احتساب سعيد بن المسيب رحمه الله
(13 – 94 هـ = 634 – 713 م)
اسمه ونشأته:
هو سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه، والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب، وأقضيته، حتى سمي راوية عمر، تُوفي بالمدينة([1]).
وعن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه: أن أباه جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ما اسمك؟)) قال: حزن، قال: ((أنت سهل)) قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي! قال ابن المسيب: فما زالت الحزونة فينا بعد([2]).
علمه:
سعيد ابن المسيب كان من أعلم التابعين، ومن فقهاء المدينة المشهورين.
قال عنه ابن كثير: “سيد التابعين على الإطلاق”([3]).
وقال عنه الذهبي: “الإمام، العلم، أبو محمد القرشي، المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه”([4]).
وعن سعيد بن إبراهيم، أنه سمع ابن المسيب يقول: ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أبو بكر، ولا عمر مني([5]).
وعن نافع: أن ابن عمر ذكر سعيد بن المسيب، فقال: هو -والله- أحد المفتين.
وقال أحمد بن حنبل وغير واحد: مرسلات سعيد بن المسيب صحاح.
وقال قتادة ومكحول والزهري وآخرون -واللفظ لقتادة-: ما رأيتُ أعلم من سعيد بن المسيب.
وقال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أحداً أوسع علماً من ابن المسيب، هو عندي أجل التابعين.
وقال ابن المسيب: إن كنتُ لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.
وعن حميد بن يعقوب، سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعتُ من عمر كلمة ما بقي أحد سمعها غيري([6]).
وعن قدامة بن موسى، قال: كان ابن المسيب يفتي والصحابة أحياء([7]).
وعن خصيف، قال: كان أعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب([8]).
وعن معمر، قال: سمعتُ الزهري يقول: أدركتُ أربعة بحوراً: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله([9]).
وعن ابن أبي عدي عن محمد قال: لو أن رجلاً دفن مع سعيد بن المسيب لاستخرج منه علماً([10]).
وعن محمد بن يحيى بن حبان، قال: كان المقدم في الفتوى في دهره سعيد بن المسيب، ويقال له: فقيه الفقهاء.
وعن مكحول، قال: سعيد بن المسيب عالم العلماء.
وعن علي بن الحسين، قال: ابن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه.
وعن ميمون بن مهران، قال: أتيتُ المدينة، فسألتُ عن أفقه أهلها، فدفعتُ إلى سعيد بن المسيب([11]).
وعن شهاب بن عباد العصري: حججتُ، فأتينا المدينة، فسألنا عن أعلم أهلها، فقالوا: سعيد([12]).
وعن يحيى بن سعيد قال: كان عبد الله بن عمر إذا سُئل عن الشيء يشكل عليه قال: سلوا سعيد بن المسيب، فإنه قد جالس الصالحين([13]).
وكان عمر بن عبد العزيز لا يقضي بقضية -يعني: وهو أمير المدينة- حتى يسأل سعيد بن المسيب، فأرسل إليه إنساناً يسأله، فدعاه، فجاء، فقال عمر له: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما كان بالمدينة عالم إلا يأتيني بعلمه، وكنت أوتى بما عند سعيد بن المسيب([14]).
وروى سعيد بن المسيب عن عمر كثيراً، فقيل: سمع منه، وعن عثمان، وعلي، وسعيد، وأبي هريرة، وكان زوج ابنته، وأعلم الناس بحديثه، وروى عن جماعة من الصحابة، وحدث عن جماعة من التابعين، وخلق ممن سواهم، قال ابن عمر: كان سعيد أحد المتقنين، وقال الزهري: جالسته سبع حجج، وأنا لا أظن عند أحد علماً غيره، وقال محمد بن إسحاق: عن مكحول قال: طفتُ الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيتُ أعلم من سعيد بن المسيب.
وقال الأوزاعي: سُئل الزهري ومكحول من أفقه من لقيتما؟ قالا: سعيد بن المسيب.
وقال مالك: وبلغني أن ابن عمر كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا عمر وأحكامه، وقال الربيع عن الشافعي أنه قال: إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن.
وقال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، وإذا قال سعيد: مضت السنة فحسبك به، وهو عندي أجل التابعين.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كان سعيد رجلاً صالحاً فقيهاً.
وقال أبو زرعة: كان مدنياً ثقة إماماً.
وقال أبو حاتم: ليس في التابعين أنبل منه، وهو أثبتهم في أبي هريرة([15]).
وكان من أعلم الناس في تفسير الرؤى، قال الواقدي: كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخذته أسماء عن أبيها.
ثم ساق الواقدي له عدة منامات، منها:
عن عمر بن حبيب بن قليع، قال: كنتُ جالساً عند سعيد بن المسيب يوماً، وقد ضاقت بي الأشياء، ورهقني دين، فجاءه رجل، فقال: رأيتُ كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، وبطحته، فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد، قال: ما أنت رأيتها، قال: بلى، قال: لا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزبير رآها، وهو بعثني إليك، قال: لئن صدقت رؤياه، قتله عبد الملك، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة، قال: فرحلتُ إلى عبد الملك بالشام، فأخبرته، فسر، وسألني عن سعيد وعن حاله، فأخبرته، وأمر بقضاء ديني، وأصبت منه خيراً([16]).
وعن مسلم الحناط: قال رجل لابن المسيب: رأيتُ أني أبول في يدي، فقال: اتقِ الله، فإن تحتك ذات محرم، فنظر، فإذا امرأة بينهما رضاع([17]).
وعلى غزارة علمه كان لا يفسر القرآن.
عن يحيى بن سعيد، قال: سُئل سعيد بن المسيب عن آية، فقال سعيد: لا أقول في القرآن شيئاً، قال الذهبي: قلتُ: ولهذا قل ما نقل عنه في التفسير([18]).
قلتُ: ومن بديع استنباطه واستدلاله في فقهه:
ما جاء عن عبد الرحمن بن حرملة، قال: سمعتُ سعيد بن المسيب وسأله رجل، فقال: إني حلفتُ أن لا تدخل امرأتي على أهلها حيناً، فقال: الحين ما بين أن يطلع النخل إلى أن يثمر، وما بين أن يثمر إلى أن يطلع، فقال سعيد: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً} [إبراهيم (24)] إلى قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم (25)]([19]).
وعن عبد الرحمن بن حرملة، أنه سمع رجلاً يسأل سعيد بن المسيب: أتم الصلاة وأصوم في السفر؟ قال: لا، قال: فإني أقوى على ذلك، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقوى منك، كان يقصر الصلاة في السفر، ويفطر([20]).
استغناؤه عن الناس:
مما تميز به سعيد بن المسيب استغناؤه عن الناس، إلى درجة شديدة، قلّ أن تُوجد في أحد غيره؛ ولهذا زهد عن الناس، ورد العطايا، واجتنب السلاطين كثيراً.
وقد كان يتجر حتى لا يحتاج إلى أحد.
فعن إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال: أخبرنا محمد بن هلال عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما من تجارة أحب إليّ من البز ما لم تقع فيه الأيمان([21]).
وعن عطاف بن خالد عن ابن حرملة، قال: أدرك سعيد بن المسيب رجلاً من قريش، ومعه مصباح في ليلة مطيرة، فسلم عليه، وقال: كيف أمسيتَ يا أبا محمد؟ قال: أحمد الله، فلما بلغ الرجل منزله دخل، وقال: نبعث معك بالمصباح، قال: لا حاجة لي بنورك، نور الله أحب إليّ من نورك([22]).
وعن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، قال: كان في رمضان يُؤتى بالأشربة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشراب فيشربه، فإن أُتي من منزله بشراب شربه، وإن لم يؤتَ من منزله بشيء لم يشرب شيئاً حتى ينصرف([23]).
وقال مالك: بلغني أن ابن المسيب لما جلس بعث إليه أهله بطعام صنعوه له، قلما أتي به، قال سعيد: لا أذوقه، انظروا الأقراص الأربعة التي كنت آكلهم بالزيت في البيت، فابعثوا بهن إلي، قال مالك: وكان معه رجل في السجن فبعث إليه أهله بألوان من الطعام، فقال له سعيد: أرأيتَ تريد أن تجلس ها هنا كف هذا عنك([24]).
وعن يحيى بن سعيد، قال: لما حضر سعيد بن المسيب الموت، ترك دنانير، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها حسبي وديني([25]).
وعن إبراهيم بن عبد الله الكناني، قال: زوج سعيد بن المسيب ابنته، فأقبل زوج ابنته يبكي عند موت سعيد، فقال له سعيد: قد أرى الذي بك تقول: يموت سعيد، فيؤخذ بصداق نسائها، اشهدوا أني قد زوجته على درهمين([26]).
عبادته:
سعيد بن المسيب من العباد الكبار المشهورين المتبعين.
قال ميمون بن مهران: بلغني أن سعيد بن المسيب بقي أربعين سنة لم يأتِ المسجد فيجد أهله، قد استقبلوه خارجين من الصلاة([27]).
وعن أبي حازم قال: سمعتُ سعيد بن المسيب يقول: لقد رأيتني ليالي الحرة -الوقعة المشهورة في المدينة- وما في المسجد -أي النبوي- أحد غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زمراً، يقولون: انظروا إلى هذا المجنون.
وما يأتي وقت صلاة إلا سمعتُ أذاناً في القبر -وهذه من كراماته- ثم تقدمتُ، فأقمتُ، وصليتُ، وما في المسجد أحد غيري([28]).
وعن طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: كان سعيد أيام الحرة في المسجد لم يخرج، وكان يصلي معهم الجمعة، ويخرج في الليل، قال: فكنتُ إذا حانت الصلاة أسمع أذاناً يخرج من قبل القبر، حتى أمن الناس([29]).
وعن علي بن زيد أن سعيد بن المسيب وآخر كان لا يسبقهما أحد إلى المسجد، قال: فربما سبقه سعيد، وربما سبق هو سعيد، وقال سعيد: ما استقبلني الناس راجعين من الصلاة منذ أربعين سنة([30]).
قيل له مرة: فتصير إلى منزل بعض إخوانك! قال: فما أصنع بهذا المنادي الذي ينادي في كل يوم خمس مرات؟ والله لا يناديني إلا أتيته([31]).
وعن بشر بن عاصم، قال: قلتُ لسعيد بن المسيب: يا عم، ألا تخرج، فتأكل اليوم مع قومك؟
قال: معاذ الله يا ابن أخي! أدع خمساً وعشرين صلاة خمس صلوات، وقد سمعتُ كعباً، يقول:
وددتُ أن هذا اللبن عاد قطراناً، تتبع قريش أذناب الإبل في هذه الشعاب، إن الشيطان مع الشاذ، وهو من الاثنين أبعد.
وعن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب: أنه اشتكى عينه، فقالوا: لو خرجتَ إلى العقيق، فنظرتَ إلى الخضرة، لوجدت لذلك خفة، قال: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟!
وعن ابن حرملة قلتُ لبرد مولى ابن المسيب: ما صلاة ابن المسيب في بيته؟ قال: ما أدري، إنه ليصلي صلاة كثيرة، إلا أنه يقرأ بـ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص (1)]([32]).
وقال برد مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين إلا وسعيد في المسجد.
وقال ابن إدريس: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة.
وكان يقول -أي ابن المسيب-: ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها إلا بمعصية الله تعالى.
وقال: كفى بالمرء نصرة من الله له أن يرى عدوه يعمل بمعصية الله([33]).
زهده:
كان سعيد بن المسيب من أزهد الناس، ما رُئي مثله في ذلك.
فعن عمران بن عبد الله، قال: كان لسعيد بن المسيب في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً، عطاؤه، وكان يُدعى إليها، فيأبى، ويقول: لا حاجة لي فيها، حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان([34]).
وكان سعيد بن المسيب من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، والكلام فيما لا يعني، ومن أكثر الناس أدباً في الحديث، جاءه رجل وهو مريض فسأله عن حديث، فجلس فحدثه، ثم اضطجع، فقال الرجل: وددتُ أنك لم تتعن، فقال: إني كرهتُ أن أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مضطجع.
وقال سعيد: لا تملؤا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بالإنكار من قلوبكم، لكيلا تحبط أعمالكم
الصالحة.
وكان يقول: من استغنى بالله افتقر الناس إليه.
وقال: الدنيا نذلة، وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها من غير وجهها، ووضعها في غير سبيلها.
وقد زوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين، لكثير بن أبي وداعة، وكانت من أحسن النساء، وأكثرهم أدباً، وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق الزوج، وكان فقيراً، فأرسل إليه بخمسة آلاف، وقيل: بعشرين ألفاً، وقال: استنفق هذه، وقصته في ذلك مشهورة([35]).
سيرته الاحتسابية
سيرة سعيد بن المسيب الاحتسابية شيء عجب، فهي حافلة بالمواقف، مليئة بالعبر، فقد كان -رحمه الله- آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم، قوياً شديداً في دين الله؛ ولهذا قال عنه الإمام مالك كما روى مطرف بن عبد الله، قال: سمعتُ مالكاً يقول: ما كان قلب سعيد بن المسيب إلا من حديد([36]).
ومما يدل على صلابته ومواقفه القوية مع الخلفاء:
ما رُوي عن ميمون بن مهران، قال: قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فامتنعت منه القائلة، واستيقظ، فقال لحاجبه: انظر، هل في المسجد أحد من حداثنا؟ فخرج، فإذا سعيد بن المسيب في حلقته، فقام حيث ينظر إليه، ثم غمزه، وأشار إليه بأصبعه، ثم ولى، فلم يتحرك سعيد، فقال: لا أراه فطن، فجاء، ودنا منه، ثم غمزه، وقال: ألم ترني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ قال: أجب أمير المؤمنين، فقال: إليّ أرسلك؟ قال: لا، ولكن قال: انظر بعض حداثنا، فلم أرى أحداً أهيأ منك، قال: اذهب، فأعلمه أني لست من حداثه، فخرج الحاجب، وهو يقول: ما أرى هذا الشيخ إلا مجنوناً، وذهب، فأخبر عبد الملك، فقال: ذاك سعيد بن المسيب، فدعه([37]).
وعن عمران بن عبد الله بن طلحة الخزاعي، قال: حج عبد الملك بن مروان، فلما قدم المدينة، ووقف على باب المسجد، أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه، فأتاه الرسول، وقال: أجب أمير المؤمنين، واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول، فأخبره، فقال: ارجع، فقل له: إنما أريد أن أكلمك، ولا تحركه، فرجع إليه، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال: لولا أنه تقدم إلي فيك، ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا!
فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك، فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاضٍ، فأتاه، فأخبره، فقال: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة([38]).
ولما استخلف الوليد، قدم المدينة، فدخل المسجد، فرأى شيخاً، قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: سعيد بن المسيب، فلما جلس، أرسل إليه، فأتاه الرسول، فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: لعلك أخطأت باسمي، أو لعله أرسلك إلى غيري، فرد الرسول، فأخبره، فغضب، وهم به، قال: وفي الناس يومئذٍ تقية، فأقبلوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، فقيه المدينة، وشيخ قريش، وصديق أبيك، لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه، فما زالوا به حتى أضرب عنه([39]).
وعمران بن عبد الله الخزاعي، قال: دُعي سعيد بن المسيب للوليد وسليمان بعد أبيهما، فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، فقيل: ادخل واخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس، قال: فجلده مائة، وألبسه المسوح([40]).
وعن المطلب بن السائب بن أبي وداعة، قال: كنتُ جالساً مع سعيد بن المسيب بالسوق، فمر بريد لبني مروان، فقال له سعيد: مِن رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم، قال: فكيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال: تركتهم يجيعون الناس، ويشبعون الكلاب!
قال: فاشرأب الرسول، قال: فلم أزل أناجيه حتى انطلق، ثم أتيتُ سعيداً، فقلتُ: يغفر الله لك مشيك بدمك بالكلمة قلتها، قال: اسكت يا أحمق، فو الله لا يسألني الله بما أخذت بجفوته([41]).
قلتُ: وبسبب هذا المواقف الجريئة منه ضد الولاة، منعوا الناس أن يجلسوا إليه.
فقد جاء عن عبد الله بن القاسم، قال: جلستُ إلى سعيد بن المسيب، وهو وحده، فقال لي: إنه قد نهي عن مجالستي، قال: قلتُ: إني غريب، قال: إنما أردتُ أن أخبرك([42]).
وعن أبي يونس القوي، قال: دخلتُ مسجد المدينة، فإذا سعيد بن المسيب جالس وحده، فقلت: ما شأنه؟ قيل: نهي أن يجالسه أحد([43]).
ولنشر إلى بعض مواقفه في الحسبة، ومنها:
1- إنكاره على الحجاج:
فعن علي بن زيد: أنه قيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج لا يبعث إليك، ولا يحركك، ولا يؤذيك؟
قال: والله ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد، فصلى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى، فحصبته بها، زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد أحسن الصلاة([44]).
2- إنكاره على من مدح عبد الملك بن مروان:
عن عبد العزيز بن عامر شيخ من عاملة من أهل تيماء، قال: حَدَّثَنِي شيخ كان يجالس سعيد بن المسيب، قال: مر به يوماً ابن زمل العذري، ونحن معه، فحصبه سعيد، فجاءه، فقال له سعيد: بلغني أنك مدحتَ هذا، وأشار نحو الشام، يعني عبد الملك، قال: نعم يا أبا محمد، قد مدحته أفتحب أن تسمع القصيدة؟ قال: نعم، اجلس، فأنشده حتى بلغ إلى قوله:
فما عابتك في خلق قريش *** بيثرب حين أنت بها غلام
فقال له سعيد: صدقتَ، ولكنه لما صار إلى الشام بدل.
وعن عبد الأول بن مريد، عن ابن عائشة، قال: أفضي الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره يقرأ فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك([45]).
3- إنكاره على من يعبث بلحيته في الصلاة:
عن معمر، عن أبان قال: رأى ابن المسيب رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: إني لأرى هذا لو خشع قلبه خشعت جوارحه([46]).
4- إنكاره على من يُصغِّر المصحف والمسجد:
عن ابن حرملة، قال: قال سعيد: لا تقولوا: مصيحف، ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم، حسن جميل([47]).
5- إنكاره على خرج مسافراً يوم الجمعة وقت الصلاة:
عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً أتاه يوم الجمعة، وقت الصلاة، وهو يريد سفراً، فقال: جئتُ لأسلم عليك، فقال له: لا تعجل حتى تصلي، فقال: أخاف أن يفوتني أصحابي، فقال له مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يقول: أخشى أن يفوتني أصحابي، فقال: لن يفوتك أصحابك، ثم عجل، حتى خرج قبل الصلاة؛ فكان سعيد يسأل عنه: هل قدم فلان؟ قالوا: لا، حتى قدم قوم فأخبروه أن رجله انكسرت، فقال سعيد: إن كنتُ لأظنه أن سيصيبه ذلك([48]).
6- إنكاره على يقرأ القرآن بالتطريب:
سمع سعيد بن المسيب -رحمه الله- رجلاً يقرأ فيما بين المغرب والعشاء قراءة فيها طرب، فقال للغلام: اذهب إلى هذا المغني، فمره ليحتبس صوته، فذهب فإذا هو عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، فرجع إليه فأخبره، فقال سعيد: دعه، فإنه من خير فتيانهم([49]). أي: بني مروان.
7- إنكاره على من يكثر في السؤال:
عن عمرو بن مرة، قال: رأيتُ رجلاً أحمر من حمدان، يسأل سعيد بن المسيب، فلما أكثر عليه قال: من أمك؟ من أمك؟ قال: فاستحيا الرجل وطأطأ رأسه، فقال سعيد: هات حاجتك، هات حاجتك([50]).
8- إنكاره على الخروج من المسجد وقت الصلاة:
دخل أعرابي المسجد، وأذن المؤذن، فقام يحل عقال ناقته ليخرج، فنهاه سعيد بن المسيب، فلم ينته، فما سارت به غير يسير، حتى رقصت به، فأصيب في جسده، فقال سعيد: قد بلغنا أنه خرج من بين الأذان والإقامة لغير الوضوء أنه يُصاب([51]).
9- إنكاره على نوع من البيوع:
عن يحيى بن سعيد، أنه سمع جميل بن عبد الرحمن المؤذن يقول لسعيد بن المسيب: إني رجل أبتاع من الأرزاق التي يعطى الناس بالجار، ما شاء الله، ثم أريد أن أبيع الطعام المضمون علي إلى أجل، فقال سعيد: أتريد أن توفيهم من تلك الأرزاق التي ابتعت؟! فقال: نعم، فنهاه عن ذلك([52]).
10- إنكاره على من يشغله عن العبادة:
عن مالك، قال: كان سعيد بن المسيب رجلاً يصوم، فدخل عليه رجل، وهو يأكل خبزاً وسلقاً، فقال له: تعال فكل، قال: فسأله الرجل عن شيء، قال: ما لك ظننت أنه من أمر القضاء، فقال له سعيد: أراك أحمق، اذهب إلى القاضي الذي أجلس لهذا، أتراني أني كنت أشغل نفسي بهذا؟ أو قال: بك([53]).
11- إنكاره على قارئ:
وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز كان حسن الصوت بالقرآن، قال: فخرج يوماً وقرأ، وجهر بصوته، فاجتمع الناس له، فقال له سعيد بن المسيب: فتنت الناس، قال: فدخل([54]).
وعن معمر قال: كان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت، فخرج ليلة يصلي في المسجد، فجهر بصوته، فاجتمع الناس، فأرسل إليه سعيد بن المسيب: “فتنت الناس” فلم يعد لذلك([55]).
12- إنكاره على من يتطوع بعد الفجر:
عن الثوري، عن أبي رياح، عن ابن المسيب، أنه رأى رجلاً يكرر الركوع، بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة([56]).
وعن عمرو بن مرة، قال: رآني سعيد بن المسيب وأنا أصلي بعض ما فاتني من صلاة الليل بعد ما طلع الفجر، فقال: أما علمتَ أن الصلاة تكره هذه الساعة، إلا ركعتين قبل صلاة الفجر([57]).
13- إنكاره على من أمر بتوجيهه إلى القبلة:
عن معمر، والثوري، عن إسماعيل بن أمية، أن رجلاً دخل على ابن المسيب، وهو شاكٍ، مستلق، فقال: وجهوه للقبلة، فغضب سعيد، وقال: أولست إلى القبلة؟([58])
وفي السير: اشتد وجع سعيد بن المسيب، فدخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأغمي عليه، فقال نافع: وجهوه، ففعلوا، فأفاق، فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة، أنافع؟ قال: نعم،
قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي([59]).
وعن ابن أبي ذئب: عن أخيه المغيرة: أنه دخل مع أبيه على سعيد، وقد أغمي عليه، فوجه إلى القبلة، فلما أفاق، قال: من صنع بي هذا؟ ألستُ امرأً مسلماً؟ وجهي إلى الله حيث ما كنتُ([60]).
14- إنكاره على رفع الصوت بعد الجنائز:
عن الثوري، عن عبد الرحمن بن حرملة قال: كنتُ مع ابن المسيب في جنازة، فسمع رجلاً يقول: استغفروا الله، فقال: ما يقول راجزهم هذا؟ قد حرَّجتُ على أهلي أن يرجز معي راجزهم هذا، وأن يقول: مات سعيد بن المسيب، فأشهدوه، حسبي من يقلبني إلى ربي، وأن يمشوا معي بمجمرة، فإن يكن لي عند ربي خير فما عبد الله أطيب من طيبكم([61]).
15- إنكاره على من أساء صلاته:
عن قرة، عن الحسن، قال: رأى سعيد بن المسيب رجلاً يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده، فحصبه وقال: أعلقت صلاتك؟!([62]).
16- إنكاره على لُعب العاج:
عن عمران بن محمد بن سعيد بن المسيب، حدثتني غنيمة جارية سعيد: أنه كان لا يأذن لبنته في لعب العاج، ويرخص لها في الكبر -تعني: الطبل-([63]).
17- إنكاره على مولاه (برد):
عن مالك، قال: قال برد مولى ابن المسيب لسعيد بن المسيب: ما رأيتُ أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر، فقال: ويحك يا برد! أما والله ما هي بالعبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله([64]).
18- إنكاره على من يسب الصحابة:
عن علي بن زيد، قال: قال لي سعيد بن المسيب: قل لقائدك يقوم، فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فقام، وجاء، فقال: رأيتُ وجه زنجي، وجسده أبيض، فقال سعيد: إن هذا سب هؤلاء: طلحة، والزبير، وعلياً -رضي الله عنهم- فنهيته، فأبى، فدعوت الله عليه، قلتُ: إن كنت كاذباُ فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة، فأسودّ وجهه([65]).
19- إنكاره على البيعة دون الناس:
عن الواقدي: حدثنا عبد الله بن جعفر، وغيره من أصحابنا، قالوا: استعمل ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، ويقول: ما لنا ولسعيد، دعه([66]).
20- إنكاره على جابر بن الأسود:
عن عبد الواحد بن أبي عون، قال: كان جابر بن الأسود -عامل ابن الزبير على المدينة- قد تزوج الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، فلما ضرب سعيد بن المسيب، صاح به سعيد والسياط تأخذه: والله ما ربعت على كتاب الله، وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال، فاصنع ما بدا لك، فسوف يأتيك ما تكره، فما مكث إلا يسيراً، حتى قتل ابن الزبير([67]).
21- إنكاره على من طلب منه الدعاء على بني أمية:
عن قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن رجل من آل عمر، قال: قلتُ لسعيد بن المسيب: ادعُ على بني أمية، قال: اللهم أعز دينك، وأظهر أولياءك، واخز أعداءك في عافية لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-([68]).
22- إنكاره على رجل:
عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن أبيه قال: أخبرتُ أن سعيد بن المسيب رأى رجلاً من أهل المدينة بمكة، فقال: ارجع إلى المدينة، فقال الرجل: إنما جئتُ أطلب العلم، فقال سعيد بن المسيب: أما إذا أبيتَ، فإنا كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت، حتى يكون عنده بمنزله الحل؛ لما يستحل من حرمتها([69]).
وعن سعيد بن حماد بن عثمان، عن أبي سليمان قال: قال لي سعيد بن المسيب: لا تسكن مكة، وكان عثمان رجلاً جميلاً، قال: فظننتُ أنه يريد ذلك، فقلتُ: يا أبا محمد، إني لأرجو أن يدفع الله عني، قال: لستُ أعني ذلك، ولكن إذا سكنتَ في الحرم، أوشكتَ أن تعمل فيه ما يعمل في الحل، إذا طال عليك، والخطأ فيه أكثر([70]).
23- إنكاره على من يتوضأ من أثر طين الشوارع:
عن قتادة قال: خرجنا يوماً مع ابن المسيب إلى مسجد، وكانت الأرض مطرت، ففيها ردغ، فلما أتينا باب المسجد غسل رجل من القوم رجليه، فقال له ابن المسيب: أما كنتَ توضأتَ في رحلك؟! قال: بلى، ولكنا مررنا في هذا الرزغ، قال: ليس عليكم وضوء([71]).
24- إنكاره على هبة الرجل المرأة لغيره:
عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط قال: كنتُ عند ابن المسيب، إذ سُئل عن رجل بشر بجارية، فقال له بعض القوم: هبها لي فوهبها له، فقال له ابن المسيب: لا تحل الهبة لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو أصدقها سوطاً لحلت له([72]).
25- إنكاره على من يرفع صوته بالدعاء:
عن عبد الله بن شبيب، قال: صليتُ إلى جنب سعيد بن المسيب، فلما جلستُ في الركعة الثانية، رفعتُ صوتي بالدعاء، فانتهرني، فلما انصرفتُ، قلتُ له: ما كرهتَ مني؟، قال: ظننتَ أن الله ليس بقريب منك!([73]).
26- إنكاره على من يتعنت في السؤال:
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: قلتُ لسعيد بن المسيب: كم في هذه من المرأة الخنصر؟ فقال: عشر من الإبل، قال: قلتُ: في هذين -يعني الخنصر- والتي تليها، فقال: عشرون، قال: قلتُ: ففي هؤلاء -يعني الثلاثة- قال: ثلاثون، قال: قلتُ: ففي هؤلاء وأومأ إلى الأربع، قال: عشرون، قال: قلتُ: حين آلمت جراحها، وعظمت مصيبتها كان الأقل لأرشها؟!
قال: أعراقي أنت؟! قال: قلتُ: عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال: يا ابن أخي السنة([74]).
آراؤه الاحتسابية
1- عن عبد الرحمن بن حرملة أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدتُ رجلاً سكران أفتراه يسعني ألا أرفعه إلى السلطان؟ فقال له سعيد: إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره([75]).
2- وعن عطاف بن خالد عن ابن حرملة، قال: خرجتُ إلى الصبح، فوجدتُ سكران، فلم أزل أجره حتى أدخلته منزلي، قال: فلقيتُ سعيد بن المسيب، فقلتُ: لو أن رجلاً وجد سكران أيدفعه إلى السلطان فيقيم عليه الحد؟ قال: فقال لي: إن استطعت أن تستره بثوبك فافعل، قال: فرجعتُ إلى البيت، فإذا الرجل قد أفاق، فلما رآني عرفت فيه الحياء، فقلتُ: أما تستحيي؟ لو أخذتَ البارحة لحددت، فكنتَ في الناس مثل الميت، لا تجوز لك شهادة، فقال: والله لا أعود له أبداً، قال ابن حرملة: فرأيتُه قد حسنت حاله بعد([76]).
ختاماً:
فهذا هو أبو محمد، سيد التابعين، لله دره، لقد كان آية في الحسبة، وآية في الصدع بالحق، لا تأخذه في الحق لومه لائم، وكان -رحمه الله تعالى- رجلاً وقوراً، له هيبة عند مجالسيه، فكان يغلب عليه الجد، ولو نظرت إليه لَخُيِّلَ إليك أنك أمام رجل ممسك بموازين الحق والعدل بين يديه، قد تكفل بحراستها، والقيام عليها، مدرك لمدى مسئولية الأمانة التي تحملها، فلا يجامل، ولا يغمض عينيه عن شيء لا يراه صحيحاً، فيعلن إنكاره له، غير مبال بما يجره عليه ذلك من أذى، ومن أجل ذلك كانت علاقته بالولاة والحكام علاقة يشوبها التوتر والتربص؛ لأنه -رحمه الله تعالى- كان لا تأخذه في الحق لومه لائم، إن وقوف سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى- عند الحق وثباته عليه، مهما كانت الظروف، أمر مشهور وذائع، مما زان تاريخ العلماء العاملين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ويؤدون حق الله والأمة، فيما أوتوا من العلم، وأمانة الأسوة،
وقد تجلت هذه القاعدة في حياة سيد التابعين في أكثر من موقف، ونطق بها لسان حاله في كل لحظة من لحظات أيام عمره المباركة، فكان الواثق بالله الذي لا يحابى في الحق أحداً، ولا يرده ما يتمخض عن ذلك المنهج من تبعات، فهانت عليه نفسه في الله، كما قال عمران بن عبد الله: “أرى نفس سعيد بن المسيب كانت أهون عليه في ذات الله من نفس ذباب”([77])، ([78]).
رُوي أنه دخل يوماً مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل يلتفت في أركان المسجد يتفكر فيمن أدرك من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بكى، وجعل يقول:
ألا ذهب الحماة واسلموني *** فوا اسفاً على فقد الحماةِ
تولوا للقبور فاسقموني *** فوا اسفاً على فقد الثقاةِ
فأجابه هاتف من ركن المسجد بصوت محزون من كبد مشجون، وهو يقول:
فدع عنك الثقاة فقد تولوا *** ونفسك فابكها حين المماتِ
فكل جماعة لا بد يوماً *** يفرق بينهم وقع الشتاتِ
فقال سعيد: من أنت فقد زدتني حزناً؟! فقال: أنا من مؤمني الجن، كنا في هذا المسجد سبعين رجلاً، فأتى الموت على جماعتنا، كما أتى على جماعتك، ولم يبقَ منهم غيري، كما لم يبقَ من الإنس غيرك، وإنا بهم لاحقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون([79]).
من كراماته -رحمه الله-:
أنه كان مجاب الدعوة، ظهر ذلك في مواقف كثيرة مشهورة، مرَّ معنا شيء منها.
ومنها: أن الله تعالى كان ينتقم له من أعدائه:
فقد روى أبو إسحاق قال: قال الرجل لآخر: تقول سعيد حجة؟! فقال الشيخ: يا متعوس، أمام دار الهجرة، وشيخ التابعين، تقول هذا فيه؟! ما أراك تفلح والله، ما أراك تموت على الإسلام، ومات معتزلياً بعد ذلك([80]).
وعن ليث، عن خالد بن سعيد بن المسيب، قال سعيد: دخلتُ المسجد وأنا أرى أني قد أصبحتُ، وإذا عليّ ليل طويل، فإذا ليس فيه أحد غيري، فقمتُ فسمعتُ حركة خلفي ففزعتُ، فقال: أيها الممتلئ قلبه فرقاً، لا تفرق، ولا تفزع، وقل: اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون، ثم سل ما بدا لك، قال سعيد: فما سألتُ الله شيئاً إلا استجاب لي([81]). رحمك الله يا أبا محمد!