وركب في جمع من خدمه، حتى أتى بيت الشيخ، وسيفه مشهور بيده، وطرق الباب، فخرج عبد اللطيف بن الشيخ، فلمّا رآه على تلك الحالة رجع إلى أبيه وأخبره بما رأى، فخرج غير مكترث، وقد اشتد جزع الولد، فقال له: يا بني أبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله، فعند ما عاينه الأمير هابه، وسقط السّيف من يده، وبكى، ثم نزل عن فرسه، وأخذ يقبّل يد الشيخ، ويسأله الدعاء، ويستغفر مما كان منه، ثم قال: يا سيّدي، خبّرنا إيش تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال:
فثمننا في أي شيء تصرفه؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟
قال: أنا، وانصرف، فلم يزل إلى أن نادى عليهم واحداً بعد واحد، وبالغ في إشهارهم في النداء، وحمل ثمنهم لبيت المال، فاتفق أن بعض غلمان الوزير معين الدين عثمان ابن الشيخ، بني بنياناً على سطح مسجد بمصر، وعمل فيه طبل خانات، فأنكر ذلك الشيخ عز الدين، ومضى بجماعته، وهدم البناء، وعلم أن الوزير والسلطان يغضبان لذلك، فأشهد عليه بإسقاط عدالته، وحكم بفسق الوزير، وعزل نفسه عن القضاء، فعظم ذلك على السّلطان، وقيل له: اعزله عن الخطابة، وإلا شنع عليك على المنبر، كما فعل بدمشق، فعزله، فأقام في بيته من المدرسة الصالحية يشغل الناس”([10]).
4- إنكاره على تسليم قلعة الشقيف للفرنج:
قال في تاريخ الإسلام:
“السنة ثمان وثلاثين وستمائة، تسليم قلعة الشقيف للفرنج، فيها سلم الملك الصالح أبو الخيش إسماعيل قلعة الشقيف إلى الفرنج، فتملكها صاحب صيدا، فأنكر على الصالح الشيخان، عز الدين بن عبد السلام، وأبو عمرو بن الحاجب، فعزل عز الدين عن الخطابة، وحبسهما بالقلعة، وولي الخطابة، وتدريس الغزالية الخطيب العماد داود بن عمر المقدسي خطيب بيت الأبار، ثم أطلقهما بعد مدة، وأمرهما بلزوم بيتهما”([11]).
وجاء أن سلطان العلماء -رحمه الله- أخذ يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين: أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان: هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره عليّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها([12]).
ولله در القائل:
مَن يَهُن يَسْهُلُ الهوان عليه *** ما لِجُرحٍ بميَّتٍ إبلام([13]).
وقال ابن كثير: “ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة فيها سلم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون لصاحب صيدا الفرنجي، فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة، ثم أطلقهما، وألزمهما منازلهما، وولي الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الآبار، ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والإكرام، وولَّاه خطابة القاهرة، وقضاء مصر”([14]).
5- إنكاره على الوزير (معين الدين) بناءه على سطح المسجد قاعة لسماع الغناء والموسيقى:
قال المقريزي: “بني بعض غلمان الصاحب معين الدين، ابن شيخ الشيوخ وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب بناءً، بأمر مخدومه، على سطح مسجد بمصر، وجعل فيه طبلخانة -أي قاعة لسماع الغناء والموسيقى- عماد الدين ابن شيخ الشيوخ، فأنكر ذلك قاضي القضاة عز الدين بن عبد السلام، ومضى بنفسه وأولاده، حتى هدم البناء، ونقل ما على السطح، ثم أشهد قاضي القضاة على نفسه أنه قد أسقط شهادة الوزير معين الدين، وأنه قد عزل نفسه من القضاء، فلما فعل ذلك ولي الملك الصالح عوضه قضاء مصر صدر الدين أبا منصور موهوب ابن عمر بن موهوب بن إبراهيم الجزري الفقيه الشافعي، وكان ينوب عن ابن عبد السلام في الحكم”([15]).
6- إنكاره على السلطان رميه بالبندق:
قال السبكي: “قدم السلطان الملك الكامل من الديار المصرية بعساكره وجحافله وجيوشه إلى دمشق، وحاصر أخاه إسماعيل بدمشق يسيراً، ثم اصطلح معه، وحضر الشيخُ -أي العز- عند السلطان الملك الكامل، فأكرمه غاية الإكرام، وأجلسه على تكرمته، والصالح إسماعيل يشاهد ذلك، وهو واقف على رأسه، فقال الملك الكامل للشيخ: إن هذا له غرام برمي البندق، فهل يجوز له ذلك؟
فقال الشيخ: بل يحرم عليه، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، وقال: إنه يفقأ العين، ويكسر العظم”([16]).
7- إنكاره على من أراد منه تقبيل يد السلطان:
قال السبكي: “وجرت له معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس، وأقام به مدة، ثم جاء الصالح إسماعيل، والملك المنصور صاحب حمص، وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس، يقصدون الديار المصرية، فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله، وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ، وتتلطف به غاية التلطف، وتستنزله وتعده بالعود إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي، فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك، وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فقال له: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ، وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدالكم، فأخذه، واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان”([17]).
8- إنكاره ونصْحه للسلطان وهو على فراش الموت:
قال السبكي: “فقال له -أي للعز- السلطانُ في مثل هذا المرض، وهو على خطر، ونوابه يبيحون فروج النساء، ويدمنون الخمور، ويرتكبون الفجور، ويتنوعون في تمكيس المسلمين: ومن أفضل ما تلقى الله به أن تتقدم بإبطال هذه القاذورات، وبإبطال كل مكس، ودفع كل مظلمة، فتقدم -رحمه الله- للوقت بإبطال ذلك كله، وقال له: جزاك الله عن دينك، وعن نصائحك، وعن المسلمين خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه، وأطلق له ألف دينار مصرية، فردها عليه، وقال: هذه اجتماعة لله، لا أكدرها بشيء من الدنيا، وودع الشيخ السلطان، ومضى إلى البلد، وقد شاع عند الناس صورة المجلس، وتبطيل المنكرات، وباشر الشيخ بنفسه تبطيل بعضها، ثم لم يمض الصالح إسماعيل تبطيل المنكرات؛ لأنه كان المباشر لتدبير الملك والسلطنة يومئذٍ نيابة، والسلطان الملك الأشرف بعد في الحياة، ثم استقل بالملك بعده”([18]).
9- إنكاره على تولية شجرة الدر:
قال السيوطي: “واتفقوا بعد قتل المعظم على تولية شجر الدر أم خليل جارية الملك الصالح، فملكوها، وخطب لها على المنابر، فكان الخطباء يقولون بعد الدعاء للخليفة: واحفظ اللهم الجهة الصالحة ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح، ونقش اسمها على الدينار والدرهم، وكانت تعلم على المناشير وتكتب: والدة خليل، ولم يلِ مصر في الإسلام امرأة قبلها.
ولما توليت تكلَّم الشيخ عز الدين بن عبد السلام في بعض تصانيفه على ما إذا ابتلي المسلمون بولاية امرأة، وأرسل الخليفة المستعصم يعاتبُ أهل مصر في ذلك، ويقول: إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه، فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً”([19]).
10- إنكاره على فكر ابن عربي:
قال الذهبي: “قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في ابن العربي هذا: شيخ سوء، كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجاً، هكذا حدثني شيخنا ابن تيمية الحراني به عن جماعة حدثوه عن شيخنا ابن دقيق العيد أنه سمع الشيخ عز الدين يقول ذلك”([20]).
11- إنكاره على الملك الظاهر بيبرس عندما أراد أن يعين أولاده في مناصبه:
ولما مرض الشيخ العز، وأحس بالموت، أرسل له الملك الظاهر بيبرس أن يعين أولاده في مناصبه وقال: إن يكون ولدك مكانك بعد وفاتك في تدريس الصالحية، فقال العز: ما يصلح لذلك، قال له: فمن أين يعيش؟ قال: من عند الله تعالى، قال له: نجعل له راتباً؟ قال هذا إليكم، ثم أشار إلى تعيين تقي الدين بن بنت الأعز.
والحقيقة أن ولد العز الشيخ عبد اللطيف كن عالماً فقيهاً، يصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده([21]).
12- مشاركته في الجهاد وهو من أعظم أنواع الحسبة:
شارك العز بن عبد السلام بنفسه في قتال الإفرنج، وكانت النصرة أولاً للفرنج، وقويت الريح على المسلمين، فقال الشيخ عز الدين بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح: يا ريح خذيهم، عدة مرار، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج، وصرخ من المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- رجلاً سخر له الريح، وكان ذلك في يوم الأربعاء ثالث المحرم، وأسر الفرنسيس ملك الفرنج، وحبس مقيداً بدار ابن لقمان([22]).
13- إنكاره على بيع السلاح للفرنج:
وقال في السلوك لمعرفة دول الملوك: وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق، وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة، وآلات الحرب، من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ومشي أهل الدين منهم إلى العلماء، واستفتوهم، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج، وقطع من الخطبة بجامع دمشق الدعاء للصالح إسماعيل، وصار ويدعو في الخطبة بدعاء منه: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه معصيتك، والناس يضجون بالدعاء، وكان الصالح غالباً عن دمشق، فكوتب بذلك فورد كتابه بعزل بن عبد السلام عن الخطابة واعتقاله هو والشيخ أبي عمرو بن الحاجب؛ لأنه كان قد أنكر فاعتقلا ثم لما قدم الصالح أفرج عنهما وألزم بن عبد السلام بملازمة داره وألا يفتى ولا يجتمع بأحد البتة فاستأذنه في صلاة الجمعة وأن يعبر إليه طبيب أو مزين إذا احتاج إليهما وأن يعبر الحمام فأذن له في ذلك([23]).
هكذا كانت مواقف العز بن عبد السلام من حكام عصره، ومن منكراتهم، ومنكرات غيرهم، فقد كان في حياته المديدة كلها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، حرباً على الباطل وأهله، عاش أحداث عصره فأثر به، وتفاعل معها، وتأثر بها، فجاهد باليد، كما جاهد بالقلم، واللسان، حتى كُتب اسمه بأحرف من نور، في سجل الخالدين، وترك خلفه مدرسة احتسابية غنية لكل باحث، وسيرة عبقة يقتدي بها الباحثون عن الحق، وأنصار الشرع، والعدالة.
فقد كان يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام، وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر، لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، حتى استحق لقب سلطان العلماء، وبائع الأمراء، واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ مواقف فريدة، فعلا صوت الحق، وعزَّ العلماء، وتمّ تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل، وطاشت سهام السلطة والقوة المادية، أمام سلطان الله تعالى، وأحكامه.
وكان بذلك معرّضاً نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، كما مرّ معنا، وعزل بسبب ذلك، وكان مجاهداً جرئياً، ومناظراً قوياً، ومدافعاً صلباً عن دين الله وشرعه، وحارب البدع، ووقف في وجه الفرق المنحرفة، والآراء الباطلة، والعقائد الضالة.
حتى قال العلامة مصطفى السباعي -بعد أن عرض العصر الذي سبق العز، وسكوت أكثر العلماء عن الجهر بالحق، أو مسايرة الحكام، أو اعتزال الحياة العامة-:
في هذا الوسط المضطرب نشأ العالم العظيم سلطان العلماء، عز الدين بن عبد السلام، فكان وجوده نسمة من نسمات الرجاء، تهبُّ على قلوب اليائسين، وعزمة من عزمات الإيمان، تنبعث في أوساط المتخاذلين، وومضة من ومضات النور تضيء الطريق للمدلجين في دياجير الظلام، وسوطاً من سياط الحق يلهب الله به ظهور المتكبرين والمتجبرين والظالمين، إن العز بن عبد السلام من أعظم علماء الإسلام الذين تهزني دراسة آثارهم، وسيرتهم هزاً عنيفاً([24]).
وقال الأستاذ رضوان علي الندوي: وهناك جانب لشخصيته آخر مشرق، وهو ملكته الأصيلة في فهم الشريعة وروحها ومقاصدها فهماً راسخاً شاملاً عقلياً دقيقاً مبتكراً بعض الابتكار، وهو من السابقين الأول في حركة (التقعيد) في الفقه الإسلامي وتطويره، إلى أن قال في الخاتمة: “انتهينا من البحث في حياة سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام، فرأيناه عالماً جليلاً يدرس ويؤلف ويفتي وقاضياً عدلاً يحكم ويقضي، وعرفناه عالماً مجاهداً يوجه ويرشد ويعترض وينتقد الملوك والأمراء والعامة على السواء، وهو في هذا يتحمل الأذى والمشقة، ويتعرض للخطر والاضطهاد، فلا يبالي ولا يقف ويواصل النشاط، ويدأب على العمل، ويقيم على الحق، ويحاول إقامته في المجتمع حتى قضى، وكان بذلك رجل عصره وموجّه زمانه وقدوة لمن بعده([25]).
من أقواله الاحتسابية
1- قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح، ودرء المفاسد، فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما؛ لقوله -سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن (16)] وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة، درأنا لمفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة”([26]).
2- قال في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف (165)] {نَسُواْ} تركوا {مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر {ظَلَمُواْ} بترك المعروف، وإتيان المنكر([27]).
3- قال: المنكر: كل ما أنكره العقل من الشر، والمعروف: كل ما عرفه العقل من الخير، أو المعروف في كتاب الله كله الإيمان، والمنكر في كتاب الله كله الشرك([28]).
4- وقال في قوله تعالى: {وَيَدْرَؤونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد (22)]
{بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} يدفعون المنكر بالمعروف، أو الشر بالخير، أو سفاهة الجاهل بالحلم، أو الذنب بالتوبة، أو المعصية بالطاعة([29]).
وفاته:
توفي العز في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة بالقاهرة، ودفن بالقرافة الكبرى -رحمه الله تعالى-، وحكي أن شخصاً جاء إليه، وقال له: رأيتك في النوم تنشد:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة *** ورجل رمى فيها الزمان فشُلتِ([30]).
فسكت ساعة، ثم قال: أعيش من العمر ثلاثاً وثمانين سنة، فإن هذا الشعر لكثير عزة، ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سني وهو شيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو شاعر، وأنا سلمي وليس هو بسلمي، لكنه عاش هذا القدر، فكان الأمر كما قاله -رحمه الله-([31]).
([5]) انظر ترجمته في البداية والنهاية (13/ 235) وطبقات الشافعيين (ص: 873) وطبقات الشافعية لابن قاضى شهبة (2/ 109) والأعلام للزركلي (4/ 21) وغيرها.
([11]) تاريخ الإسلام (46/40) والمختصر في أخبار البشر (3/169) وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (2/ 161).